- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 2921
محاكمة المجتمع المدني في مصر: إعادة النظر في قضية الناشطين في المنظمات غير الحكومية
بعد مرور أكثر من أربع سنوات على إدانة ثلاثة وأربعين ناشطاً من العاملين في المنظمات غير الحكومية المصرية والأجنبية، لا تزال هذه القضية تثير التوترات في العلاقات الأمريكية- المصرية. فبالنسبة للكثيرين في واشنطن، شكّلت إدانة جميع الأفراد الأمريكيين السبعة عشر بارتكاب جنايات - ومن بينهم نجل أحد الوزراء في إدارة أوباما - رمزاً لمقاربة مصر القمعية المتزايدة تجاه المجتمع المدني، وبرّرت إنهاء التمويل الأمريكي للقاهرة. ومع ذلك، يأمل البعض الآخر، في كل من الكونغرس والإدارة الأمريكيين، في حل الأزمة بطريقة تنهي الخطر القضائي اللاحق بالأمريكيين وتمكّن العلاقات الثنائية من المضي قدماً في الوقت نفسه. وفي هذا السياق، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هنا، ما هو الوضع الراهن لقضية المنظمات غير الحكومية وما هي فرص التوصل إلى حل؟
الخلفية
في كانون الأول/ديسمبر 2011، داهمت الشرطة المصرية مكاتب أكثر من اثني عشر منظمة غير حكومية بارزة، بما فيها "المعهد الجمهوري الدولي" (IRI) و"المعهد الديمقراطي الوطني" (NDI) و"فريدوم هاوس"، "مؤسسة كونراد أديناور" و"المركز الدولي الأمريكي للصحفيين". وفي العام التالي، اتهمت محاكم مصرية عشرات الناشطين بتلقي أموال أجنبية، والعمل من دون تصاريح، والتحريض على إثارة الاضطرابات في مصر. وبحلول موعد المحاكمات التي أجريت في حزيران/يونيو 2013، كان جميع الأمريكيين - باستثناء الموظف لدى "المعهد الديمقراطي الوطني" (NDI) روبرت بيكر الذي اختار بكامل إرادته البقاء لحضور جلسات الاستماع - والعديد من المصريين المُدّعى عليهم قد غادروا البلاد. وبالفعل، دفعت الحكومة الأمريكية كفالةً قدرها 330 ألف دولار للمواطن الواحد من أجل السماح للأمريكيين بالمغادرة. وقد وُجد المُدّعى عليهم، الذين حوكم الكثير منهم غيابياً، مذنبين جميعهم وحُكم عليهم بالسجن لمدة خمس سنوات، على أن ينفذوا هذه الأحكام فور عودتهم إلى مصر. وعلى الرغم من أن القاهرة لم تختار القيام بهذه الخطوة، إلّا أنّه بإمكانها أن تقدّم إلى الإنتربول على نحو مماثل أسماء هؤلاء "الهاربين من وجه العدالة" والمطالبة بتسليمهم إذا ما تمّ رصدهم أثناء زيارتهم لأوروبا.
السلطة القضائية المصرية
في أعقاب صدور الأحكام، أصدرت المتحدثة باسم "مجلس الأمن القومي" في إدارة أوباما كيتلين هايدن بياناً أعربت فيه عن قلقها إزاء ما وصفته "محاكمة ذات دوافع سياسية تقوّض حماية حقوق الإنسان العالمية". وعلى الرغم من انتقاد واشنطن، أُجرِيَت المحاكمة مع بعض الاحترام للإجراءات القانونية على الأقل. بمعنى، أن المُدّعى عليهم حوكموا وفقاً لقانون قائم، وكانت المحاكمة علنية. ومع ذلك، عجز هذا الالتزام بالإجراءات عن إخفاء العدائية تجاه المجتمع المدني المتأصلة بعمق في الدولة المصرية. ففي حين تمّ حقاً إنفاذ القوانين، إلّا أنّ التشريع نفسه ينطوي على مشاكل.
وتجدر الملاحظة أن القضاء المصري مؤسسة قوية ذات تاريخ عميق وطويل. ويتمتع القضاة بشعور الانتماء إلى مؤسسة خاصة مكلفة بمهمة خاصة. وبالفعل، بعد ثورة عام 2011، تطلّع عدد كبير من المصريين إلى المحاكم لتوجيه دفة المرحلة الانتقالية. كما أن القضاة لا يتحركون وفقاً لنزوات الرئيس أو الجيش أو أي كيان آخر. وكما يشير عالم السياسة ناثان براون، لا تأتي القرارات القمعية التي يتخذها القضاء المصري غالباً نتيجة "اتصال هاتفي" - أي تدخل مباشر من قبل الرئيس أو الجيش أو أي جهة أخرى، بل يتصرف القضاة وفقاً لمصالح السلطة القضائية وتفسيرها للقانون. ومع ذلك، فنظراً إلى موقف القضاة المصريين بصفتهم أصحاب المناصب - أي شاغلي الوظائف، الذين يستمدون وضعهم القانوني من النظام القائم - فإنهم غالباً ما يميلون إلى اتخاذ قرارات قمعية. وعلاوةً على ذلك، بما أن الحكم الاستبدادي قد حدد معالم القانون المصري على مدى عقود من الزمن، ققد يعني تطبيق القانون بأمانة إصدار قرارات تنتهك حقوق المجتمع المدني.
وبالنظر إلى السياق الاستبدادي الذي عمل في ظله القضاة لفترة طويلة، فإنهم سيتكبدون خسارةً مماثلةً للجميع في حال تغيّر النظام. وهذا ما يفسّر الاضطرابات الكبيرة التي أحدثتها فترة الحكم القصيرة للرئيس الإسلامي محمد مرسي في الجسم القضائي. فقد كان العداء كبيراً تجاه حكومة مرسي وسط مخاوف واسعة النطاق من حملة تطهير. وحتى لو استمر القضاة الفرديون في شغل مناصبهم في ظل نظام جديد، سينقطع مصدر قوة القضاء، الذي هو تاريخه المؤسسي الطويل. أما بالنسبة للقضاة الذين يعتبرون أنفسهم في المقام الأول ممثلين لهذه المؤسسة الأكبر، فلن يقبلوا بمثل هذا التفكك.
سياسة المجتمع المدني
تشكّل قضية المنظمات غير الحكومية خير دليل على التوافق الكامن في سياسة النظام المصري تجاه المجتمع المدني، حتى في سياقات سياسية مختلفة. وفي حين علت نسبياً أصوات المجتمع المدني في عهد مبارك، إلّا أنّ ثورة عام 2011 عززت احتمال قيام المجتمع المدني بإحداث تغيير فعلي في مصر. ولكن خلال حقبة مرسي، وفي ظل الحكومة الحالية أيضاً بقيادة عبد الفتاح السيسي، تمّ شنّ حملة قمع على المجتمع المدني. غير أنه خلال كافة هذه الحقبات، بقي المجتمع المدني حقلاً تتولى الدولة إدارته من خلال التشريعات والقرارات القضائية. فالتحرر المؤقت، كالذي شهدته مصر في حقبة مبارك، لم يغيّر هذا المبدأ الأساسي.
وقد لاحق القضاء المصري أيضاً قضية الناشطين في المنظمات غير الحكومية من خلال ثلاث قيادات لديها اتجاهات مختلفة على ما يبدو. وتم فتح القضية في كانون الأول/ديسمبر 2011، أي عندما كانت مصر تخضع لحكم "المجلس الأعلى للقوات المسلحة"، وهي السلطة العسكرية الانتقالية التي استلمت زمام السلطة فور الإطاحة بمبارك. وقد صدرت الأحكام في نهاية رئاسة جماعة «الإخوان المسلمين» بقيادة مرسي. ولا تزال هذه الأحكام سارية المفعول اليوم في عهد السيسي. وعلى الرغم من أن مصر شهدت تغيرات سياسية عديدة، إلّا أنّ النهج العقابي حيال المجتمع المدني لم يُظهر أي مؤشرات على الانحسار.
ومن الأسباب الرئيسية لهذا النهج الخوف من تجدد الانتفاضات المماثلة لتلك التي هزت مصر بين عامي 2011 و2013. ويبدو أن كل حكومة ترى تنظيم المجتمع المدني وسيلةً للتخفيف من هذا الاحتمال. وفي حين قد يرى البعض أن ربط الحكومة بين المجتمع المدني والاضطرابات الشعبية غير منطقي وينمّ عن جنون الارتباك والشك، فإن الدور الهام الذي أدّته أندية كرة القدم في احتجاجات عام 2011 يُقدّم على الأقل بعض الأدلة على عدم صحة ذلك. وبالفعل، تهدف الأنظمة التي تفرضها الدولة على المجتمع المدني إلى منع أي تحرك جماعي من أي نوع. وفي أيار/مايو 2017، عملت التشريعات التي تستهدف تنظيم المجتمع المدني بناءً على ذلك على اختيار شبكةً واسعةً ضمّت حتى المنظمات التي ليس لديها أي روابط أجنبية أو أي صلة مباشرة بالسياسة.
الخاتمة
بعيداً عن كون قضية المنظمات غير الحكومية حدثاً منفصلاً أو نتيجةً بسيطةً للاضطرابات التي أعقبت ثورة عام 2011، فهي تعكس حذر الحكومة المصرية القائم منذ سنوات طويلة من المجتمع المدني واستعداد المحاكم المصرية في تطبيق قوانين قمعية. وعلاوةً على ذلك، تُظهر هذه القضية والتشريعات اللاحقة أن القاهرة تعتبر السيطرة على المجتمع المدني ضرورية لبقائها. ومن المؤكد أن تعامل الحكومة المصرية مع المجتمع المدني هو اختبار لاستعدادها الشامل لاحترام حقوق مواطنيها الأساسية، وبالتالي اعتباراً هاماً للسياسة الأمريكية. وفي حين أن حقوق الإنسان تبدو مصدر قلق ثانوي ضمن سياسة إدارة ترامب تجاه مصر، فإن العديد من أعضاء الكونغرس يعتبرون بوضوح أن حقوق الإنسان أولويةٌ، وأن هذا التباين قد زعزع العلاقات الثنائية.
وعلى المدى القصير، يبدو أن قضية المنظمات غير الحكومية لا يمكن حلها من خلال حدوث تحوّل في السياسة المصرية أو من خلال ممارسة ضغوط من قبل الولايات المتحدة. وفي هذه الحالة، فإن الالتزام الكبير من جانب القضاء المصري بالنظام الاستبدادي، رغم مظاهر الاستقلال العابرة، يحدد المناخ السائد، تماماً كنظرة الحكومة القائمة على المبدأ القائل بأن السيطرة على المنظمات غير الحكومية يُعد أمراً أساسياً لبقائها. وعلى مدى العام الماضي أو نحو ذلك، أجرت واشنطن مناقشات سرية مع إدارة السيسي بشأن وضع آلية تسمح للرئيس بالعفو عن الأمريكيين المدانين - وهي عملية قد تشمل أولئك المدانين الذين يدلون بشهاداتهم عن بعد خلال جلسات الاستئناف، في خطوة ضرورية لتبرئتهم.
وفي وقت من المزمع فيه أن تجري الانتخابات المصرية في أواخر آذار/مارس، فقد تبرهن براءة المتهمين على المدى القريب على وجود جسر سياسي بعيد المنال بالنسبة للسيسي. فمن المرجح خلال الأسابيع المقبلة أن يقرر القضاء المصري إعادة محاكمة الثلاثة وأربعين ناشطاً بناء على ادّعاء بوجود مشاكل إجرائية شابت المحاكمة الأولى. وفي أفضل الأحوال، قد يواجه المتهم اتهامات أقل جسامة عند إعادة محاكمته.
وفي نهاية المطاف، وفي حين ستكون تبرئة مبتكرة للمواطنين الأمريكيين دليلاً على حسن نية مصر، إلّا أنّها لن تعوّض على إدانة الموظفين المصريين السابقين في منظمات أمريكية في مصر أو غيرها من المنظمات غير الحكومية التي أقفلت أبوابها الآن. كما أنها لن تعالج مشكلة حقوق الإنسان المتجذرة في البلاد. ومن هذا المنطلق، حتى لو تم التوصل إلى حل جزئي لقضية المنظمات غير الحكومية، ستبقى هذه رمزاً للاستبداد في مصر الذي يُعتبر العائق الفعلي أمام توطيد العلاقات الأمريكية -المصرية.
هاريس سيتزر، باحث يركز على سياسة الشرق الأوسط. وقد حصل مؤخراً على شهادة الدكتوراه من "جامعة كورنيل" عن إطروحته بعنوان "السلطة القضائية في الأنظمة الانتقالية: تونس ومصر منذ «الربيع العربي»".