- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
مع انتهاء عمل "لجنة تقصي الحقائق" الأرجنتينية قبل بدئه، حان الوقت للتحقيق في قضية العملاء الإيرانيين
في مؤتمره الصحفي الأول بعد انتخابه رئيساً جديداً للأرجنتين، أعلن ماوريسيو ماكري عن نيته إبطال رسمياً الاتفاق الذي وقعته الحكومة السابقة في عهد كريستينا فرنانديز دي كيرشنر مع إيران لتشكيل "لجنة لتقصي الحقائق"، تتولى التحقيق بشكل مشترك في التفجير الإرهابي الذي استهدف مركز الجالية اليهودية في الأرجنتين («آميا») في مدينة بوينس آيرس عام 1994. وقد أوقف اليوم العمل بهذا الاتفاق، الذي يُعد منذ إبرامه تزييفاً للعدالة. كما أقال ماكري المدعي العام الذي تُشكل عدم كفاءته مدعاة للحرج والذي قد كُلف بالقضية من قبل حكومة كيرشنر إثر مقتل المدعي العام السابق ألبرتو نيسمان في ظروف غامضة. ولكن ما زالت هناك خطوات إضافية يجب اتخاذها، من بينها التحقيق في قضية العملاء الإيرانيين في الأرجنتين الذين سعوا إلى إبرام الاتفاق نيابةً عن طهران. وقبل مقتله، كشف نيسمان عن هوية عميلين إيرانيين على وجه التحديد كانا يتلقّيان أوامر مباشرة من محسن رباني بذاته، وهو العميل الإيراني الفار الذي كان العقل المدبر وراء تفجير مركز «آميا».
وفي أعقاب التفجير، خلص المحققون إلى أن رباني كان يستخدم مستطلعين شيعة محليين لرصد أهداف يهودية وأمريكية في بوينس آيرس منذ عام 1983. ووفقاً لممثلي الادعاء، كانت تقارير المراقبة الخاصة برباني "عاملاً حاسماً في اتخاذ قرار تنفيذ الاعتداء على مركز «آميا»". فقد أرسلت إيران أموالاً لتنفيذ المخطط إلى حسابات شخصية تابعة لرباني في ثلاثة مصارف مختلفة في الأرجنتين. وقد ساعد رباني على تأمين الشاحنة المستخدمة في الاعتداء، وقبل يومين من حادثة التفجير، أجرى مكالمة من هاتفه الشخصي مع "مؤسسة التجارة الحكومية" الإيرانية، التي كان يُعتقد أنها غطاء للاستخبارات الإيرانية، وذلك أثناء وجوده على مقربة من المرآب الذي كانت الشاحنة مركونة فيه، بجوار مركز «آميا».
وقد أدين رباني على خلفية دوره في التفجير، وفرّ بعدها إلى إيران، إلا أنه بقي ناشطاً في العمليات الإيرانية في أمريكا الجنوبية. ووفقاً لوثائق المحكمة، ساعد رباني أربعة رجال ذوي إصول من أمريكا الجنوبية على التخطيط لتفجير "مطار جون إف. كندي الدولي" في نيويورك. وفي رسالة كان قد كتبها عبد القادر، وهو أحد المخططين، إلى رباني بخط اليد في عام 2006، وافق عبد القادر على إنجاز "مهمة" لصالح رباني وذلك لمعرفة ما إذا كانت مجموعة من الأفراد في غيانا وترينيداد تخطط لمهمة غير محددة. واكتشفت السلطات لاحقاً أن عبد القادر كان يدير عملية جمع معلومات استخباراتية في غيانا تحت إمرة رباني. وفي النهاية، تم توقيف عبد القادر في 2 حزيران/يونيو 2007 في ترينيداد، عندما كان على متن طائرة متجهة إلى فنزويلا في طريقها إلى إيران.
وفي نيسان/إبريل 2011، نشرت مجلة "فيجا" البرازيلية مقالاً يَذكر "مكتب التحقيقات الفيدرالي" و "وكالة الاستخبارات المركزية" الأمريكيين و"الإنتربول" الدولي ووثائق أخرى تتناول الأنشطة الإرهابية في البرازيل، ويحذر من أن رباني "غالباً ما يتسلل إلى البرازيل ويخرج منها بجواز سفر مزور، وقد جند 24 شاباً على الأقل في ثلاث ولايات برازيلية لحضور صفوف في "التنشئة الدينية" في طهران". وعلى حد تعبير أحد المسؤولين البرازيليين الذين نقلت المجلة أقوالهم: "من دون لفت الأنظار، يبرز جيل من المتطرفين الإسلاميين في البرازيل".
وفي عام 2011 أيضاً، اتفقت الأرجنتين وإيران على تشكيل "لجنة تقصي الحقائق" للتحقيق بشكل مشترك في حادثة التفجير، بالرغم من الإدانات الصادرة عن المحاكم الأرجنتينية بحق مسؤولين إيرانيين. وقد تم التشكيك في قيمة هذه "الشراكة" منذ البداية، إلا أن هذه الشكوك بلغت ذروتها بعد أن عُثر فجأةً على نيسمان ميتاً في كانون الثاني/يناير 2015 في ظروف مثيرة جداً للريبة ومشبوهة للغاية، وذلك بعد أن اتَّهم الحكومة الأرجنتينية، لا سيما كريستينا دي كيرشنر ووزير الخارجية هكتور تيمرمان، بالتخطيط لتغطية دور إيران و «حزب الله» في تفجير مركز «آميا» مقابل اتفاق سياسي بين الحكومة الإيرانية والأرجنتين. فقبل يوم من الموعد المقرر لعرض نيسمان قضيته أمام البرلمان الأرجنتيني، عُثر عليه ميتاً في شقته. وفي عام 2015، بعد انتخاب ماكري، برز تسجيل سري لمحادثة أجريت عام 2012 يقر فيها تيمرمان بصورة غير علنية أن "إيران قد زرعت القنبلة التي فجرت مركز «آميا»".
وفي أيار/مايو 2013، نشر نيسمان تقريراً من 500 صفحة يركز فيه على كيفية قيام النظام الإيراني، منذ بداية الثمانينات، بتأسيس "مراكز استخبارات سرية محلية تهدف إلى رعاية الهجمات الإرهابية ودعمها وتنفيذها" في نصف الكرة الغربي، والمحافظة عليها. وخلص التقرير إلى أن رباني استمر في الإشراف على عمليات إيران في أمريكا اللاتينية. وكانت مهمته إعداد شبكات استخبارات وتجسس، والقيام بعمليات دعائية مباشرة، و"تصدير الثورة" بصورة عامة. كما لعب دوراً مباشراً في التفاوض حول اتفاق "لجنة تقصي الحقائق" المعنية بتفجير مركز «آميا» مع الأرجنتين.
وفي مكالمة هاتفية تم اعتراضها، أطْلع جورج خليل، وهو رجل رباني على الأرض، هذا الأخير على لقاء كان قد جمعه بمسؤول أرجنتيني. فرد رباني قائلاً: "أرسِل لي التفاصيل لكي أتمكن من تقييمها". وفي مكالمة أخرى، توجه رباني إلى خليل قائلاً: "لا تخلط الأمور، فأنت تعمل لصالحي". واستنتج نيسمان أن هذه الأحاديث المتبادلة "أظهرت بصورة جلية أن رباني مخوّل باتخاذ القرارات داخل النظام حول كافة المسائل المتعلقة بجمهورية الأرجنتين". وفي مكالمة هاتفية أخرى اعتُرضت هي الأخرى أيضاً، أكد خليل لرباني أن هناك تقارير إضافية ستصدر قريباً، وطمأنه: "شيخ، لا تقلق. فعندما أعود إلى المنزل هذا المساء، سأرسل لك تقريراً حول كل ما أقوم به". ووصل نيسمان إلى نتيجة، أن هذه التأكيدات تُثبت تبعية خليل لرباني: "خليل هو كاتم أسرار رباني ويحصل على ثقته ولطالما أطلعه [على التطورات] من بوينس آيرس".
ومن المتورطين أيضاً في الأحاديث التي تم اعتراضها شيخ مسجد "التوحيد" عبد الكريم باز، ووفقاً لتقرير نيسمان، "اليد اليمنى لمحسن الرباني، الذي كان في إيران". وكان خليل يُطلع باز بانتظام على حالة المفاوضات، وكان باز يعتبر أن الاتفاق سيسري على الأرجح، ولكنه اشتكى في إحدى المراحل من الطريقة التي تقوم بها "الأرجنتين بالتملق، كما تعلم، للولايات المتحدة". وبالمثل، طمأن خليل رباني حول مسار الاتفاق: "إطمئِن كل شئ سيسير على ما يرام، لأن جميع الأمور ستكون على ما يرام".
وفي أيار/مايو، صرح رباني للتلفزيون الأرجنتيني أن تحقيق نيسمان لم يكن مرتكزاً سوى على "تلفيقات الصحف من دون أي دليل يدين إيران". في الواقع، إن أقوى دليل ضد إيران هو القرائن التي تبين الدور الخاص الذي لعبه رباني في المخطط، انطلاقاً من إدارة شبكة من العملاء الاستخباراتيين في بوينس آيرس إلى شراء الشاحنة المستخدمة لتفجير مركز «آميا». وتنبع ثقة رباني على ما يبدو من جهود عملائه على الأرض، وأبرزهم خليل و باز، اللذان كانا يتآمران لتلفيق "أدلة جديدة" مزيفة من أجل استبدال الأدلة الفعلية التي تورط إيران في التفجير، وفقاً لتقرير نيسمان الأخير.
ومع كشف النقاب عن هذه المؤامرة وزوال "لجنة تقصي الحقائق"، يمكن استئناف التحقيقات في تفجير مركز «آميا» ومقتل نيسمان، على يد محققين موثوق بهم. وفي غضون ذلك، لا بد لحكومة ماكري من أن تحقق أيضاً في الأدوار التي لعبها العملاء الإيرانيون في الأرجنتين في هذا التزييف للعدالة.
ماثيو ليفيت هو زميل "فرومر- ويكسلر" ومدير برنامج ستاين للاستخبارات ومكافحة الإرهاب في معهد واشنطن، ومؤلف كتاب "«حزب الله»: التأثير العالمي لـ «حزب الله» اللبناني". (2013).
"ذي هيل"