شكّلت وفاة محمد مرسي في قاعة محكمة في القاهرة نهاية مخزية لرجل قاد لفترة وجيزة الدولة العربية الأكثر اكتظاظاً بالسكان. وعلى الرغم من أنّه لم يكن سوى رئيس صُوري من نواحٍ كثيرة، إلا أنّه عكس فشل جماعة «الإخوان المسلمين» في الانتقال من الحكم الاستبدادي إلى السياسات الديمقراطية. ومن غير المرجح أن تؤدي وفاته إلى إضعاف «الجماعة» المتداعية بصورة أكثر أو إثارة احتجاجات جماعية. ولكنّ الضغط الدولي لشرح الظروف المزرية لسجن مرسي قد تتيح لواشنطن فرصة لحث القاهرة بهدوء على التخفيف من القيود الصارمة التي خنقت الحريات العامة في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي.
إرث احتياطي
كان مرسي منفذاً فعالاً لجماعة «الإخوان المسلمين» عندما كان يشرف على وفدها البرلماني بين عامي 2000 و2005، غير أنّ سلوكه غير الخلاق وافتقاره للفطنة السياسية وضعا حداً لفرص ارتقائه. فهو لم يتبوأ سدة الحكم إلا من خلال إقصاء المرشح الرئاسي المفضل لـ «الجماعة» في عام 2012، ممهداً الطريق لاعتلائه الحكم، مما دفع العديد من المصريين إلى تلقيبه بـ "الإطار الاحتياطي" لجماعة «الإخوان المسلمين». وقد تجلّى عدم يقينهم من قدرته على القيادة في انتصاره الهزيل في الانتخابات الرئاسية الديمقراطية الأولى في البلاد.
وربما على نحو غير مفاجئ، كان عامه في الرئاسة كارثياً. فقد رفض التفاوض من أجل التوصل إلى اتفاقات مع أحزاب أخرى، معتمداً في المقابل على الأوامر الرسمية التعسفية. كما أن المخلفات القضائية للنظام السابق أعاقته لدرجة أنّه أصدر مرسوماً بإلغاء المراجعة القضائية في تشرين الثاني/نوفمبر 2012. بالإضافة إلى ذلك، قوّض مسؤولو الأمن والبيروقراطيون رئاسته برفضهم توفير السلع والخدمات الأساسية بشكل منتظم. وفي غضون ذلك، أدى انعدام الاستقرار السياسي والأمني إلى تصدّع الاقتصاد.
وفي دولة تمنح الأولوية القصوى للاستقرار، ولّد عجز مرسي على توفير الحد الأدنى من مثل هذا الاستقرار، حنيناً للنظام الاستبدادي الذي حلّت محله حكومته، مما أدى إلى اندلاع احتجاجات ضخمة. وبحلول حزيران/يونيو 2013، كان وزير الدفاع آنذاك، السيسي، وزمرة من الجنرالات الآخرين سعداء للغاية لاستعادة مناصبهم كأولياء على الدولة من خلال تنظيم انقلاب.
«الإخوان المسلمين» باتجاه الحائط
منذ ذلك الحين، شنّ السيسي حرباً شاملة ضد «الإخوان المسلمين». فألقى القبض على المرشد العام لـ «الجماعة» (في خطوة حتى الرئيس السابق حسني مبارك تغاضى عنها)، وزج عناصرها الميدانية الأقل تأثيراً في السجن، وسعى إلى تفكيك شبكة الرعاية الاجتماعية الخاصة بها. ورغم أنّ جماعة «الإخوان» كانت محظورة رسمياً في عهد مبارك أيضاً، غير أنّ وجودها كان مقبولاً. ولكن الأمر لم يعد كذلك، إذ يريد السيسي تدمير «الجماعة» بالكامل.
وقد تُقدّم وفاة مرسي لجماعة «الإخوان» شهيداً وصيحة استنفار لحشد أتباعها، ولكن من غير المرجح أن تعيد المصريين إلى الشوارع بشكل جماعي. فمرسي كان فاتراً جداً ومملّاً من أن يلهم مثل هذا الدعم العاطفي، ولم يولّد أسلوب حكمه غير اللبق سوى غضباً عاماً. كما أنّ أجهزة الأمن المنتشرة في كل مكان قمعت أي رغبة على التظاهر أو القدرة على القيام بذلك.
وفي الوقت نفسه، لا تشكل وفاة مرسي سوى خسارة رمزية لـ «الإخوان المسلمين». فعند تجنيد أتباعها المخلصين وحشدهم، تعتمد «الجماعة» على الإيديولوجيا الصارمة والانضباط ذو الأسلوب العسكري بصورة أكثر من اعتمادها على القيادة الملهمة. وقد خدمتها هذه الاستراتيجية بشكل جيد في مأزقها الحالي، لأنّه بإمكانها تحمل التضحية بقادتها لتحقيق أهداف السيسي - حيث أن نظام الخلايا السرية اللامركزية القائم على مقاربة "الرجل التالي" يستبدل ببساطة هؤلاء القادة بعناصر جديدة.
وفي غضون ذلك، لا تساهم أخطاء القاهرة المختلفة سوى في تسهيل توسّع «الإخوان». فالحوكمة غير الكفوءة تولّد ثغرات تستغلها «الجماعة» بسهولة. وقد أدى النمو السكاني الهائل إلى جعل الدولة غير قادرة على تلبية احتياجات الجميع، مما سمح للكوادر المتفرغة لـ «الجماعة» وآلية الرعاية الاجتماعية الخاصة بها بملء الفراغ. وفي دولة تحظر التنظيم المدني والسياسي، تُعد جماعة «الإخوان» البديل الوحيد لدولة فاشلة على كافة الأصعدة، من توليد الكهرباء إلى توفير الرعاية الصحية.
ولكن على الرغم من صمودها، تواجه جماعة «الإخوان المسلمين» تحدياً خطيراً. فعناصرها المتطرفة وتلك الأصغر سناً ترفض بشكل متزايد الالتزام بمبدأ الإيمان والصبر اللامتناهيين، الأمر الذي يخلق خصومات داخلية ونداءات جديدة لصراع مسلح. ومن شأن حملة القمع المتواصلة التي تطيح بالكامل بـ "مجلس الإرشاد" التابع لـ «الإخوان» أن تحرم «الجماعة» من القيادة الضرورية لإعادة تأكيد الإجماع على تجنب العنف وإبقاء الصراع سياسياً. كما أنّ جمع التبرعات قد أصبح أكثر صعوبة اليوم بما أنّه قد تم قطع مصادر التمويل التقليدية لـ «الإخوان» في دول الخليج العربي.
على أوروبا أن تأخذ زمام المبادرة
بناءً على أوامر الأجهزة الأمنية، تستّر الإعلام المصري إلى حدّ كبير على وفاة مرسي. فعلى سبيل المثال، نشرت صحيفة "الشروق" خبراً مقتضباً من خمس فقرات في صفحتها الثالثة. وفي المقابل، تناول المراقبون الأجانب الحادثة بشكل أعمق وأكثر صراحة. فـ "منظمة العفو الدولية" و"هيومن رايتس ووتش" ومنظمات مناصرة أخرى دعت بسرعة إلى إجراء تحقيق، وسرعان ما انضم إليها "مكتب مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان".
ولكن إذا أراد المجتمع الدولي فعلاً التخفيف من حدة حملة القمع الواسعة التي تمارسها القاهرة ضد المعارضة، فسيتعين على الحكومات الأوروبية اتخاذ الخطوة الأولى. وقد تواجه صعوبة في ذلك نظراً لترددها منذ فترة طويلة بشأن التدخل في شؤون مصر الداخلية، حيث أنّها مهتمة ببيع الأسلحة للقاهرة أكثر بكثير من محاضرتها حول حقوق الإنسان. ووفقاً لـ "معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام"، كانت فرنسا المورد الرئيسي للأسلحة لمصر بين العامين 2014 و 2018 (2.8 مليار دولار)، في حين احتلّت ألمانيا المرتبة الرابعة (450 مليون دولار). وعندما استضاف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الرئيس السيسي في تشرين الأول/أكتوبر 2017، أعلن: "أؤمن بسيادة الدول، وبالتالي، فكما لا أقبل أن تتم محاضرتي حول كيفية حكم بلدي، لا أقوم بمحاضرة الآخرين".
وإذا تغلّبت أوروبا على مثل هذا التردّد وقرّرت زيادة الضغط على السيسي، فقد تحاول توجيه الولايات المتحدة في اتجاه مماثل. ووفقاً لهذا السيناريو، قد تفكّر واشنطن ملياً بالتطرق للموضوع الحساس المتعلق بالحريات الفردية. ففي عهد السيسي، أصبحت الحكومة المصرية أقل تسامحاً مع المعارضة المحسوسة عما كانت عليه في عهد مبارك، حيث وسّعت إلى حد كبير نطاق شبكة الاعتقالات والمواقع الإلكترونية المحظورة والقيود المفروضة على وسائل الإعلام. ومع الدعم الأوروبي، يمكن للمسؤولين الأمريكيين أن يحثوا القاهرة بثقة على استعادة بعض هذه الحريات، كالسماح للمواطنين بالتعبير عن آرائهم على وسائل التواصل الاجتماعي دون خوف من الانتقام. ويجب أيضاً أن يكون الإفراج عن المحامين العمّاليين وناشطي المجتمع المدني من السجن ضمن قائمة الأولويات.
وتُعدّ مصر واحدة من الدول الوحيدة في المنطقة التي خرجت من "الربيع العربي" المضطرب مع القليل من الضرر عوضاً عن [تحوّل احتجاجاتها إلى] حرب أهلية شاملة. ولكن هذا الاستقرار النسبي لا ينبغي أن يأتي على حساب الحريّات. يتعيّن على السيسي إيجاد توازن بين هذين الشقَين، وعلى واشنطن، كحليفة قديمة له، أن تكون مستعدة لإطلاعه على ذلك.
باراك بارفي هو زميل باحث في "مؤسسة أمريكا الجديدة"، وزميل مساعد في "معهد واشنطن"، حيث قام بتأليف دراسة في عام 2018 بعنوان "الواقع الجديد في مصر: التحديات في ظل السيسي".