في 31 تشرين الأول/أكتوبر، توصل فريق من موظفي "صندوق النقد الدولي" إلى اتفاق مع مصر يتيح صرف الدفعة الخامسة من المساعدات المالية من أصل ست دفعات بقيمة مليارَي دولار أمريكي كان قد تم الاتفاق عليها في تشرين الثاني/ نوفمبر 2016. ويعكس تقييم المنظمة الإيجابي للإصلاحات الاقتصادية في القاهرة رغبة الرئيس عبد الفتاح السيسي في تفعيل إعادة الهيكلة المالية المؤلمة التي رفض أسلافه الموافقة عليها أو أوقفوها فجأةً قبل إنجازها. والآن وقد بدأت البلاد تخرج من حالة الركود الاقتصادي، يتعين على واشنطن حثها على تفعيل الإصلاحات السياسية التي تمنح المواطنين مساحةً أكبر للانخراط مع قادتهم ومناقشة مستقبلهم.
انتعاش مالي
أدت ثورة 25 يناير 2011 إلى انعدام الاستقرار السياسي والأمني، الأمر الذي تسبب في الندلاع أزمة اقتصادية بعد أن تراجعت عائدات مصر التقليدية من الاستثمار الأجنبي المباشر والسياحة بشكل كبير. فبعد أن أطاح السيسي بالحكومة بزعامة «الإخوان المسلمين» في عام 2013، وافق في النهاية على برنامج تقشف اقترحه "صندوق النقد الدولي" يرمي إلى زيادة الإيرادات من خلال الإصلاح الضريبي وخفض النفقات عن طريق قطع الدعم على الطاقة. وفي المقابل، تعهد "صندوق النقد الدولي" بتقديم 12 مليار دولار على شكل قروض منخفضة الفائدة.
ومنذ ذلك الحين، تحسنت السلامة المالية للبلاد بشكل ملحوظ، وعادت إلى حد كبير إلى المستويات التي كانت عليها قبل الثورة. ويتوقع "صندوق النقد الدولي" أن يصل النمو إلى نسبة 5.3٪ هذا العام و 5.5٪ في عام 2019 - أي بنسبة تفوق تلك التي وصل إليها خلال رئاسة حسني مبارك والتي بلغت 4.3٪. كما بلغ احتياطي العملات الأجنبية 44.5 مليار دولار في الشهر الماضي، مقارنةً بـ 36 مليار دولار في كانون الأول/ديسمبر 2010. وفي أوائل تشرين الثاني/نوفمبر، أشارت وزيرة السياحة رانيا المشاط إلى أن عدد الأجانب الذين زاروا مصر زاد بنسبة 40٪ من أيلول/سبتمبر 2017 إلى أيلول/سبتمبر 2018. وفي الوقت نفسه، أدّى تحسين توجيه الإعانات إلى خفض حالات التسرّب (أي تحويل الموارد إلى أهداف غير مقصودة مثل الأغنياء)، في حين قدمت البرامج الاجتماعية الأكثر تركيزاً تحويلات نقدية ووجبات مدرسية مجانية إلى الفقراء. وقد دفعت هذه التحسينات إلى قيام "صندوق النقد الدولي" بالثناء على "السياسة النقدية الحكيمة" للبنك المركزي وعلى "التزامه بسياسة مرنة لسعر الصرف"، في حين أشاد "البنك الأوروبي لإعادة البناء والتنمية" بـ"القدرة التنافسية المحسّنة" في مصر.
وإذا تمت الموافقة على توصية فريق الموظفين، ستترك هذه التوصية دفعةً واحدة فقط ليتم صرفها في آذار/مارس 2019 قبل أن تستكمل مصر البرنامج - وهو إنجاز لم تحققه البلاد قط. فقد اختار الرؤساء السابقون الانسحاب من برامج "صندوق النقد الدولي" بمجرد تمكنهم من تخفيف العجز في ميزان المدفوعات أو تخفيض الفوائد التي تُدفع على الديون الخارجية. إن استعداد الرئيس السيسي مواصلة التقدم يعكس القدرة على اتخاذ قرارات تنطوي على مخاطر سياسية كان يفتقر إليها أسلافه، ولا سيّما مبارك.
الكثير مما يجب عمله
لا يخلو الوضع من بعض الصعوبات، إذ أشارت النشرة الأخيرة لوزارة المالية إلى أن العجز في الميزانية السنوية انخفض بنسبة 0.1٪ فقط في شهري تموز/يوليو وآب/أغسطس، أي ما يعادل انخفاضاً سنوياً بنسبة 0.6٪ (رغم أن الحكومة تتوقع أن يتقلص العجز بنسبة 1.4٪ في السنة المالية 2019، نزولاً إلى 8.4٪). ومن جهة أخرى، ارتفع دعم الإعانات الغذائية من 2.6 مليار دولار في السنة المالية 2017 إلى حوالى 4.8 مليار دولار في ميزانية العام المالي 2019، بينما انخفض الاستثمار الأجنبي المباشر من 7.93 مليار دولار في السنة المالية 2017 إلى 7.72 مليار دولار في السنة المالية 2018 - أي بعيداً عن الذروة التي بلغت 10.9 مليار دولار في عام 2007، قبل حدوث الانهيار المالي. وعلى الرغم من عودة مصر مجدداً إلى أسواق الدَيْن من خلال عروض السندات الدولية بدلاً من اعتمادها على قروض مصرفية محلية باهظة التكاليف، لا تزال وكالات التصنيف الرئيسية الثلاث تعتبر الائتمان الخاص بها شديد المضاربة.
ولهذه الأسباب، تعاظَم حجم الدين الخارجي للبلاد من 35 مليار دولار في كانون الأول/ديسمبر 2010 إلى 92.6 مليار دولار في حزيران/يونيو 2018. ومع انخفاض المساعدات الخارجية إلى حوالى 63.2 مليون دولار في العام المالي 2019، سيتعين على القاهرة خدمة هذا الدين بمفردها. وأمّا مدفوعات الفائدة فمن المتوقع حالياً أن ترتفع إلى 42٪.
كما فشلت مصر في الوفاء بمعايير "صندوق النقد الدولي" فيما يتعلق بتقديم آلية تلقائية لمؤشر سعر الوقود ووضع خطط لبيع الشركات المملوكة للدولة. وعلاوةً على ذلك، ما زالت البلاد تعاني من أوجه قصور في الاقتصاد الجزئي فيما يخص إنتاجية العمّال، والقدرة التنافسية للصناعة، ومهارات العمال غير المتطابقة، ووفورات الحجم الكبير (وفقاً لـ "صندوق النقد الدولي"، تُمثل الشركات التي تضم خمسة موظفين أو أقل نسبة 60٪ من القطاع الخاص في مصر). وفي الواقع، لم تشهد القاهرة الكثير من التقدم في تحقيق هدف "صندوق النقد الدولي" المتمثل في "الإصلاحات الهيكلية لتشجيع نمو أكبر وأكثر شمولاً، وزيادة فرص العمل للشباب والنساء".
ومن الناحية التاريخية، كان الاستهلاك المحلي هو الداعم لنمو مصر وليس الصادرات - وهو اتجاه فشل في توليد العملة الصعبة اللازمة لخدمة الدَيْن ودعم السلع الأساسية الأجنبية التي يتم شراؤها مثل القمح. وإلى حين تعالج مصر هذه التحديات، ستظل متخلفةً عن البلدان الأخرى.
انتكاس سياسي
على الرغم من أن مصر قطعت أشواطاً مهمة في إصلاح الاقتصاد الكلي، إلا أن التحرر السياسي قد تراجع منذ أن استولى السيسي على السلطة. وفي خطابه أمام الكونغرس في آب/أغسطس من هذا العام، أشار وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو إلى أن "المناخ العام لحقوق الإنسان في مصر مستمر في التدهور"، مع قيام القاهرة "بإنفاذ تشريعات تتعارض مع التزاماتها في مجال حقوق الإنسان". كما وافقت "منظمة العفو الدولية" على وصف البلاد بأنها "سجن مفتوح للنقاد" في حملة أقامتها في أيلول/سبتمبر.
وفي تموز/يوليو، أقر البرلمان المصري تشريعاً يُخضع للمراقبة أي شخص لديه أكثر من 5 آلاف متابع على وسائل التواصل الاجتماعي. كما سبق وأن تم احتجاز مواطنين مصريين بسبب تعبيرهم عن آرائهم حول مواضيع غير مؤذية من الناحية السياسية مثل التحرش الجنسي - غير أن هذه الانتقادات غالباً ما كانت تمر دون عقاب في عهد مبارك. ففي تشرين الأول/أكتوبر، على سبيل المثال، اعتُقل الخبير الاقتصادي عبد الخالق فاروق بسبب نشره كتاباً يلوم فيه الفساد [كأحد أهم العقبات التي تعوق القضاء] على الفقر، رغم أنه كتب عدة مقالات مماثلة في الماضي.
وكانت إحدى النقاط المضيئة هي تعليق السيسي الأخير الذي يحث على مراجعة القانون المثير للجدل من عام 2016، والذي جعلت قيوده من المستحيل على المنظمات غير الحكومية العمل واقعياً. وقد أثارت هذه القيود غضب إدارة ترامب، التي ردت بحجب مساعدات مالية بقيمة 261 مليون دولار في العام الماضي. ورغم أنه قد تم الافراج عن المساعدات في نهاية المطاف في أواخر شهر تموز/يوليو، إلا أن الضغوط الأمريكية والدولية ساهمت على الأرجح في استعداد السيسي للمصادقة على تعديل القانون. بيد، يبقى أن نرى ما إذا كان سيفي بوعوده، لأنه قد يعمل بكل بساطة على استرضاء المحْسِنين الأجانب بوعود فارغة.
توصيات في مجال السياسة العامة
لا تزال واشنطن تعتبر مصر حليفاً عربياً قيماً على الرغم من فقدان القاهرة لنفوذها الإقليمي في السنوات الأخيرة. ومن أجل تعزيز الاستقرار، ينبغي على المسؤولين الأمريكيين تشجيع حكومة السيسي على رفع بعض القيود المفروضة على الحريات المدنية والسياسية، وعلى وجه الخصوص، مشروع القانون الذي يجرّم نشر "الأخبار الكاذبة"، ومن ضمنها انتقادات غير مؤذية للمجتمع أو الرثاء بشأن حالة السبات التي تشهدها البلاد، وبالتالي وقوع العديد من المواطنين العاديين في شباك هذا التشريع. وهناك أيضاً قانون مرهق آخر يفرض على المواقع الإخبارية الالكترونية دفع مبلغ37,500 دولار مقابل الحصول على الترخيص الإعلامي، وهو مرسوم صنفته منظمة "مراسلون بلا حدود" ضمن فئة "الابتزاز".
وعلى الرغم من هذه القضايا، قام السيسي بتعزيز الاقتصاد وساعد على استقرار الوضع في الفترة المضطربة ما بعد مبارك. ومن هذا المنطلق، لا يبدو أن حكمه في خطر، مما يجعل التدابير التقشفية لإبقاء الشعب تحت السيطرة غير ضرورية. يجب على الولايات المتحدة تشجيع مصر على إلغاء هذه الإجراءات، وتفضيل الالتماسات الهادئة على التهديدات بإجراء تخفيضات إضافية في المساعدات. ونظراً لعلاقة ترامب الودية مع السيسي، يمكن طرح هذه الطلبات في إحدى مكالماتهما الهاتفية المتكررة. إذ يشير الضغط الذي مارسته واشنطن حول قانون المنظمات غير الحكومية إلى أن مصر لا تزال عرضةً لتأثير الولايات المتحدة. وينبغي استخدام مثل هذا النفوذ لإعادة القاهرة إلى مسار التحرير السياسي.
باراك بارفي هو زميل باحث في "مؤسسة أمريكا الجديدة"، ومتخصص في الشؤون العربية والإسلامية.