- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
مع احتفال الاتحاد بالذكرى الـ 50 لتأسيسه.. ما الذي تتطلع إليه الإمارات في نصف القرن المقبل؟
Also published in "كيو بوستس"
الإمارات في وضع جيد يسمح لها تعزيز التقدم الذي أحرزته على جبهات متعددة، بدءً من موازنة العلاقات مع القوى الإقليمية والعالمية المتنافسة، وإلى تنويع اقتصادها ومعالجة المخاوف البيئية طويلة الأجل.
في هذه الأيام تحتفل دولة الإمارات العربية المتحدة بالذكرى الخمسين لتكوين الاتحاد، وبهذه المناسبة فإن إلقاء نظرة سريعة إلى الوراء وإلى المستقبل لهو أمر يدعو إلى الاحتفاء والتأمل؛ فقد كان التقدم على مدى نصف القرن الماضي باهراً، لا سيما في ضوء التوقعات السلبية نوعاً في البداية، والجوار القاسي الذي وجدت البلاد نفسها فيه من جانب آخر. وفي لحظة استقلالها، قد يكون بوسعنا أن نعذر المراقبين الذين تساءلوا عما إذا كانت هذه الإمارات السبع سوف تظل موحدة، ناهيك بالقدرة على التعايش وأن تتمكن الدولة من أن تعمل بكامل طاقتها. من جانب آخر، خيمت على تلك اللحظة غيوم احتلال إيران ثلاث جزر استراتيجية -أبو موسى، وطنب الكبرى، وطنب الصغرى- التي تطالب بها الدولة الحديثة ذات السيادة، والتي كان اقتصادها لا يزال في حالة ركود، قبل عامين من أول طفرة عملاقة في أسعار النفط العالمية، خلال الحرب العربية- الإسرائيلية في أكتوبر 1973.
وقد شهدت العقود التالية تعاقباً مطرداً لتحديات أخرى خطيرة؛ ففي مجال السياسة الخارجية والأمن، جاءت الثورة “الإسلامية” في إيران عام 1978، والحرب الإيرانية/ العراقية طوال الثمانينيات، واحتلال صدام حسين للكويت المجاورة عام 1990، وشبح الإرهاب الجهادي قبل وبعد 11 سبتمبر، وصعود “داعش”، إضافة إلى تدخل إيران المستمر في شؤون جيرانها العرب. وعلى الساحة العربية المحلية، هزت الانتفاضات والحروب الأهلية المنطقة المحيطة خلال العقد الماضي بأكمله، والتي تشابكت في أحداثها في كثير من الأحيان مع تحديات جماعة الإخوان المسلمين أو الحركات ذات التفكير المماثل. ومن وجهة النظر الاقتصادية، فإن دوامة ارتفاع وانهيار أسعار الطاقة قد تسببت في عدم اليقين المستمر والتعديلات العاجلة.
ومع ذلك، لم تنجُ دولة الإمارات العربية المتحدة فحسب؛ بل ازدهرت خلال تلك الفترة المضطربة في الشرق الأوسط. وقد تمكنت الإمارات إلى حد كبير من تجنب التورط المباشر في الصراعات الإقليمية الكبرى. وحافظت على الهدوء المحلي. وعلى نحو يكاد يكون فريداً بين ما يُسمى بالدول العربية المصابة “بلعنة النفط”، فقد قامت بتنويع اقتصادها بشكل منهجي، مضيفةً مجموعة من الأصول والأنشطة ذات المستوى العالمي في القطاعات غير المرتبطة بالطاقة، بما في ذلك التجارة والنقل والخدمات اللوجستية والتمويل والسياحة والتكنولوجيا.. وغيرها.
وفي السنوات الأخيرة، غيرت الإمارات إلى حد ما من هذا المسار من خلال توسيع تدخلاتها العسكرية في عدد من بؤر الصراع في المنطقة؛ مما أكسبها لبعض الوقت اللقب الأمريكي “أسبرطة الصغيرة”؛ حيث شاركت، على نطاق صغير ولكنه رمزي ومهم من الناحية السياسية، في الحملة الأمريكية على أفغانستان. وشاركت قواتها المسلحة ضمن قوات التحالف العربي في اليمن.
ولكن في الآونة الأخيرة، قررت الإمارات طوعاً تقليص مثل هذه المساعي، واختارت بدلاً عن ذلك تركيز سياستها الخارجية في اتجاه يناقض ما سبق، وهو صنع السلام الإقليمي. فقبل نحو عام، وقعت الإمارات مع إسرائيل اتفاق أبراهام للسلام. ومن اللافت للنظر أن هذا لم يثر نزاعاً مع إيران. ورغم ذلك فقد تعود هذه السياسة ببعض الفوائد العملية على الفلسطينيين أيضاً.
وفي العام الماضي، وعلى المستوى نفسه من الأهمية، تواصلت الإمارات العربية المتحدة بشكل مكثف مع العديد من المنافسين الإقليميين السابقين: إيران، والعراق، وتركيا، وقطر، وحتى سوريا. وتعد سرعة وخفة الحركة في هذه التحولات المحسوبة لافتة للنظر إلى حد كبير. كما تبدو احتمالات النجاح في الإبحار عبر كل هذه التيارات القوية واعدة إلى حد معقول.
لكن إلى أين سنذهب من هنا وعلى مدى نصف القرن المقبل؟ وكما يقول المسلمون، كان محمد هو خاتم الأنبياء؛ لذلك يجب أن يكون المرء متواضعا للغاية بشأن محاولة التنبؤ بالعقود المستقبلية طويلة الأجل – خاصة في منطقته الأصلية المضطربة! دعونا إذن نحلل الفرص والتحديات التي تنتظرنا، في المجالَين الخارجي والمحلي على حد سواء.
أولاَ، سوف يكون لزاماً على الإمارات في سياستها الخارجية أن تعمل على موازنة علاقاتها مع القوى الإقليمية المتنافسة، بل وحتى المتضاربة. وأوضح مثال على ذلك هنا يتعلق بإيران وإسرائيل. وهي مهمة صعبة لأي بلد يقع على الحدود الإيرانية، ومع ذلك فهي ليست مستحيلة، ويشهد على ذلك مثال أذربيجان (الذي نعترف بعدم كماله)؛ فهل يمكن حقاً لدولة الإمارات أن تكون قادرة على المدى الطويل على المساعدة في تجنب صدام هذين المنافسَين اللدودَين؟ فإذا حدث ذلك، ستكون الفوائد التي ستعود على المنطقة بأسرها، بل والعالم هائلة بالفعل؛ لكن بالنسبة إلى المستقبل المنظور، قد تكون هذه مشكلة يمكن إدارتها فقط وليس حلها.
وعلى الصعيد العالمي، سوف تسعى الإمارات لتحقيق التوازن في علاقاتها مع الجهات الفاعلة الدولية الرائدة. وأوضح حالة هنا تتعلق بالولايات المتحدة والصين؛ فمن وجهة النظر الحالية، يبدو من المرجح أن تظل الأولى الحليف الأمني الأساسي للإمارات، بينما ستصبح الأخيرة تدريجياً شريكاً اقتصادياً مهماً بشكل متزايد. وتكمن الصعوبة هنا في ضمان ما إذا كانت هاتان العلاقتان يمكن أن تتعايشا معاً، فمن شبه المؤكد أن تتكرر الأسئلة وربما الأزمات حول هذه القضية. ومع ذلك، يبدو من المعقول في المجمل، وكما يصر المسؤولون الإماراتيون، أن تتمكن بلادهم من الحفاظ على علاقات منفصلة؛ لكنها على القدر نفسه من الجودة مع كل من الولايات المتحدة والصين؛ ما دام يتم احترام المتطلبات الأمنية الأساسية.
وأخيراً، على الجبهة الداخلية، فإن الفرص والتحديات طويلة الأجل هي أيضاً ذات شقَّين؛ الأول هو مسألة التنوع الاقتصادي المكثف، مع تحول العالم ببطء بعيداً عن الوقود الأحفوري. والإمارات، كما ذكرنا أعلاه، متقدمة بالفعل على منحنى هذا المسار، وإن كان الأمر يتطلب بذل المزيد من الجهود. وتتمثل النقطة الرئيسة في هذا السياق في أن هذه العملية ستكون طويلة الأمد، وربما تستمر لنصف القرن المقبل من الاستقلال الإماراتي.
أما الشق الثاني والمرتبط ارتباطاً وثيقاً بالأول؛ فهو مجموعة الاهتمامات البيئية والتكنولوجية العالمية طويلة الأجل، وغيرها من الاهتمامات العابرة للحدود، سواء كانت تتعلق بتغير المناخ، أو الصحة العامة، أو الهجرة، أو تطبيقات الذكاء الاصطناعي، وما وراء ذلك إلى مناطق مجهولة بعد. ولعل المكانة المتقدمة التي تتمتع بها الإمارات العربية المتحدة في ما يتصل ببعض هذه القضايا، وشراكاتها الدولية الناشئة في ما يتصل بقضايا أخرى تضعها في وضع جيد نسبياً لمواجهة هذا التحدي أيضاً.
وعلى الرغم من كل ذلك، فإن السؤال الأكبر خلال نصف القرن الثاني من استقلالها سوف يتمحور حول ما إذا كانت الإمارات قادرة على المساهمة في حل هذه المشكلات العالمية حتى خارج حدودها الوطنية. وهنا تشير حقيقتان، غالباً ما يتم التغاضي عنهما، إلى اتجاه إيجابي؛ الحقيقة الأولى هي أن واحدة من أكثر الخطوات فعالية، أثناء فترة الانتقال العالمية الطويلة نحو خفض الانبعاثات الكربونية، تتلخص في إبعاد مصادر الانبعاث الرئيسة مثل الصين والهند عن الفحم من خلال الاستعاضة عن النفط؛ بل وحتى الغاز الطبيعي.
والثانية، هي أن رأس المال البشري رفيع المستوى الذي حشدته الإمارات، سواء بين مواطنيها أو مجتمعها الأكبر بكثير من العمالة الوافدة، هو شرط ضروري، إن لم يكن كافياً تماماً، لمعالجة أي سيناريو مستقبلي. وسيكون تحقيق التوازن بين التسامح والتكنولوجيا، والسكان الأصليين والجيران، قضية دائمة. ومع ذلك، إذا استمرت الإمارات في الترحيب بالمشاركة على هذا المستوى الإنساني للغاية؛ فإن لديها فرصة جيدة للحفاظ على مكانتها في نصف القرن المقبل كمساهم في توفير الحياة الكريمة، ليس فقط لسكانها، بل للإنسانية بأسرها.
ديفيد بولوك هو "زميل برنشتاين" في معهد واشنطن ومدير "مشروع فكرة". وقد نُشر هذا المقال في الأصل باللغتين العربية والإنجليزية على موقع "كيو بوستس".