- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
على بايدن أن يطلب من تركيا مضاعفة التزامها للغرب
في 23 كانون الثاني/يناير، زار نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن تركيا في وقت حاسم في تاريخ البلاد. ففي الآونة الأخيرة، كانت السياسة التركية تتأرجح يميناً ويساراً. إذ دخلت البلاد القرن الحادي والعشرين بتقليد يقوم على الفصل الصارم بين الدين والسياسة، فضلاً عن وجود توجه قوي موالٍ للغرب في سياستها الخارجية، وذلك اتباعاً لنهج مؤسسها العلماني مصطفى كمال أتاتورك.
بيد أن تركيا تحولت، في العقد الأخير، إلى اليمين الديني مع صعود "حزب العدالة والتنمية" المحافظ. إذ قام الحزب، بقيادة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بتوجيه سياسة أنقرة الخارجية تجاه الدول الإسلامية، وقضى على جدار الحماية الفاصل بين الدين والسياسة والتعليم الذي كان قد أنشأه أتاتورك.
إن البندول التركي على استعداد للتأرجح من جديد. وهذه المرة، يوجد مسارين متعاكسين تقريباً يمكن أن تسلكهما البلاد، الأول مبشر بالنجاح والثاني لا تحمد عقباه. في هذا الإطار، فإن الهجوم الذي شنه تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» («داعش») في اسطنبول في 12 كانون الثاني/يناير والذي أسفر عن مقتل 10 سائحين كان مؤشراً لما يمكن أن يؤول إليه هذا المسار.
من منظور إيجابي، لا تزال تركيا تشكل مجتمعاً تعددياً مزدهراً، على الرغم من حكم الحزب الواحد منذ 14 عاماً في عهد أردوغان الذي يريد أن يغير الشكل البرلماني للحكومة وأن يحوله إلى نظام رئاسي في البلاد يجلس هو أعلاه. إلا أنه قد يصعب على أردوغان تحقيق ذلك. فأولاً، لا يزال اقتصاد البلاد يقبع تحت سيطرة الشركات الكبيرة الموالية للغرب رغم محاولة الرئيس إنشاء فئة من الرأسماليين تقوم على المحسوبية، من خلال منح مشاريع البناء الضخمة للشركات التي تدعم حزبه.
أضف إلى ذلك أن التعددية التركية تمتد إلى المجال السياسي. إذ ينقسم سكان البلاد الذين يبلغ عددهم 76 مليون نسمة ما بين فريقين، أولئك الذين صوتوا لصالح "حزب العدالة والتنمية" وأولئك الذين لم يفعلوا ذلك في استطلاعات الرأي التي جرت في تشرين الثاني/نوفمبر 2015.
ولا يقتصر الأمر على ذلك، إذ يواجه أردوغان عوائق إضافية: فالمجتمع العلوي التركي الراسخ الذي يضم 10 ملايين نسمة سيحارب زيادة تراجع التقاليد العلمانية في البلاد. أما الأكراد القوميون الذين يشكلّون حوالى نصف المجتمع الكردي التركي الذي يبلغ عدد سكانه ما بين 10 إلى 12 مليون نسمة، فهم يعارضون أردوغان سياسياً. وعلى الرغم من جهوده للسيطرة على المحاكم العليا التركية، فهي لا تزال مستقلة بأغلبها.
أما على صعيد السياسة الخارجية، قفد تجبر التهديدات الناشئة أردوغان على إعادة التفكير في هدفه الكامن في التوجه نحو الدول الإسلامية والآسيوية. إذ سعى منذ عام 2002 إلى إبعاد تركيا عن حلفائها الغربيين التقليديين. وتركزت هذه السياسة على الفكرة القائلة بأنه من خلال إقامة علاقات أفضل مع دول مثل إيران وروسيا، وكسر العلاقات بين الحين والآخر مع أوروبا والولايات المتحدة، قد تكسب أنقرة النفوذ في الشرق الأوسط وأوراسيا، فتبرز كقوة إقليمية محترمة.
لكنّ ما حدث هو العكس من ذلك. فنتيجة لسياسات تركيا في سوريا حيث دعمت أنقرة الثوار ضد الرئيس السوري بشار الأسد، وفي العراق حيث دعم أردوغان الأكراد والعرب السنة فيه، فقد النفوذ الإقليمي التركي الكثير من زخمه. وبناءً على ذلك، فإن الدول غير الأوروبية الأربع المجاورة لتركيا ، أي روسيا وإيران والعراق وسوريا، قد اجتمعت في محور تاريخي تَشكّل حديثاً ضد أنقرة. وباتت واشنطن حليفة تركيا الحقيقية الوحيدة.
من جانب آخر، تصاعدت أسهم "حلف شمال الأطلسي" ("الناتو") هي أيضاً في تركيا. فأردوغان يعلم أنه في أعقاب حادث 24 تشرين الثاني/نوفمبر 2015 الذي أسقطت فيه تركيا طائرة حربية روسية كانت قد انتهكت المجال الجوي التركي، لا يمكن للرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن يشن عدواناً سافراً على تركيا، وذلك لمجرّد أنّ هذه الأخيرة عضو في حلف "الناتو".
وفي الوقت نفسه، تشهد العلاقات ما بين الاتحاد الأوروبي وتركيا ازدهاراً ملحوظاً. فبروكسل بحاجة إلى مساعدة تركيا في السيطرة على تدفقات اللاجئين نحو الاتحاد. وهذا الإحياء للعلاقات يعني ذوبان الجليد عن عملية انضمام أنقرة للاتحاد الأوروبي التي كانت مجمدة سابقاً. ففي 15 كانون الأول/ديسمبر 2015، اتفقت أنقرة وبروكسل على فتح فصل جديد في عملية عضوية تركيا في الاتحاد، والعمل على تنسيق السياسات الاقتصادية والنقدية.
ويتجلى المسار الإيجابي المحتمل المتاح أمام تركيا في واقع أنه في حين تكسر تعددية تركيا من حدة جدول أعمال أردوغان، فإن التقارب مع واشنطن والعملية المتجددة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي سيبعثان الحياة في الديمقراطية الليبرالية في تركيا.
ومن جهة أخرى، يبرز المسار القاتم الذي يمكن بموجبه أن تتأرجح تركيا نحو اليمين بصورة أكثر، ما سيتسبب في وقوع البلاد فريسة لتطرف الجهاديين. وفي ظل حكم أردوغان، تؤثر سياسة الدين في كافة الجوانب تقريباً في تركيا. فعلى سبيل المثال، تلاشى تقريباً التعليم العلماني الذي يشكل أحد أبرز إنجازات أتاتورك. وفي كانون الأول/ديسمبر 2014، أصدر "مجلس التعليم العالي" في تركيا، وهو هيئة تخضع للتنظيم الحكومي، توصية سياسية تنص على تدريس صفوف إلزامية عن الإسلام السني لجميع الطلاب الصغار منذ عمر السادسة، وذلك في المدارس الممولة من قبل القطاع العام.
وقد يعتبر البعض أن توجه تركيا نحو الدين أمر لا ضرر منه. غير أنّ المشكلة في الأسلمة في تركيا هي أن الدول المجاورة لها ليست من دول البهائية ولا من دول "البنلوكس" (وهو اتحاد اقتصادي).
إن انخراط الدين في السياسة عبارة عن منافسة ينتصر فيها الطرف الأكثر فظاعة، وهذا هو التحدي الذي يواجه أردوغان وتركيا في الوقت الذي يبث فيه المزيد من الأوجه الدينية في الكيان السياسي التركي. فالأسلمة تعرض البلاد للتأثيرات السلبية المتأتية من تنظيم «الدولة الإسلامية» الذي يتخذ من جوار تركيا، أي العراق وسوريا، مقراً له. هذا وقد سبق أن برزت مؤشرات مقلقة حول التطرف داخل البلاد. فعلى سبيل المثال، إن معظم الهجمات التي شنها تنظيم «داعش» منذ الصيف الماضي والتي أودت بحياة 145 شخصاً على الأقل كانت من تنفيذ مواطنين أتراك عزز تنظيم «الدولة الإسلامية» في سوريا من تطرفهم.
وفيما يتعلق بالسياسة الخارجية أيضاً يمكن للدين أن يوقع تركيا في مأزق. إذ تخوض أنقرة حالياً حرباً بالوكالة في سوريا ضد روسيا وإيران الداعمتين لنظام الأسد. وبالتالي فإن التزام أردوغان العميق بالإطاحة بنظام الأسد لا يترك لتركيا سوى حليفين على أرض الواقع، وهما قطر والمملكة العربية السعودية المعروفتين بدعمهما للجماعات الإسلامية. كما أن المزيد من التطرف في سوريا سيولّد المزيد من التطرف في الداخل التركي. لذا، توجب على بايدن أن يشدد في خلال زيارته لأنقرة على أنه بإمكان تركيا تجنب مثل هذه الكارثة من خلال مضاعفة التزامها للغرب والعودة من جديد نحو الديمقراطية.
سونر چاغاپتاي هو زميل "باير فاميلي" ومدير برنامج الأبحاث التركية في معهد واشنطن.
"حريت ديلي نيوز"