- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
ليبيا بأكملها رهينة لمسلحين يستهدفون "المصرف المركزي"
Also published in "المجلة"
يمكن للصراع السياسي والقتال الفعلي حول المؤسسة المالية الكبرى في ليبيا أن يمكّن روسيا من التمتع بغنائم الحرب دون أن تضطر إلى خوضها.
منذ مقتل الدكتاتور الليبي، الذي حكم لفترة طويلة، معمر القذافي على يد قوات المتمردين في عام 2011، عانت البلاد التي غادرها بوحشية على أيدي أعدائه من حرب أهلية دورية تخللتها فترات من الاستقرار الهش. وقد شن أمير الحرب خليفة حفتر، الذي تقع قاعدة قوته في شرق البلاد، حرباً في عامي 2014-2015 ضد العاصمة طرابلس في غرب البلاد، انتهت بـ "الاتفاق السياسي الليبي".
وعندما انهار الاتفاق في 2019-2020، هاجم حفتر، مزوداً بأسلحة وأموال من روسيا ومصر وبعض دول الخليج، غرب ليبيا مرة أخرى، لكن هذه المرة توقف بسبب تدخل عسكري تركي من جهة طرابلس. وسعى "ملتقى الحوار السياسي" الليبي إلى إجراء انتخابات عامة في كانون الأول/ديسمبر 2021، إلا أنها تأخرت لمدة تقارب ثلاث سنوات. وفي غضون ذلك، تولى "إدارة" البلاد تكتل من النخب التي ليس لديها أي حافز للتخلي عن السلطة.
حصار "المصرف المركزي"
يدور الصراع حول مصير ليبيا حالياً في طرابلس، حيث يقع "المصرف المركزي" للبلاد في مركز الأحداث. وقد علّق المصرف عملياته يوم الأحد بعد اختطاف رئيس قسم تكنولوجيا المعلومات من منزله، في حين تم تهديد مسؤولين كبار آخرين. وجاء ذلك بعد أسبوع حاصر فيه مسلحون مقر "المصرف المركزي".
ويريد الخاطفون، بدعم من رئيس وزراء "حكومة الوحدة الوطنية" عبد الحميد الدبيبة، استقالة محافظ المصرف القوي، الصديق الكبير، الذي يتولى منصبه منذ عام 2012. وقد استخدم منذ ذلك الحين إيرادات النفط الليبي لتكديس فائض مالي كبير يسعى الكثيرون لوضع يدهم عليه.
ولطالما كان الحصول على منصبه المرغوب فيه هدفاً للمؤسسات غير الشرعية في ليبيا. فـ "مجلس النواب الليبي" لا يزال يتكون من أعضاء تم انتخابهم آخر مرة في عام 2004. وهو الآن يتصارع على السلطة مع "حكومة الوحدة الوطنية" المتمركزة في الغرب، والتي تم تشكيلها في عام 2021 لمدة عام واحد.
وانتُخب عقيلة صالح، رئيس "مجلس النواب" القوي، بأقل من 1000 صوت، بينما كان يتوجب على رئيس وزراء "حكومة الوحدة الوطنية" عبد الحميد الدبيبة، الذي تم انتخابه من قبل 39 عضواً في ظروف مشكوك فيها، أن يتنحى قبل عامين. وحتى أن المزيد من المؤسسات تدعي أنها مخولة لممارسة سلطة معينة، بما في ذلك "المجلس الرئاسي" (الذي تم إنشاؤه كجزء من "ملتقى الحوار السياسي" الليبي) و"المجلس الأعلى للدولة".
التهديد الذي يطرحه حفتر
في العدد الكبير من المنتديات والمبادرات، والتي ترعى بعضها الأمم المتحدة، ليس هناك ما يشير إلى أن ليبيا خاضعة للحكم. ويرتكز هذا الركود السياسي على التهديد الدائم بالحرب من جانب حفتر المدعوم من روسيا.
وقد نفذ هجومه في 2019-2020 بمشاركة مرتزقة وأسلحة روس، بما في ذلك قناصة وطائرات بدون طيار وأنظمة مضادة للطائرات. ومنذ ذلك الحين، عمقت روسيا علاقتها مع حفتر، الذي استضاف نائب وزير الدفاع الروسي يونس بك يفكوروف، وحتى حظي بمقابلة مع الرئيس فلاديمير بوتين في موسكو.
وبالنسبة لبوتين، هذه فرصة لروسيا لبناء المزيد من البنية التحتية في دولة على البحر الأبيض المتوسط (خارج قاعدتها البحرية السورية الحالية في اللاذقية)، وتعزيز طموحاتها في منطقة الساحل، وتهديد "الناتو". وقد أصبح لدى حفتر وابنه القوي صدام الثقة الآن لتحدي خط وقف إطلاق النار المتفق عليه في تشرين الأول/أكتوبر 2020، والذي استمر لمدة أربع سنوات تقريباً.
النفط والدولارات والميليشيات
يتجاوز إنتاج ليبيا من النفط مليون برميل يومياً، مما منحها أساساً قوياً في احتياطيات الدولار دون ديون تذكر. ولا تزال مليارات أخرى من الدولارات مجمدة في "المؤسسة الليبية للاستثمار" العائدة لعهد القذافي.
وانطلاقاً من هنا، كان ينبغي أن تكون ليبيا أكثر من قادرة على توفير احتياجات مواطنيها، ولكن الفساد المستشري، والافتقار التام للمساءلة، والسجل المحزن من سوء إدارة الاقتصاد حالوا دون استفادة الليبيين. ولم تشهد البنية التحتية العامة تقريباً أي تطوير، ويتم إنفاق ميزانيات الوزارات بالكامل تقريباً على رواتب العدد الكبير من الأشخاص المدرجين في كشوف مرتبات القطاع العام، أو على الوقود والطاقة الحكومية، مما يحفز تهريب الغاز عبر الحدود.
وبينما تسيطر طرابلس على الأموال، يسيطر حفتر على معظم حقول النفط. ومن حين لآخر، عندما يحتاج حفتر إلى المزيد من المال، يعمد إلى إغلاق حقول النفط إلى حين تقوم طرابلس بإعادة رسملة البنوك وتحرير الأموال له لتسديد رواتب قواته. وهذا هو السلام غير المستقر.
ومؤخراً، أغلق صدام حفتر حقل الشرارة، مما حرم ليبيا من عائدات البيع البالغة 300 ألف برميل يومياً منذ أوائل آب/أغسطس. ويبدو أن عشيرة حفتر غير متأثرة بواقع أن هذا التكتيك يحرم ليبيا بأكملها من الدخل، وليس الغرب فقط. ففي جميع أنحاء البلاد، ازداد ثراء الميليشيات من خلال الابتزاز والتهريب والاتجار والمخططات التي تستخدم فيها خطابات الاعتماد من "المصرف المركزي"، مما يسمح لها بالوصول إلى العملات الأجنبية، ثم إضافة رسوم إضافية كبيرة على الواردات.
تولي أمر الكبير
يتمتع الكبير بهامش حرية كبير لتمويل البرامج السياسية أو حجب الأموال عنها. وعندما أصبح الدبيبة رئيساً للوزراء للمرة الأولى، كان الرجلان على وفاق، ولكن عندما بدأ الدبيبة باستغلال الوضع والإنفاق بإسراف، أوقف الكبير التمويل. والآن تدور معركة قبيحة بين عقيلة والدبيبة و"المجلس الرئاسي" وآخرين حول مصير الكبير، مع تقديم الجانبين مبررات قانونية مشكوك فيها.
ويود حفتر أن يشهد على رحيل الكبير. فقد نجح أمير الحرب في عام 2022 بالإطاحة برئيس مجلس إدارة "المؤسسة الوطنية للنفط" في ليبيا، الذي كان يشغل منصبه منذ فترة طويلة، وهاجم طرابلس في عام 2019 بشكل أساسي لوضع يده على "المصرف المركزي".
وتم الآن نشر القوات الموالية لصدام حفتر في جنوب غرب ليبيا، ظاهرياً بهدف فرض أمن الحدود. أما الهدف الفعلي فهو الضغط على الدبيبة. وسوف يضطلع العرض الأمني الذي قدمته تركيا لحماية "حكومة الوحدة الوطنية" بدور أساسي.
وتركيا هي حليفة الكبير، إذ قام هذا الأخير بإيداع أموال في "البنك المركزي التركي" المتعثر بدوره. وبالتالي فالرئيس التركي أردوغان هو أقوى داعم للكبير، وهو السبب في بقائه في منصبه.
المسؤولية الدولية
دعمت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة الكبير رسمياً في الأيام الأخيرة. فهما تعتبرانه وكيلاً موثوقاً به للمحفظة الاقتصادية المعقدة في ليبيا.
لكن الدعم الغربي الظاهري قد لا يكون كافياً، خاصة وأن "بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا"، بقيادة المبعوثة بالوكالة ستيفاني خوري، لم تشِر إلى بذل جهود جديدة للمساهمة في تحقيق الاستقرار في ليبيا، وينتهي تفويضها في وقت لاحق من هذا العام. وبإمكان روسيا استخدام حق النقض ضد أي تجديد.
وإذا أُرغم الكبير على الخروج تحت ضغط من حفتر، قد يؤدي ذلك إلى تحويل بعض احتياطيات ليبيا الكبيرة إلى موسكو. ويمكن تجنب ذلك إذا اجتمعت المؤسسات السياسية والاقتصادية التابعة للدولة الليبية للمشاركة في العملية وجعلها منصفة.
وأنشأت عملية برلين، التي ترأستها المستشارة الألمانية السابقة أنغيلا ميركل في عام 2020، مسارات سياسية واقتصادية وأمنية. وقد حظي المسار الاقتصادي باهتمام أقل.
من الضروري إجراء تدقيق فعلي "للمصرف المركزي" والميزانية العامة للدولة. وينبغي أن يتبع مشاورات "المادة الرابعة" من اتفاقية تأسيس "صندوق النقد الدولي" لعام 2023، تقريرٌ أكثر تفصيلاً لعام 2024 للمساهمة في تعزيز شفافية البيانات الليبية. ويقيناً أن إنشاء هيئة رقابية تتألف من ممثلين عن الدول التي تتمتع بالخبرة في مكافحة الفساد بنجاح (مثل جورجيا أو مولدوفا) سيزيد الثقة، شأنه شأن إصدار بعثة "البنك الدولي" تقارير ربع سنوية عن التقدم المحرز. وإذا تجاهلت الجهات الفاعلة الدولية الرئيسية هذه الأزمة، فهي تترك بذلك ليبيا تحت رحمة روسيا، التي يمكن أن تتمتع قريباً بغنائم الحرب دون أن تكون قد اضطرت لخوضها.
بين فيشمان هو "زميل أقدم في زمالة ليفي" في معهد واشنطن والمدير السابق لشؤون "شمال أفريقيا في مجلس الأمن القومي الأمريكي". وقد نُشر هذا المقال في الأصل على موقع "المجلة".