- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 3818
لماذا تنحاز الصين ضد إسرائيل ولماذا سيأتي ذلك على الأرجح بنتائج عكسية؟
إن رد بكين الحاد المعادي لإسرائيل على الصراع في غزة، والناتج عن تركيزها المتزايد على تحدي واشنطن، يكشف حدود نفوذها الدبلوماسي في الشرق الأوسط والتوترات الأوسع نطاقاً في استراتيجية سياستها الخارجية.
عند انتشار الأخبار عن الهجوم التي شنته "حماس" على إسرائيل في الشهر الماضي، برز صمت بكين بوضوح وسط ضجيج التصريحات الدولية. وعندما تناولت الحكومة الصينية النزاع أخيراً في مؤتمر صحفي في اليوم التالي، كانت عباراتها جديرة بالملاحظة لعدم حملها أي معنى لافت. فقد أعرب متحدث باسم وزارة الخارجية لم يُذكر اسمه عن "قلق بالغ"، ودعا "الأطراف المعنية إلى التزام الهدوء وضبط النفس وإنهاء الأعمال العدائية على الفور"، وأعرب عن أسفه "للجمود الذي طال أمده في عملية السلام" - وهو مسعى دبلوماسي لم تُظهر فيه بكين قط سوى اهتمام عابر. وكانت الصياغة شبه متطابقة مع ردود أفعال الصين خلال نزاعات غزة الماضية، على الرغم من أن الظروف كانت مختلفة اختلافاً جذرياً. وبما أن هذه التصريحات الموجزة فشلت في إدانة "حماس" أو حتى الاعتراف بحجم الفظائع التي وقعت في السابع من تشرين الأول/أكتوبر، فقد فسرها المعلقون الإسرائيليون على أنها معادية وليست محايدة.
وسرعان ما أكدت بكين هذا التفسير. ففي 14 تشرين الأول/أكتوبر، أكد وزير الخارجية وانغ يي أن تصرفات إسرائيل "تتجاوز نطاق الدفاع عن النفس"، وطالبها بالتوقف عن فرض "عقاب جماعي" على الفلسطينيين، رافضاً مع ذلك إدانة "حماس". (للاطلاع على القائمة الكاملة لتصريحات بكين الرسمية بشأن الصراع، راجع متتبع البيانات التابع لمعهد واشنطن). وبالمثل، عرضت وسائل الإعلام الصينية الحرب باعتبارها عدواناً إسرائيلياً - وعلى الرغم من خضوعها لرقابة شديدة، إلا أن تقاريرها المبكرة كانت مليئة بالتعليقات المعادية للسامية والمعادية لإسرائيل والتي تزعم أن "حماس" كانت تدافع عن حل الدولتين، على الرغم من أن العمليات الماضية والحالية التي قامت بها الحركة تهدف بشكل واضح إلى تدمير دولة إسرائيل. وتجدر الإشارة إلى أن اللهجة الحادة المستخدمة في التعليقات الصينية على الإنترنت خفتت في الفترة التي سبقت اجتماع الرئيس شي جين بينغ في 15 تشرين الثاني/نوفمبر مع الرئيس بايدن، مما يؤكد تأثير الحكومة الراسخ على مثل هذه الرسائل.
ويشكل هذا النهج خروجاً صارخاً عن جمود بكين في الماضي تجاه النزاعات في الشرق الأوسط، والتي سعى المسؤولون الصينيون عادةً إلى تجنب التورط فيها. بل إنه يعكس ميلاً جديداً لدى الحكومة إلى استغلال النزاعات البعيدة كفرص لتقويض الولايات المتحدة وتسجيل النقاط في "الجنوب العالمي". ولكنه قد يحمل أيضاً عواقب على المدى الطويل بالنسبة للصين، وخاصة فيما يتعلق بالجهود التي بذلتها الحكومة على مدى ثلاثة عقود لتحسين العلاقات مع إسرائيل. بالإضافة إلى ذلك، فإن استغلال الأزمة الحالية لتوجيه انتقادات متسرعة إلى واشنطن قد يحد من قدرة بكين على إظهار الحياد في النزاعات الإقليمية الأخرى.
تتبع الأموال؟
لطالما كان موقف الصين تجاه إسرائيل نتاج استراتيجيتها الجيوسياسية المتغيرة. فخلال عهد ماو، كانت بكين الراعي الأول لـ "منظمة التحرير الفلسطينية"، معتبرةً نضالها أحد جوانب النضال الأوسع نطاقاً ضد "الإمبريالية الغربية". ولكن عندما بدأت الصين تركز بشكل أكبر على التنمية الاقتصادية في عهد خليفة ماو، تراجع دعمها لـ "منظمة التحرير الفلسطينية" وبدأت علاقتها مع إسرائيل بالازدهار - في البداية من خلال مبيعات الأسلحة والتعاون الأمني، ثم لاحقاً من خلال إعادة العلاقات الدبلوماسية الرسمية في عام 1992. واستمرت هذه العلاقة بالتطور حتى القرن الحالي، مع توقيع الدولتين على "شراكة الابتكار الشاملة" في عام 2017، حيث أصبحت الصين أكبر شريك تجاري لإسرائيل.
وفي حين أن موقف بكين بشأن النزاع الفلسطيني لم يصبح مؤيداً تماماً لإسرائيل خلال هذه الفترة، إلا أنه لم يكن محل اعتراض بالنسبة للقدس. فقد كانت هناك تجزئة مقبولة يسعى بموجبها كلا البلدين إلى إقامة علاقات اقتصادية وأكاديمية وعلمية وغيرها من العلاقات، حتى مع استمرار الصين في الميل نحو الفلسطينيين سياسياً. على سبيل المثال، على الرغم من انتقاد إسرائيل لبنائها "الجدار العازل" في الضفة الغربية، وإدانة غارتها على أسطول غزة عام 2010، والتصويت لصالح تحقيق الأمم المتحدة في جرائم الحرب بعد نزاع غزة عام 2014، إلّا أن بكين لم تتخذ سوى القليل من المبادرات الفعلية بشأن هذه الأمور، مفضلةً الاندماج مع الحشد الدولي. وحتى عندما أصدر الرئيس شي خطته ذات "النقاط الأربع" بشأن السلام الإسرائيلي الفلسطيني في عام 2017، بدا أنها مصممة لتسليط الضوء على طموحات الصين كقوة عظمى أكثر من معالجة النزاع بشكل جوهري. وكما أشار العديد من الخبراء الإسرائيليين، فإن محادثات السلام السنوية التي استضافها وانغ يي فيما بعد منحت الصين فرصة مراكمة رأس المال السياسي، إلا أن المشاركين الإسرائيليين والفلسطينيين لم يلمسوا أي منافع فعلية في المقابل.
وفيما يتعلق بغزة، اتبعت تصريحات بكين نصاً مألوفاً كلما اندلع القتال هناك في الماضي، حيث دعت "جميع الأطراف" إلى ممارسة ضبط النفس، وتجنب العنف، والسماح بوصول المساعدات الإنسانية إلى المدنيين، والعودة إلى طاولة المفاوضات بشأن اتفاق الدولتين (على الرغم من أنه غالباً ما تتم إضافة عبارة "وخاصة إسرائيل" إلى هذه العظظ). وبدا أنه تمت معايرة هذه المقاربة بدقة لتجنب خسارة الدعم العربي مع الحفاظ على علاقات اقتصادية وثيقة مع إسرائيل.
وفي الواقع، يمكن تحديد الأولويات الحقيقية للصين بسهولة أكبر من خلال متابعة الأموال - ففي عام 2014، استثمرت الصين 4 مليارات دولار في إسرائيل ولكنها قدمت للفلسطينيين مساعدات بقيمة مليون دولار فقط (على سبيل المقارنة، قدمت اليابان 200 مليون دولار كمساعدات للفلسطينيين في ذلك العام). وفي العقد الذي مضى منذ ذلك الحين، تضاعفت التجارة بين الصين وإسرائيل من 11 مليار دولار إلى أكثر من 23 مليار دولار.
السياسة الإقليمية بمثابة سلاح ضد واشنطن
على الرغم من توطيد الصين لعلاقاتها مع إسرائيل، إلّا أن علاقاتها مع الولايات المتحدة أصبحت فاترة، بينما عُلِّقت القدس في الوسط. وقد أصبحت واشنطن قلقة بشكل خاص من افتقار إسرائيل الواضح إلى استراتيجية تجاه (أو حتى الفهم الكامل لـ) النوايا الصينية العالمية في الوقت الذي أصبحت فيه بكين وبسرعة مستثمراً رئيسياً في قطاع التكنولوجيا الإسرائيلي، وبالتالي تمكنت من الوصول إلى الابتكارات المتطورة في مجال التكنولوجيا الحيوية، والذكاء الاصطناعي، وغيرها من القطاعات الناشئة التي تغطيها استراتيجية "صُنع في الصين 2025". وعندما فازت "مجموعة موانئ شنغهاي العالمية" المملوكة للدولة بمناقصة في عام 2015 لتشغيل محطة جديدة في حيفا، حيث كانت سفن البحرية الأمريكية ترسو منذ فترة طويلة، أثار الغضب الناتج في واشنطن زيادة كبيرة في التنسيق الأمريكي الإسرائيلي بشأن السياسة تجاه الصين، بما في ذلك عملية جديدة لإخضاع استثماراتها للمراجعات الأمنية. وفي وقت لاحق، تراجعت الاستثمارات الصينية في إسرائيل، ويرجع ذلك جزئياً إلى هذا التحول في السياسة وجزئياً بسبب التغير في الحسابات الاقتصادية لبكين.
ويبدو أن التركيز المتزايد على المنافسة مع الولايات المتحدة يؤثر أيضاً على استراتيجية الصين في التعامل مع النزاع الإسرائيلي الفلسطيني. فخلال جولة القتال في غزة في أيار/مايو 2021، ابتعدت بكين عن نهجها القائم منذ فترة طويلة والمتمثل بعدم التحيز، مستغلةً منصبها كرئيس دوري لمجلس الأمن الدولي من أجل انتقاد الولايات المتحدة على خلفية دعمها لإسرائيل وتجاهلها الافتراضي لمعاناة المسلمين (دون أي أثر للتهكم بشأن معاملتها لمسلمي الأويغور في شينجيانغ). كما أعلن متحدث باسم الحكومة أن الولايات المتحدة "معزولة في مجلس الأمن على نحو غير مسبوق" وأنها "تقف على الجانب الآخر من ضمير البشرية وأخلاقها". ومع استمرار النزاع، عرضت الصين قرارات لمجلس الأمن الدولي تطالب بوقف إطلاق النار (باعتراض الولايات المتحدة على كل منها) ووصفت الإجراءات الإسرائيلية في غزة بأنها انتهاكات للقانون الدولي. ورداً على ذلك، صوتت إسرائيل لصالح قرار لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة ينتقد معاملة الصين للأويغور.
وأنذرت هذه الديناميكيات بموقف بكين من الغزو الروسي لأوكرانيا، حيث مارست الصين بشكل أساسي "حياداً مؤيداً لروسيا" من خلال تقديم خطط سلام واهية، وإلقاء اللوم في النزاع على حلف شمال الأطلسي، ورفض إدانة تصرفات موسكو. وعلى غرار إسرائيل، كانت أوكرانيا تتمتع في السابق بعلاقات ودية ومربحة مع الصين. ومع ذلك، حالما غزت روسيا أوكرانيا، عكس موقف بكين نهجها في الحرب الحالية في غزة - فقد استخدمت الهجوم على حليف للولايات المتحدة كفرصة لاتهام واشنطن بتأجيج عدم الاستقرار والعنف بينما تُصور نفسها في الوقت نفسه على أنها صانعة السلام.
ومن خلال اتخاذها هذا الموقف بشكل متكرر، سعت الصين على الأرجح إلى الاستفادة من ميل "الجنوب العالمي" إلى النظر إلى السياسة الأمريكية بعين الشك وقبول السردية التي تقدمها بكين وموسكو (وإيران) - على وجه التحديد، أن ما تصفه واشنطن بـ "منافسة القوى العظمى" هو في الواقع جهد خلفي للحفاظ على الأولوية العالمية للولايات المتحدة على حساب السكان المحليين. وقد لخصت وزارة الخارجية الصينية هذه الحجة جيداً خلال نزاع غزة في أيار/مايو 2021، مدّعيةً أن "الصين تتمسك بالإنصاف والعدالة الدوليين" في حين أن الولايات المتحدة "لا تهتم إلا بمصالحها". وكبديل عن النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة، تروّج بكين أيضاً لما يسمى بـ "مبادرة الأمن العالمي"، التي تم الكشف عنها رسمياً في العام الماضي.
توصيات في مجال السياسة العامة
إذا كانت المنافسة بين الولايات المتحدة والصين عبارة عن مسابقة شعبية تجري في الجمعية العامة للأمم المتحدة، فستكون استراتيجية بكين رابحة. ولكن تحولها نحو سياسات القوى العظمى التقليدية الصارمة يسلط الضوء في الواقع على معضلات سياستها الخارجية.
أولاً وقبل كل شيء، لا يزال النفوذ الدبلوماسي الفعلي لبكين في الشرق الأوسط محدوداً. وعلى الرغم من التشكيك الصريح في المنطقة تجاه سياسة الولايات المتحدة، فقد تمكنت واشنطن منذ فترة طويلة من العمل كوسيط نزيه في أزمات الشرق الأوسط بما أنها تستوفي شرطين أساسيين، هما: تمتعها بعلاقات وثيقة (وإن لم تكن دافئة دائماً) مع معظم الأطراف الرئيسية في المنطقة، واستعدادها لتكبد التكاليف (سواء كانت اقتصادية أم عسكرية) من أجل إحداث التغيير والمحافظة على النتائج التي يتم تحقيقها هناك. ولا ينطبق أي من ذلك على الصين، التي فشلت في اكتساب نفوذ دبلوماسي كبير على أي دولة في الشرق الأوسط (حتى إيران) أو إبداء أي استعداد لبذل الدماء والأموال سعياً لتحقيق أهدافها هناك. وينطبق الأمر ذاته على أزمة اليوم - وعلى الرغم من الخطاب الساخن لبكين بشأن غزة، إلّا أنها لم تظهر بنفسها أي قدرة على لعب دور دبلوماسي ذي معنى، ناهيك عن التأثير على موقف شركائها في إيران، الذين زادوا من تأجيج الصراع الذي تسعى الصين صراحة إلى إنهائه. بالإضافة إلى ذلك، يبدو أن بكين لا تفهم جيداً أن شركاء واشنطن العرب - مهما كان خطابهم العلني - لا يريدون نتيجة تؤدي إلى اكتساب وكلاء إيران مثل "حماس" نفوذاً أو تعريض الأمن القومي الإسرائيلي للخطر.
باختصار، لم تشكل الصين بعد لاعباً دبلوماسياً جاداً في الشرق الأوسط، على عكس الولايات المتحدة، التي تعتبرها الدول العربية عنصراً لا غنى عنه لحل النزاع الإسرائيلي الفلسطيني حتى لو كانت تختلف مع السياسة الأمريكية بشأن هذه القضية. وفي الأزمة الحالية، من غير المرجح أن تكتسب الصين دوراً دبلوماسياً مهماً في التأثير على النزاع أو عواقبه ما لم يقدم المسؤولون الأمريكيون لبكين مقعداً على الطاولة - وهو أمر لا ينبغي عليهم أخذه في الاعتبار إلا إذا كانت الصين مستعدة لكسب هذا المقعد من خلال اتباعها سياسات بناءة. ومع ذلك، لا ينبغي لواشنطن أن تقدم مثل هذا العرض بناءً فقط على الأمل العقيم بأنه سيخفف من التوترات الثنائية الأوسع نطاقاً.
وتوضح أزمة غزة أيضاً حدود نهج "أصدقاء مع الجميع" الذي تتبناه الصين في التعامل مع الدبلوماسية. فقد سعت بكين في السابق إلى تجنب الانحياز إلى أي طرف في النزاعات التي لم تكن متورطة فيها بشكل مباشر، مفضلةً السعي إلى تحقيق مصالحها التجارية واكتساب المزيد من النفوذ، مع التخلي عن الشراكات الأمنية التي تفضلها الولايات المتحدة وأوروبا. ولكن في الآونة الأخيرة، بدا أنها تنظر إلى مثل هذه النزاعات على أنها فرص لتحويل الضغط الدبلوماسي والرأي العام الدوليين ضد واشنطن - وهي المقاربة التي أرغمتها بشكل أساسي على الانحياز ضد حلفاء الولايات المتحدة مثل إسرائيل وأوكرانيا، وربما تُولد استياء طويل الأمد في كلا البلدين وربما تؤدي إلى التراجع عن عقود من بناء العلاقات. ومن المؤكد أن زعماء المنطقة الآخرين سوف يلاحظون السهولة الواضحة التي تجاهلت بها الصين هذه العلاقات لمجرد تسجيل نقاط ضد الغرب، حتى لو كانوا يشاركون بكين وجهات نظرها بشأن غزة. وفي الواقع، يجب على واشنطن أن تُدرج هذه العبرة التحذيرية بين الصين وإسرائيل في دبلوماسيتها الإقليمية طويلة المدى، كدليل إضافي على السبب الذي يتعين على الشركاء أن يحذروا من الاعتماد على بكين أو الوثوق ببدائلها المفترضة عن النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة.
مايكل سينغ هو زميل أقدم في زمالة "لين- سويغ" والمدير الإداري لمعهد واشنطن، والمدير المؤقت لـ "برنامج مؤسسة دايين وغيلفورد غليزر" التابع للمعهد حول "منافسة القوى العظمى والشرق الأوسط".