- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 3012
ماذا بعد قطْعْ التمويل عن «الأونروا»؟
في 31 آب/أغسطس، أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية أن الولايات المتحدة ستوقف كافة مساعداتها إلى "وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين" ("الأونروا") التي تعتبَر منظمة الإغاثة الرئيسية للاجئين الفلسطينيين. وإذ أشار الإعلان إلى "الحصة غير المتناسبة للغاية" التي تتحملها الحكومة الأمريكية من تكاليف "الأونروا"، وصف أيضاً نموذج الأعمال والممارسات المالية التي تعتمدها الوكالة منذ فترة طويلة بأنها "شائبة بشكل لا يمكن إصلاحه"، لافتاً إلى أنها أوجدت "مجتمع متعاظم بوتيرة لا متناهية ومتسارعة من المستفيدين المستحقّين". كما انتقدت وزارة الخارجية "فشل «الأونروا» والدول المانحة الرئيسية من المجتمَعَيْن الإقليمي والدولي في إصلاح طريقة عمل «الأونروا» وإعادة تنظيمها". والأسئلة التي تطرح نفسها هنا، ما هي التداعيات التي قد تترتب على هذا القرار على المجتمعات الفلسطينية المتضررة، وكيف تستطيع مختلف الأطراف الفاعلة التغلب على معارضة المنظمة الطويلة المدى لبعض الإصلاحات؟
الطريق الطويل إلى القرار الذي اتُخذ الأسبوع الماضي
لم يتم الإعلان عن تفاصيل المحادثات التي جرت بين إدارة الرئيس ترامب و "الأونروا" على مدى العام الماضي، لكن من الواضح أن المسؤولين ناقشوا مسألة إصلاح الوكالة. وبشكل عام، يبدو أن واشنطن تدفع باتجاه إعادة "الأونروا" إلى الهدف الذي كُلّفت به في الفقرة الرابعة من القرار رقم 393 (5) الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1950، والذي أكد على "إعادة دمج اللاجئين في الحياة الاقتصادية في الشرق الأدنى، إما من خلال الإعادة إلى الوطن أو عبر إعادة التوطين". وبالنظر إلى أن إسرائيل ترفض مبدأ الإعادة إلى الوطن رفضاً قاطعاً، فسيترتب على الرجوع إلى القرار 393 تناقصاً تدريجياً في عمليات "الأونروا" بالتزامن مع اندماج اللاجئين المسجلين اندماجاً سياسياً واقتصادياً في مجتمعاتهم المضيفة (غزة، والضفة الغربية، والأردن، وسوريا، ولبنان).
ومن الناحية العملية، فإن العديد من هؤلاء الأفراد ليسوا لاجئين على الإطلاق بموجب "أحكام اتفاقية عام 1951 المتعلقة بوضع اللاجئين"، ومعظمهم مندمج أساساً في مجتمعاتهم. أما اللاجئون في الضفة الغربية وقطاع غزة فيتمتعون إلى حد كبير بالوضع السياسي والاقتصادي ذاته الذي يتمتع به غير اللاجئين، بخلاف كونهم مدرجين على لوائح "الأونروا"، شأنهم بذلك شأن العديد من اللاجئين الذين تم منحهم الجنسية في الأردن. وبالمثل، أصبح العديد من "مخيمات اللاجئين" التابعة لـ "الأونروا" عبارة عن أحياء عادية في مدن الدول المضيفة، ولا تفصلها عن الأحياء الأخرى حدودٌ تُذكر. مع ذلك، تواصل "الأونروا" مناهضة الإصلاحات التي اقترحتها الولايات المتحدة، والتي يدعمها بلا شك مؤيدو مبدأ تحرير الأراضي الفلسطينية وتوحيدها داخل الجمعية العامة للأمم المتحدة التي تشرف رسمياً على "الأونروا".
ويبدو أن هذه المناهضة قد أثارت غضب إدارة ترامب، إذ أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية في 16 كانون الثاني/يناير أنها ستمتنع عن صرف 65 مليون دولار من قيمة مساهمتها المقررة لـ "الأونروا" والبالغة 125 مليون دولار، مشيرةً إلى أنها "تود رؤية بعض الإصلاحات" وإقناع الدول الأخرى برفع قيمة مساعداتها قبل أن تفرج عن الأموال المجمّدة. ولم يمضِ يومان حتى تم إيقاف المساهمة المقررة للولايات المتحدة لبرنامج "الأونروا" للطوارئ، وقدرها 45 مليون دولار، في إطار توقعات مماثلة.
لكن يبدو أن شروط واشنطن لم تتحقق على الإطلاق، بما أنه لم يتم صرف أيٍّ من الأموال المحتجزة أو الإضافية، ليبلغ الوضع ذروته مع قطع المساعدات بشكل تام في الأسبوع الماضي. ولربما تأمل الإدارة الأمريكية بأن هذه المقاربة ستُرغم "الأونروا" على مناقشة الإصلاحات بجدية أكبر - أو أن ذلك يعني، على أقل تقدير، توقّف الدعم الأمريكي لوكالةٍ يعتبرها العديد من المسؤولين الأمريكيين عاصيةً ومختلة بشدّة. ومن وجهة نظرهم، قد يتم إعادة تخصيص الأموال التي تم توفيرها لمساعدة الفلسطينيين (أو مجتمعات أخرى) بطرق تخدم الأهداف الأمريكية في المنطقة بشكل أفضل، على الرغم من أنه لم يتم الإعلان عن أي عملية مماثلة حتى كتابة هذه السطور.
وفي المقابل، يبدو أن "الأونروا" وبعض حلفائها يرغبون في الحفاظ على الوكالة كما هي، وهم منشغلين في محاولة الاستعاضة عن المساهمات الأمريكية - التي تشكل حوالي ثلث ميزانية "الأونروا" - بأموال من مصادر أخرى. وقد تم الإعلان عن تعهدات إضافية من قبل ألمانيا وقطر ودولاً أخرى، لكن حتى الآن لا يبدو أنها تكفي للتعويض عن المساهمة الأمريكية التي تبلغ حوالي 360 مليون دولار سنوياً. ويشاع أن دول الخليج وعدت بزيادة قيمة مساعداتها المستقبلية، لكن فقط إذا قلّصت "الأونروا" عدد الأشخاص الذين تمنحهم وضع اللاجئ وتقدم لهم الخدمات.
علاوةً على ذلك، قلّصت واشنطن أيضاً بعض مساعداتها إلى "السلطة الفلسطينية"، ظاهرياً بسبب ترددها مؤخراً في التفاوض مع المسؤولين الإسرائيليين والأمريكيين. بيد، أن هذه التخفيضات ستجعل من الصعب على "السلطة الفلسطينية" تحويل أي مبالغ من أموالها الخاصة إلى "الأونروا"، على افتراض أن حكومة رام الله ستفكر في مثل هذه الخطوة.
الآثار الانسانية؟
يجب ألا يكون لإعلان واشنطن تأثير قاسي على الفلسطينيين. فحاجتهم الإنسانية الأولى هي الطعام، ونسبة صغيرة فقط من اللاجئين المسجلين في "الأونروا" تحصل على حصص الغذاء كجزء من خطة الرعاية الاجتماعية التي تم اختبارها من قبل الوكالة (الإنفاق على "خدمات الإغاثة والخدمات الاجتماعية" يستهلك حوالي 9٪ من ميزانيتها). وتملك "الأونروا" الموارد الكافية لتأدية هذه الخدمات حتى بغياب الأموال الأمريكية.
وهناك حاجة إنسانية ملحة أخرى وهي المأوى. بيد، إن [الأموال] المخصصة "لتحسين البنى التحتية والمخيمات" لا تشكل سوى حوالي 4% فقط من ميزانية "الأونروا". وهنا أيضاً تملك الوكالة الموارد الكافية لتغطية هذه النفقات.
وبما أن أكبر نفقات "الأونروا" تُصرف على التعليم (54٪ من الميزانية) والرعاية الصحية (17%)، فإن هذين المجالين سيتضرران أكثر من غيرهما من أي تخفيضات محتملة. ومع ذلك، فإن التعليم والرعاية الصحية هما من المستحقات، وليسا من المنافع المقدمة بناءً على دراسة الموارد المالية المتاحة. بإمكان "الأونروا" أن تخفض تكاليف هذه البرامج عبر جعلها إعانات مشروطة بدراسة الموارد المالية المتاحة. على سبيل المثال، يمكن فرض رسوم بسيطة على معظم الناس الذين يزورون عيادات "الأونروا" باستثناء اللاجئين المسجلين الذين تم تأكيد حاجتهم إلى الرعاية مثل الحصص الغذائية والعلاوات النقدية.
أما النسبة المتبقية من الميزانية (16%) فهي مخصصة لـ"خدمات الدعم" ومن بينها "الحماية". وتشمل هذه الفئة الواسعة عدة أنشطة مثل ضمان سلامة النساء والأطفال والمعوّقين، ولكن أيضاً الدفاع عن "حقوق اللاجئين الفلسطينيين بموجب القانون الدولي، من خلال رصد اﻻﻧﺘﻬﺎكات واﻹﺑﻼغ عنها ومن خلال حملات المناصرة العامة والخاصة"، لا سيما ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺘﻌﻠﻖ ﺑﺎﻹﺟﺮاءات الإسرائيلية المزعومة. كما ويندرج كل من "الاستجابة لحالات الطوارئ" و"التمويل الأصغر" ضمن هذا الجزء من الميزانية. وعلى الرغم من أن بعض هذه الأنشطة تستحق بلا شك ما ينفق عليها، إلّا أن مهمّة تمثيل الفلسطينيين ضد إسرائيل يجب ألا تكون من مسؤوليات منظمة إنسانية. وبالرغم من ذلك، فإن الفوائد الواضحة من برامج التمويل الأصغر تصبح غير أساسية عند مقارنتها بالتخفيضات المحتملة في القطاعات الجوهرية كالتعليم والرعاية الصحية. باختصار، تملك "الأونروا" ما يكفي من الأموال لتمويل وظائفها الأساسية دون مساعدة الولايات المتحدة.
إدارة المخاطر
إن أحد الأخطار النظرية لنهج واشنطن هو أنه قد يتم استبدال التمويل المحتجز [بأموال] جهات أقل ميلاً إلى الضغط على "الأونروا" بشأن الإصلاح. ومع ذلك، يبدو أن حسابات الإدارة الأمريكية في تقييم المخاطر قائمة على اعتبارين: أولاً، من غير المرجح أن يتم التعويض عن التمويل الأمريكي بصورة كاملة، وبالتالي قد يؤدي الضغط المالي الناتج إلى إقناع "الأونروا" بقبول بعض مقترحات الإصلاح الأمريكية على الأقل. ثانياً، أن التمويل - حتى إذا استُبدل بمصادر أخرى - سيأتي إما من الدول المارقة أو من البلدان التي يمكن إحراجها أمام شعبها من خلال الحملات الإعلامية الأمريكية (على سبيل المثال، الأوروبيون). وفي الحالة الأولى، قد تؤمن الإدارة الأمريكية بأنه سيكون للجهات المانحة المارقة حينذاك، أموال أقل لاستخدامها في أغراض شائنة أخرى (مع فائدة جانبية تتمثل في تعزيز الجهود المنفصلة التي تقوم بها واشنطن لزيادة الضغط الاقتصادي على هذه الجهات من أجل تغيير سلوكها).
بإمكان المرء تصوّر مخاطر أخرى. على سبيل المثال، مهما كان التعليم الذي توفّره "الأونروا" إشكالياً في بعض جوانبه، فإن التعليم المدرسي المحتمل الذي قد تقدّمه الجهات المانحة البديلة كحركة «حماس» أو النظام السوري أو الحكومة اللبنانية التي يقودها «حزب الله» سيكون بالتأكيد أسوأ من ذلك. ومع هذا، قد تتمكن "الأونروا" من التعويض عن فقدان التمويل الأمريكي عبر إعادة النظر في برامجها التعليمية الراهنة بدلاً من استبدالها، على سبيل المثال، من خلال إدراجها في برامج الإعانة القائمة على دراسة الموارد المالية المتاحة للمستحقين و/أو إلغاء البرامج غير الأساسية كما ذُكر سابقاً (مثلاً، مبادرات التمويل الأصغر؛ جزء من ميزانية "الحماية" المخصصة لتمثيل وجهات النظر الفلسطينية ضد إسرائيل). وقد تمثل هذه الإصلاحات وحدها تحسينات كبيرة.
أما فيما يخص خطر نشوب الاضطرابات، فإن أي إصرار أمريكي على تقليل أعداد المسجلين لدى "الأونروا" عبر إعادة التوطين من شبه المؤكد أن يثير مقاومة، وتظاهرات، وحتى أعمال شغب في صفوف اللاجئين المتضررين. ومع ذلك، لم تظهر إدارة ترامب سوى القليل من الاهتمام بالاحتجاجات الفلسطينية الأخيرة الأخرى، على غرار تلك التي اندلعت على أثر قرارها بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس. وبالمثل، فإن أي معارضة من قبل حكومات الدول المضيفة لـ "الأونروا" لن تثير مخاوف كثيرة في البيت الأبيض، ربما باستثناء القيادات الأردنية الموالية لأمريكا. وعلى الرغم من أن الرأي العام المحلي يقتضي من حكومة عمان الاعتراض رسمياً على أي جهود تقوّض وضع اللاجئين الفلسطينيين، إلّا أنها قد تجد بعض الجوانب الإيجابية في الموقف - خاصة إذا استخدمت واشنطن الأموال التي قطعتها عن "الأونروا" من أجل تعزيز مساعداتها إلى الأردن بشكل هادئ. ولطالما سعى العاهل الأردني إلى توحيد شعبه، ولذلك قد يفضّل استبدال خدمات "الأونروا" المخصصة للفلسطينيين بخدمات الحكومة الأردنية. ومن المؤكد أنّ زيادة التمويل الأمريكي أو الدولي ستكون مفيدةً في هذا الشأن.
جيمس ليندسي شغل منصب كبير محامي "الأونروا" ومستشارها العام بين عامي 2002 و 2007.