- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
على الرغم من كل ما تغير، "حماس" لا تزال "حماس"
Also published in "مطبعة جامعة ييل"
بعد مرور عقدين من الزمن على إجراء دراسة تاريخية عن "حماس"، فمن الواضح أن قادة الحركة لم ينحرفوا قط عن مبدأهم الأساسي المتمثل في إعطاء الأولوية لتدمير إسرائيل على حساب رفاهة إخوانهم الفلسطينيين.
على مدى السنوات الثماني عشرة الماضية، منذ أن صدر كتابي "«حماس»: السياسة والإحسان والإرهاب في خدمة الجهاد"، شهدت "حماس" تغييراً كبيراً - ولكن ليس من النواحي التي توقعها كثير من الناس. وفي حين رأى البعض أن المشاركة في السياسة الوطنية الفلسطينية أو حكم قطاع غزة من شأنه أن يخفف، أو على الأقل يقيّد، ميل "حماس" إلى العنف، إلا أن ذلك لم يتحقق فعلياً. فقد أثبتت مجزرة 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، بأكثر الطرق همجية ووحشية، أن الحركة أعطت الأولوية في نهاية المطاف لتدمير إسرائيل وإقامة دولة فلسطينية إسلامية مكانها على حساب مشروع الحكم في غزة، أو المصالحة الوطنية الفلسطينية، أو إنهاء الصراع الإسرائيلي الفلسطيني من خلال حل الدولتين.
وفي السنوات التي أعقبت صدور كتابي، شهدت "حماس" حدثَين تحويليَين. جاء الحدث الفاصل الأول بالنسبة للحركة في أعقاب قرارها المشاركة في الانتخابات الوطنية الفلسطينية في عام 2006، مما أدى إلى فوزها بـ74 مقعداً من أصل 132، وقيادتها حكومة وحدة وطنية مع "فتح" في النهاية. وجاء ذلك بعد انسحاب جميع المستوطنين والقوات العسكرية الإسرائيلية من قطاع غزة في آب/أغسطس 2005. وتوقع البعض أنه من خلال مصالحة "حماس" مع خصومها السياسيين الفلسطينيين في "فتح"، ستصبح أكثر استجابة لمؤيديها وستصبح في النهاية حركة أكثر اعتدالاً، إلا أن ذلك لم يحدث. وفي الواقع، في حزيران/يونيو 2006، تسلل نشطاؤها إلى إسرائيل عبر الأنفاق التي تم حفرها من غزة، ونصبوا كميناً لدورية حدودية إسرائيلية، مما أسفر عن مقتل جنديين وإصابة اثنين آخرين، واختطفوا الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط. وأسرت "حماس" شاليط لمدة خمس سنوات، وحرّرته مقابل إطلاق سراح 1027 فلسطينياً في السجون الإسرائيلية.
ولم تتمكن "حماس" و"فتح" قط من التوفيق بين رؤاهما السياسية، ونتيجة لذلك، لم تدم التجربة السياسية التي تمثلت في حكومة الوحدة الوطنية بقيادة "حماس". فقد سعت "فتح" إلى الإبقاء على سياسات "السلطة الفلسطينية" ضمن حدود "اتفاقية أوسلو"، بينما عملت "حماس" على تقويض هذه السياسات، مع تركيزها بشكل خاص على الحد من التعاون الأمني الإسرائيلي الفلسطيني. وأخيراً، في تموز/يوليو 2007، انتزعت "حماس" قطاع غزة من "فتح" بقوة السلاح، تاركة لـ "فتح" السيطرة على "السلطة الفلسطينية" وحكم الضفة الغربية. وبعد ذلك بوقت قصير، التقيتُ بمسؤولين من "السلطة الفلسطينية" في رام الله الذين عدّدوا لي أسماء أفراد عائلاتهم الذين ألقاهم مقاتلو "حماس" من فوق أسطح المنازل في غزة، وأظهروا لي وثائق تبين كيف حاولت "حماس" استخدام شركات الضفة الغربية وإدارات "السلطة الفلسطينية" لغسل أموال "حماس" عندما قادت حكومة الوحدة الوطنية.
وحتى بعد أن أكدت "حماس" ميلها إلى القتال من خلال سيطرتها العنيفة على قطاع غزة ـ والتي لم تستهدف هذه المرة الإسرائيليين بل الفلسطينيين ـ اعتَقَدَ بعض المحللين أن إدارة قطاع غزة من شأنها أن تؤدي إلى اعتدال الحركة، أو على الأقل تقييدها بفعل مسؤولية الحكم وروتين العمل اليومي القائم على جمع القمامة ودفع رواتب المعلمين. وقد كتب أحد المؤلفين في عام 2014 أن المؤسسات الاجتماعية الإسلامية التابعة لـ"حماس" في غزة والضفة الغربية "دعت إلى اتباع نهج معتدل للتغيير يعزز النظام والاستقرار، وليس الفوضى وعدم الاستقرار".
وهذا أيضاً لم يحصل. ومع ذلك فإن تولي "حماس" السلطة في غزة وضعها أمام خيار واضح. فقد كان بإمكانها أن تستمر في تنفيذ أعمال العنف التي تستهدف إسرائيل، علماً بأن هذه الأعمال كانت قد تؤدي إلى رد فعل انتقامي من قبل إسرائيل، أو كان بإمكانها التركيز على توفير احتياجات سكان قطاع غزة وأمنهم. وفي الأشهر القليلة الأولى بعد بسط "حماس" سيطرتها عام 2007، تباطأت وتيرة عملياتها بينما عززت سلطتها واستولت على المؤسسات الحكومية. ولكن بحلول كانون الأول/ديسمبر 2008، شنّت الحركة أول حرب في سلسلة من الحروب الصاروخية مع إسرائيل. وبحلول عام 2015، بعد ثلاث جولات من الحروب الصاروخية، ظل البعض يعتقد أن "حماس" ستعطي الأولوية من أجل البقاء وتفضلها على "المقاومة" (أي محاربة إسرائيل) وعلّق هؤلاء آمالهم على الجهود الدورية للمصالحة بين "فتح" و"حماس"، وقد فشل كل من السيناريوهين لأن "حماس" رفضت التخلي عن سلاحها والالتزام بعملية السلام.
وجاء الحدث الفاصل الثاني في السابع من تشرين الأول/أكتوبر، عندما قتل آلاف من نشطاء "حماس" نحو 1200 شخص في إسرائيل، وجرحوا آلاف آخرين، وأخذوا ما لا يقل عن 240 رهينة، من بينهم مواطنون من أكثر من 40 دولة.
وشكّل يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر خروجاً عن أسلوب العمل الراسخ لـ"حماس"، ولكنه كان خروجاً متعمداً، حيث خططت له الحركة بكل تفاصيله. فلم يسبق لها أن نفذت مثل هذا الهجوم الكبير، ناهيك عن استخدامها مثل تلك التكتيكات الهمجية. وعلى حد تعبير وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن: "ذبح الأطفال. تدنيس الأجساد. إحراق الشباب أحياءً. اغتصاب النساء. إعدام الآباء أمام أولادهم، والأولاد أمام أهلهم". وخلص إلى أن الهجوم "يعيد إلى الأذهان أسوأ أفعال «داعش»". وقد كشفت الخرائط والوثائق التي تمت مصادرتها من مهاجمي "حماس" في 7 تشرين الأول/أكتوبر أن الحركة استهدفت المدارس الابتدائية ومركزاً للشباب على وجه التحديد.
وفي الواقع، كان يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر هو الحرب التي لطالما أرادتها "حماس". فعلى مدى 18 عاماً، منذ تأسيس الحركة في عام 1988 وإلى حين مشاركتها في الانتخابات الوطنية الفلسطينية عام 2006، كانت جهة فاعلة متشددة أشبه بدولة تنخرط في مجموعة واسعة من الأنشطة - من السياسة، إلى الأعمال الخيرية والرعاية الاجتماعية، وإلى الإرهاب - والتي تهدف إلى استبدال إسرائيل بدولة فلسطينية إسلامية. ومن خلال الانخراط في أنشطة علنية مدنية وسرية مسلحة، أنشأت "حماس" نظاماً قائماً بذاته يدعم فيه كل واحد من أنشطته الأنشطة الأخرى. وساعدت الأنشطة السياسية والاجتماعية على بناء الدعم الشعبي لـ"حماس" على حساب منافسيها السياسيين الفلسطينيين. ومن خلال أعمال العنف، قوضت الحركة التسوية السياسية مع إسرائيل وقدمت نفسها على أنها حامية المطالب الفلسطينية المتطرفة. وعند جمعها الأموال في الخارج، استطاعت جمع الأموال للأنشطة العلنية، وتحرير الأموال المثيلة لتنفيذ أنشطة أقل إيثارية.
وقد ثبتت فعالية هذا النموذج - إذا كان كل ما تطمح إليه "حماس" هو إدامة الصراع، والتمسك ببنادقها الأيديولوجية، وسفك الدماء الإسرائيلية. وطوال هذه الفترة الزمنية، لم تشكل "حماس" قط تهديداً وجودياً لإسرائيل، حتى مع اندلاع الانتفاضة الثانية في عام 2000. ونجحت الهجمات العشوائية التي شنتها "حماس" في ترهيب المواطنين الإسرائيليين، إلا أنها فشلت في اقتلاعهم من أرضهم.
أما في عام 2007، فقد وجدت "حماس" نفسها فجأة تسيطر على قطاع غزة. وعندما تعيّن على الحركة الاختيار بين التركيز على الحكم أو النضال المسلح، اختارت الأخير. فقد حوّلت مسار الأموال المخصصة للخدمات العامة المدنية لبناء الأنفاق وتطوير برنامج فعال لإنتاج الأسلحة. ولعبت "حماس" لعبة طويلة الأمد، إذ استثمرت في الجهود الرامية إلى غرس "ثقافة المقاومة" في مجتمع غزة، مع التركيز على المدارس والشباب. وفي غضون ذلك، خدعت "حماس" المسؤولين الإسرائيليين والغربيين وجعلتهم يظنون أنها لن تعرّض مشروع الحكم للخطر، وأنه يمكن بالتالي ردعها. وكانت النتيجة سياسة إسرائيلية تقوم على "شراء الهدوء" من خلال السماح لمليارات الدولارات القطرية بالتدفق إلى غزة على مدى عقد من الزمن تقريباً لإبقاء "حماس" أكثر تركيزاً على الحكم بدلاً من القتال.
وأخذت "حماس" الأموال، لكن لم تتم استمالتها قط. وقد لخص عضو المكتب السياسي للحركة، خليل الحية، المقيم في قطر، بإيجاز وجهة نظر "حماس" في تعليقات أدلى بها بعد أسابيع من 7 تشرين الأول/أكتوبر: "هدف "حماس" ليس إدارة غزة وتزويدها بالمياه والكهرباء وما إلى ذلك. فـ"حماس" و"القسام" و"المقاومة" أيقظوا العالم من سباته العميق وأظهروا ضرورة إبقاء هذه القضية على الطاولة". وأضاف الحية، ملخِّصاً كيفية توفيق الحركة ما بين المتطلبات المتضاربة لتلبية احتياجات الفلسطينيين من جهة ومحاربة إسرائيل من جهة أخرى، أن "هذه المعركة لم تُشن لأننا نريد الوقود أو العمال. ولم تسعَ إلى تحسين الوضع في غزة. هذه المعركة تهدف إلى قلب الوضع بالكامل".
بعبارة أخرى، على الرغم من كل ما تغير في السنوات التي أعقبت نشر كتابي "«حماس»: السياسة والإحسان والإرهاب في خدمة الجهاد" - أي السيطرة على الأراضي ومليارات الدولارات لحكم غزة - بقيت الحركة ملتزمة بمبدأها الأساسي المتمثل بإعطاء الأولوية لتدمير إسرائيل على حساب رفاه المدنيين الفلسطينيين. وهذا باختصار يفسر لماذا نفذت "حماس" الهجوم الوحشي في السابع من تشرين الأول/أكتوبر، ولماذا ردت إسرائيل بهجوم يهدف إلى إنهاء مشروع حكم "حماس" في غزة.
ماثيو ليفيت هو "زميل فرومر-ويكسلر" ومدير "برنامج راينهارد للاستخبارات ومكافحة الإرهاب" في معهد واشنطن. وتم نشر هذه المقالة في الأصل على موقع "مطبعة جامعة ييل".