- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
ماذا قد تعني انفراجة مصرية-إيرانية بالنسبة للسياسة الخارجية الأمريكية في المنطقة
اعتمدت إدارة ترامب مقاربة عدائية تجاه إيران. فهي تسعى إلى بناء جبهة موحدة من الدول العربية السنّية للتصدي للطموحات والتصرفات الإيرانية في المنطقة. وستواجه هذه الجبهة الموحدة التدخل الإيراني في الخليج وسوريا والعراق واليمن. ومن المرجّح أن يؤدي التحوّل التدريجي في موقف مصر تجاه إيران إلى إعاقة هذا التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة. وتنبع المحركات الرئيسية لانعكاس مسار السياسة الخارجية المصرية من خوف مصر من الإسلاموية السنّية، ورغبتها في استعادة دورها كقوة إقليمية، فضلاً عن الأزمة المالية الحادة التي تواجهها.
وخلال العقود الستة الماضية، مرت العلاقات المصرية-الإيرانية بثلاث مراحل:
أولاً، في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، كانت المواجهة على أشدها بين الرئيس المصري السابق جمال عبد الناصر وشاه إيران محمد رضا بهلوي بسبب رؤى مختلفة إزاء المنطقة. فقد اعتبر عبد الناصر مصر قائدة المعسكر الثوري المناهض للولايات المتحدة في العالم العربي، في حين جعل شاه إيران من نفسه جزءاً من المعسكر الداعم للولايات المتحدة، وحتى أنه أقدم على بيع النفط إلى إسرائيل، مثيراً ازدراء عبد الناصر.
ثانياً، تحسّنت العلاقات المصرية-الإيرانية بشكل ملحوظ بعد أن قطع الرئيس المصري السابق أنور السادات العلاقات مع الاتحاد السوفياتي وتحوّل نحو المعسكر الأمريكي في المنطقة. وفي ما يُعتبر خير دليل على تقارب العلاقات، وافقت مصر على استضافة الشاه الإيراني بعد الثورة الإسلامية عام 1979.
ثالثاً، تدهورت العلاقات بين مصر وإيران بشكل كبير بعد اندلاع الثورة الإسلامية في عام 1979. فعلاقات مصر الودية مع إسرائيل ومواقفها الموالية للولايات المتحدة في المنطقة ودعمها للعراق خلال حربه مع إيران، وتسمية شارع في إيران تيمناً بأحد قتلة السادات، وعلاقات طهران الجيدة مع دول الخليج العربي كلها عوامل تسببت بتوترات كبيرة في العلاقات الإيرانية-المصرية. وقد جرت عدة مرات محاولات مختلفة لتقريب العلاقات بينهما ولكن دون جدوى. فمصر وإيران لا تتبادلان السفراء حتى الآن.
وبرزت محاولات للتقارب بين مصر وإيران في أعقاب استقالة مبارك في عام 2011. وبعد سبعة أيام من تنحي الرئيس السابق، سمح "المجلس الأعلى للقوات المسلحة" المصرية للسفن الحربية البحرية الإيرانية بعبور قناة السويس للمرة الأولى منذ ثلاثين عاماً.
كما حاولت جماعة «الإخوان المسلمين» رأب الصدع مع إيران. غير أن هذه المساعي لم تدم طويلاً، فمصر لم تستأنف العلاقات الدبلوماسية بشكل كامل. ومع ذلك، فقد استلم الرئيس السيسي السلطة وهو يعتبر الإسلاموية السنّية الخطر الرئيسي المحدق بالمنطقة.
بدورها، ترى الحكومة المصرية أن الإسلاموية السنّية هي المحرك الرئيسي لزعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط. وقد دفع هذا الخوف بصنّاع السياسة في القاهرة إلى الاصطفاف مع جهات فاعلة أخرى، مثل روسيا وإيران، تعتقد مصر أنها تحارب قوات الإسلامويين السنّة في المنطقة. كما ترى القاهرة في دعم مؤسسات وهيكليات الدول القائمة الخيار الأفضل لإرساء الاستقرار في المنطقة، خلافاً للإسلامويين الذين يحاولون تغيير وضع هيكليات الدول ومؤسساتها بهدف تأسيس أنظمة قائمة على السلطة الدينية. ويشعر صنّاع السياسة المصريون بأنهم محاصرين من قبل قوات الإسلامويين السنّة في سوريا وليبيا واليمن والسودان وقطاع غزة وتركيا. وتفاقمت هذه المخاوف بصورة أكثر بفعل تجربة مصر مع جماعة «الإخوان المسلمين» بين عامي 2011 و2013.
وقد دفعت هذه المخاوف بمصر إلى دعم الأسد في سوريا علناً لمنع أي قوة إسلاموية سنية من الاستيلاء على الحكم في حالة تركه منصبه. فمصر تعتبر أن مشاركة الإيرانيين والروس في القتال في سوريا هي خط الدفاع الأول ضد الإسلامويين المتطرفين الذين تقاتلهم القاهرة في شمال شرق سيناء. بالإضافة إلى ذلك، رفض النظام المصري إرسال قوات برية للقتال في اليمن، ويُعزى ذلك بشكل رئيسي إلى خوفه من نهوض أي فروع لـ «الإخوان المسلمين» في اليمن إذا نجح التحالف الذي تقوده السعودية بإلحاق الهزيمة بالحوثيين وحليفهم الرئيس السابق علي عبدالله صالح.
وتفاقمت هذه المخاوف من الإسلامويين السنّة مع ما يعتبره المصريون مكان بلادهم الصحيح في قيادة العالم العربي، مما أثار توترات مع السعودية وأدّى إلى زيادة تقارب المصالح مع إيران. ويرسم صنّاع السياسة المصريون مساراً مستقلاً لبلادهم يتولون فيه زمام الأمور ومن ثم تقتدي بهم بلدان عربية أخرى.
ونتيجةً لذلك، تحرّك الرئيس عبد الفتاح السيسي لاستعادة ما يعتقد أنه مكانة مصر الصحيحة في المنطقة بعد استلامه السلطة في حزيران/يونيو 2014. وقد دعا الرئيس الإيراني حسن روحاني لحضور مراسيم تقلده الرئاسة.
وتمثّلت إحدى أبرز مبادراته بقرار إنشاء قوة عربية مشتركة لكنها باءت بالفشل بسبب اعتراضات العديد من الدول، وفي المقام الأول السعودية. ثم، أقامت السعودية تحالفها الإسلامي ودعت مصر إلى الانضمام إليه. وانضمت مصر على مضض، لكنها كانت مشاركاً متردداً حيث رفضت إرسال قوات برية للقتال في اليمن.
بالإضافة إلى ذلك، أدّى دعم مصر للتدخل الروسي في سوريا إلى قيام علاقة متوترة بين مصر والسعودية، فضلاً عن انتقاد مصر المستمر لانتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكبها الجماعات السنية بينما تتجاهل الانتهاكات التي ترتكبها ميليشيات مؤيدة لإيران وتلك التابعة لـ «حزب الله». وفي النهاية، دفع هذا الأمر بالسعودية إلى وقف شحنات النفط إلى مصر إلى أجل غير مسمى بعد تصويت هذه الأخيرة دعماً لقرار روسي في مجلس الأمن الدولي في تشرين الأول/أكتوبر 2016.
ويكمن جوهر الخلاف السعودي -المصري حول تسامح مصر مع النفوذ الإيراني في سوريا واليمن، من تقييم كل بلد للشعور بالتهديد بطريقة مختلفة. ففي حين تعتبر السعودية أن الإسلاموية الشيعية هي التهديد الرئيسي الذي يواجهها، تنظر مصر إلى الإسلاموية السنّية كما هي عليه على أنها العدو الرئيسي في المنطقة. وبخلاف السعودية، لا يوجد عدد كبير من السكان الشيعة في مصر، كما أن أجهزة الأمن والاستخبارات المصرية نجحت إلى حد كبير في إبقاء التدخل والتأثير الإيراني عند حدّهما الأدنى داخل مصر. وبالتالي، لا تشعر مصر بضرورة التصرّف على نحو عاجل كما هو الحال بالنسبة للسعودية ودول الخليج الأخرى إزاء تنامي قوة إيران ونفوذها.
كما يشعر الرئيس السيسي بجرأة وتشجيع أكبر من عدم وجود معارضة داخلية كبيرة في بلاده بسبب تسامحه مع النفوذ الإيراني في سوريا والعراق ولبنان واليمن. فمن جهة، تدعم معظم النخبة غير الإسلاموية في مصر، بما فيها وزارة الخارجية المصرية، تطبيع العلاقات مع إيران، مثل تبادل السفراء، وما إلى ذلك. وقد رفض الرئيس المصري السابق حسني مبارك مسعى وزارة الخارجية إلى إقامة علاقات أفضل مع إيران ووقف دائماً إلى جانب أجهزة الاستخبارات التي تعتبر إيران تهديداً كبيراً للأمن القومي. بالإضافة إلى ذلك، تؤثّر الأفكار القومية العربية على شريحة كبيرة من المثقفين المصريين الذين لديهم نظرة إيجابية تجاه إيران باعتبارها حضارة قديمة ذات تاريخ قديم، مقارنة بالسعودية التي يعتبرونها دولة أدنى مستوى.
ومن جهة أخرى، يكن إسلامويو مصر احتقاراً كبيراً لإيران باعتبارها دولة شيعية، ولديهم القدرة على تعبئة شريحة كبيرة من السكان ضد النظام. غير أن الرئيس السيسي نجح في استمالة معظم معارضيه الإسلاميين أو تحييدهم.
ويمثّل الوضع المالي السيئ في مصر عاملاً مساهماً آخر في تقارب المصالح الذي يجمعها مع إيران في المنطقة. فقد نجحت الحكومة المصرية في التفاوض بشأن اتفاق نفط مع العراق يعوّض جزئياً عن شحنات النفط السعودية التي تمّ إيقافها في تشرين الأول/أكتوبر 2016 في أعقاب تصويت مصر دعماً للقرار الروسي في مجلس الأمن الدولي. وإذا استمر خلاف القاهرة مع السعودية، قد يكون التحوّل إلى إيران أحد أبرز خيارات مصر، لا سيما بعد رفع العقوبات الاقتصادية عن طهران. إن حاجة القاهرة الملحة إلى الأموال قد تجبر الحكومة المصرية على استئناف السياحة الإيرانية. يُذكر أن الرئيس السابق محمد مرسي كان قد وافق على السماح للسياح الإيرانيين بالقدوم إلى مصر في عام 2013 من أجل زيادة إيرادات بلاده على الرغم من أنه جاء من خلفية سنّية تنظر إلى إيران على أنها عميل طائفي في المنطقة. غير أنه عكس قراره في وقت لاحق تحت وطأة ضغوط الجماعات السلفية ووكالات الاستخبارات والأمن المصرية.
ومع ذلك، تدرك مصر أن اصطفافاً كاملاً مع إيران يعني خسارة مالية هائلة. فدول الخليج لا تزال تملك استثمارات بمليارات الدولارات في مصر، وزوّدت مصر بمبالغ تزيد عن 30-50 مليار دولار بعد انقلاب عام 2013. بالإضافة إلى ذلك، يعمل الملايين من المغتربين المصريين في دول الخليج، حيث يعتمد الاقتصاد المصري بشكل كبير على تحويلاتهم المالية للحصول على العملة الأمريكية الضرورية من أجل تعزيز احتياطي مصر من العملة الصعبة. ونتيجةً لذلك، لن تتسامح مصر مع النفوذ الإيراني في الخليج وتدخل الجمهورية الإسلامية هناك. كما أن أي تحوّل مستقبلي في الموقف المصري إزاء إيران من المرجّح أن يكون تدريجياً من أجل تقليص الخسائر وزيادة المكاسب إلى أقصى حدّ.
ومن شأن أي عجز أمريكي عن احتواء الخلاف بين مصر والسعودية، وحَذَر مصر من الإسلاموية السنّية، ومشاكل القاهرة المالية، أن تهدّد الجهود الأمريكية لاحتواء إيران. إن السماح لمصر بالمزيد من الميل باتجاه المصالح الإيرانية في المنطقة سيقوّي على الأرجح إيران وحلفاءها، ويؤدي إلى مزيد من عدم الاستقرار فضلاً عن فشل الجهود الأمريكية. لذلك، فإن اتباع إستراتيجية أمريكية تحتوي إيران ولا تتسامح بشكل متزايد مع الإسلاموية السنّية هي السبيل لنجاح أي مساعي تقودها الولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
هيثم حسنين هو زميل "غليزر" في معهد واشنطن. وسام حسنين طالب مرشح لنيل شهادة الماجستير من كلية الخدمة الدولية في الجامعة الأمريكية.
"ذي هيل"