أثار الإعلان عن اتفاقية التطبيع بين دولة الإمارات وإسرائيل في 13 آب/أغسطس 2020، سلسلة من الخطوات التي اتخدتها السلطة الفلسطينية والتي يبدو أنها تقرّبها من خصمها المتمثل بحركة «حماس» والدول الداعمة لها، تركيا وقطر. وتهدف هذه الخطوات من قبل السلطة الفلسطينية للإشارة من الناحية التكتيكية إلى استيائها من الإمارات والبحرين، والإيحاء بأن عجلة النشاط مستمرة بينما تنتظر نتائج الانتخابات الأمريكية المقبلة. ومع ذلك، فقد يكون لهذه الخطوات تداعيات كبيرة يمكن أن تضغط على العلاقات المتوترة بالفعل بين السلطة الفلسطينية وحلفائها العرب التقليديين إلى درجة تصل إلى قطع هذه العلاقات، وإحكام قبضة «حماس»، وخلق ديناميكيات قد تُرغم السلطة الفلسطينية على إجراء انتخابات تؤدي إلى نتائج مزعزعة للاستقرار.
الخلفية
بعد فترة وجيزة من إعلان التطبيع بين الإمارات وإسرائيل، انخرط قادة السلطة الفلسطينية في اتصالات مكثفة مع قطر وتركيا – وهما دولتان تربطهما علاقات عدائية مع الحلفاء التقليديين للسلطة الفلسطينية في السعودية ومصر، وبدرجة أقل، الأردن. وقد اتصل الأمين العام لـ "منظمة التحرير الفلسطينية" صائب عريقات بوزير الخارجية القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني في 20 آب/أغسطس. وبعد بضعة أيام، قام حسين الشيخ، مستشار رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، بزيارة إلى الدوحة في 24 آب/ أغسطس للبحث في سُبل تعزيز الدعم القطري - بما في ذلك المساعدة المالية - للسلطة الفلسطينية. ومن جانبه، اتصل الرئيس عباس بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان في 22 آب/أغسطس. وبعد شهر، أي في 22 أيلول/سبتمبر، التقى ممثلون عن حركَتي «فتح» و«حماس» في اسطنبول وأعلنوا عن اتفاق مصالحة جديد، واتفقوا أيضاً على إجراء انتخابات نيابية.
وتزامن هذا التقارب مع تركيا وقطر مع سلسلة من الخطوات التي أدت إلى تصعيد التوترات ليس فقط مع الإمارات والبحرين ولكن مع السعودية أيضاً (من خلال طرح اقتراح في اجتماع وزراء خارجية دول الجامعة العربية لإدانة الإمارات - وهو اقتراح سلّط بدلاً من ذلك الضوء على عزلة السلطة الفلسطينية بعدم حشد أي دعم عربي)؛ ومع مصر (من خلال نقل رعاية المصالحة من القاهرة إلى اسطنبول، ومؤخراً بإعلان مقتل صيادين من غزة على يد البحرية المصرية)؛ وحتى الأردن، الذي ربما هو الحليف العربي الأخير للسلطة الفلسطينية (من خلال تجاهل المناشدات الأردنية لتخفيف حدة الخطاب والأنشطة الدبلوماسية ضد الإمارات).
النوايا التكتيكية
من وجهة نظر رام الله، لا يُقصد من هذه الخطوات إحداث تحوّل استراتيجي، فالرئيس عباس ينتظر نتائج الانتخابات الأمريكية في تشرين الثاني/نوفمبر لصياغة استراتيجيته الجديدة، سواء كان ذلك إعادة التعامل مع الولايات المتحدة من خلال سياسات أمريكية فلسطينية سيعاد على الأرجح تعديلها في ظل إدارة بايدن، أو إيجاد طريقة تحفظ ماء الوجه لإعادة إقامة الاتصالات مع إدارة ترامب الجديدة.
وهناك أسباب قوية تمنع السلطة الفلسطينية من الإقدام على مثل هذه التحوّلات الاستراتيجية. فمن الناحية الدبلوماسية، لا تستطيع تركيا وقطر على المدى الطويل استبدال الدعم المالي والسياسي الذي يؤمّنه الحلفاء العرب التقليديون للسلطة الفلسطينية. وبدلاً من ذلك، تتوافق الإجراءات الأخيرة للسلطة الفلسطينية مع أسلوب عمل الرئيس عباس وتعكس تكتيكات مماثلة أفادته في الماضي. على سبيل المثال، بعد نقل السفارة الأمريكية في إسرائيل من تل أبيب إلى القدس، كثّف عباس اتصالاته مع أردوغان للضغط على السعودية لاتخاذ موقف أكثر حدةً، وبعد ذلك عادت السلطة الفلسطينية إلى فلك الرياض.
ومن الناحية السياسية، إن عداوة عباس لحركة «حماس» عميقة الجذور، وحتى الآن لم تُعالج الأسباب الجذرية للانقسام - وهي ترسانة أسلحة «حماس» والخلاف العنيد حول البرامج السياسية الأساسية. ومرة أخرى، هناك سابقة لهذا النهج في مواجهة «حماس». ففي عام 2017، وبعد الموافقة على اتفاق مصالحة برعاية مصر، نجح عباس في إيجاد طرق لتجنب تنفيذه. وفي الواقع، على الرغم من الإعلان الأخير عن الاتفاق بين «فتح» و «حماس» بشأن إجراء الانتخابات، وفي محاولة للحفاظ على بعض المجال للمناورة، لم يُصدر عباس حتى تاريخ كتابة هذه السطور مرسوماً رسمياً يدعو إلى إجراء الانتخابات.
من هنا، لا تدل هذه المناورات على تحوّل استراتيجي بل تهدف إلى تحقيق هدفين. أولاً، تهدف إلى التعبيرعن استياء السلطة الفلسطينية من رد الفعل العربي على اتفاقيتَي التطبيع، ويتجلى ذلك في تهديد السلطة الفلسطينية بالانتقال إلى محور بديل في محاولة للضغط على تلك الدول. ثانياً، إنها وسيلة لتحريك العجلة الدبلوماسية والسياسية، وصولاً في النهاية إلى كسب الوقت حتى تشرين الثاني/نوفمبر. وعلى الصعيد المحلي، تهدف محادثات المصالحة إلى إرضاء الرأي العام الفلسطيني الغاضب من اتفاقيتَي التطبيع، والمستاء بسبب افتقار قيادته إلى المبادرة. بالإضافة إلى ذلك، لدى أولئك المسؤولين عن قيادة هذه الجهود من كلا الجانبين أهدافاً سياسية خاصة بهم: على سبيل المثال، يأمل جبريل الرجوب من حركة «فتح» أن تؤدي تلك المحادثات إلى تعزيز مكانته في المنافسة لخلافة عباس، في حين يستعد صالح العاروري من حركة «حماس» للانتخابات الداخلية للحركة، والمقررة عام 2021.
التداعيات الاستراتيجية
على الرغم من أن السلطة الفلسطينية قد تعتبر خطواتها الأخيرة مجرد تكتيكات، إلا أن النتائج قد تؤدي في نهاية المطاف إلى تقييد خياراتها الاستراتيجية بشكل كبير ووضعها في مأزق لا تود أن تكون فيه.
ومن الناحية الدبلوماسية، لا يوجد صبر كبير للقادة الفلسطينيين في العواصم العربية الرئيسية. فمنذ أن شرعت السلطة الفلسطينية في حملتها الصاخبة ضد الإمارات، وبعد ذلك، البحرين والخليج - وبدرجة أقل مصر - كانت وسائل الإعلام مليئة بالمقالات المنددة بالمسؤولين الفلسطينيين. وحملت مقابلة مطولة أجرتها مؤخراً قناة "العربية" مع السفير السعودي السابق لدى الولايات المتحدة الأمير بندر بن سلطان آل سعود، إشارة لا لبس فيها على استياء الرياض من قيادة السلطة الفلسطينية. وحتى المسؤولون الأردنيون أعربوا بصورة غير علنية عن امتعاضهم من نهج الرئيس عباس.
وفي مثل هذه الظروف المشحونة، قد تؤدي مبادرات الانفتاح المستمرة على أنقرة والدوحة إلى حث القادة العرب على خفض مستوى علاقاتهم مع السلطة الفلسطينية بصورة أكثر، مما يترك عباس دون أي سبيل للعودة إلى الحضن العربي وتصبح السلطة الفلسطينية مضطرة فعلياً للتقرّب من تركيا وقطر. ومن الممكن أن يتفاقم هذا الوضع بصورة أكثر إذا استخدمت تركيا أو قطر القضية الفلسطينية لتأجيج خصوماتها مع السعودية ومصر.
وعلى الصعيد المحلي، تولّد المصالحة زخمها الخاص؛ وبالتالي، كلما سارت بها الأطراف قدماً، كلما زادت التكلفة السياسية التي ستترتب على السلطة الفلسطينية للابتعاد عنها. وقد يكون هذا الزخم، إلى جانب الضغط من قبل تركيا وقطر، أقوى من أن يقاوم عباس إجراء الانتخابات. غير أن إجراءها دون حل الأسباب الكامنة وراء الخلاف - أي التزام جميع المشاركين بحل الدولتين، ونبذ الإرهاب، والتصدي لميليشيات «حماس» - قد يعمّق العزلة الدولية للفلسطينيين على نحو مماثل لتلك التي أعقبت انتخابات "المجلس التشريعي الفلسطيني" عام 2006.
وقد يكون السيناريو الذي يشهد تحوّل السلطة الفلسطينية نحو محور تركيا وقطر معطِّلاً. إذ تُعتبر كلتا الدولتين شريكتان مقربتان من «حماس». فقطر هي الداعم المالي الرئيسي للحركة في غزة - وهو دور سمحت به إسرائيل لمنع الانهيار الإنساني والأمني في القطاع الساحلي - وتستضيف بعضاً من قيادتها. وتقدم تركيا الدعم السياسي للحركة، ووفقاً لبعض التقارير ذهبت أنقرة إلى حدّ منح بعض أعضاء «حماس» جوازات سفر تركية. فضلاً عن ذلك، قد يؤدي مثل هذا التحوّل إلى إضعاف التأثير الملطِّف الذي يمارسه الحلفاء التقليديين للسلطة الفلسطينية. وقد تؤدي خسارة الدعم المالي العربي إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية في الضفة الغربية وإحداث المزيد من التقلبات. بالإضافة إلى ذلك، فإن إعادة إدخال «حماس» إلى السلطة الفلسطينية لن يؤدي إلى عزل هذه السلطة على الساحة الدولية فحسب، بل قد يؤدي أيضاً إلى إنهاء التعاون الأمني الفلسطيني الإسرائيلي - وهو سبب رئيسي للاستقرار الأمني النسبي في الضفة الغربية - وإثارة المخاوف في الأردن. وقد سبق أن حذّرت إسرائيل "السلطة الفلسطينية" من تداعيات إعادة «حماس» إلى الضفة الغربية.
ولتجنب هذه النتائج، يجب على الدول العربية الرئيسية - وخاصة الأردن ومصر والسعودية - أن توجّه رسالة إلى حكومة رام الله توضح فيها ثمن مسارها الحالي، مع إشراك السلطة الفلسطينية في السبل التي يمكنها من خلالها الاستفادة من توجهات التطبيع الجديدة بين العرب وإسرائيل. وعلى المستوى الفردي، فقد سبق لكل من عمّان والقاهرة أن أبلغت رام الله بمخاوفها، ولكن مع تأثير ضئيل، مما يؤكد على الحاجة إلى اتباع نهج منسّق. ونظراً لعلاقة الأردن المميزة مع السلطة الفلسطينية ونفوذه معها، فباستطاعته الاضطلاع بدور رئيسي في إدارة هذا التبادل، ولكن لا يسعه لعب هذا الدور إلا بدعمٍ سعودي ومصري.
وليس هناك الكثير الذي يمكن للولايات المتحدة فعله بشكل مباشر للتأثير على هذه الديناميات لأن السلطة الفلسطينية قطعت جميع الاتصالات مع إدارة ترامب احتجاجاً على سياساتها، لا سيما تلك المتعلقة بالقدس. ومن جانبها، قطعت الولايات المتحدة بالفعل مساعدتها للفلسطينيين ولا يمكنها استخدام المساعدة كوسيلة ضغط. وعوضاً عن ذلك يجب على واشنطن أن تشجّع حلفاءها في المنطقة بصورة غير علنية على اتباع نهج منسّق.
غيث العمري هو زميل أقدم في معهد واشنطن.