- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
مصريٌّ يذهب إلى إسرائيل
خلال طفولتي في مصر، رسمتُ في ذهني صورةً عن أبناء وطني اليهود بالاستناد إلى مختلف برامج المسرحيات التلفزيونية المصرية التي كانت تصوّرهم على أنهم جواسيس ولصوص وطابور خامس. ولم أكن أعرف شخصيَّاً أي شخص يهودي. وبطبيعة الحال، شعرتُ بالصدمة خلال زيارتي الأولى لإسرائيل عام 2014، عندما قابلتُ رجلاً تحدّث إليّ بطلاقة بلهجةٍ عراقية عربية كانت مليئة بالكلمات البذيئة. وعرّفني هذا الرجل إلى مفهوم "اليهود المزراحيين" أو يهود الأراضي الشرقية.
عاش اليهود المزراحيون وازدهروا لأكثر من ألف عامٍ في بقعة أرضٍ شاسعة امتدت من المغرب إلى الهند وآسيا الوسطى. وقد وصل بعضهم إلى تلك البقعة في زمن الكتاب المقدّس، في حين جاء بعضهم الآخر بعد طردهم من إسبانيا في عام 1492. وغالباً ما كانوا يُعامَلون كمواطنين من الدرجة الثانية، لكنّهم أنشأوا رغم ذلك ثقافةً متنوّعة ومميّزة في الأماكن التي استقروا فيها.
لكن هذه القصة آلت إلى نهاية صاعقة بالنسبة إلى معظم اليهود الذين كانوا مقيمين في الأراضي العربية في عام 1948، عندما ردّت بعض الدول كاليمن وليبيا على إنشاء دولة إسرائيل بطرد سكّانها اليهود من أراضيها. ومنذ عام 2014، خصصت الحكومة الإسرائيلية يوم 30 تشرين الثاني/نوفمبر - وهو اليوم الذي صوّتت فيه الأمم المتحدة على تقسيم فلسطين إلى دولتين يهودية وعربية في عام 1947 - "يوم مغادرة اليهود وطردهم من البلدان العربية وإيران".
عندما التحقتُ بكلية للدراسات العليا في "جامعة تل أبيب"، صادَقتُ يهوداً مصريين طيّبين كانوا يدعونني إلى مأدبات العشاء التي يقيمونها مساء ليالي السبت حيث كنّا نأكل أطباقاً مصرية لذيذة، ونتشارك حبّنا للموسيقى والثقافة العربيتين، ونتحدّث عن السياسة. فكنتُ أشعر أنني في منزلي.
في قلب تل أبيب التقيت بـ راحمو، وهو يهوديٌّ مصريٌّ مفعمٌ بالحيوية يبلغ من العمر 73 عاماً كان يقدّم في مطعمه الفلافل المكوّنة من الفول على الطريقة المصرية، بدلاً من تلك المصنوعة من الحمّص على الطريقة الإسرائيلية المشرقية. وكان قد علّق صوراً للأهرام وأبو الهول عند مدخل متجره دلالةً على فخره المستمر بانتمائه المصري.
استخدم هذا الرجل اللغة العربية المصرية المتقنة ليصف مأساة الهجرة إلى إسرائيل مع عائلته عندما كان عمره 13 عاماً. فبعد الهرب من الاضطهاد في مصر، وُضعت عائلته في مخيّمٍ في إسرائيل حيث تعيّن على والدَيه اللذين كانا ينتميان إلى الطبقة المتوسطة الميسورة أن يعملا في مجال البناء ليؤمّنا لقمة العيش. وبما أنهم كانوا يعيشون في أرضٍ يستوطنها ويهيمن عليها اليهود الأوروبيون أو الأشكناز، غالباً ما شعروا بأن إخوتهم اليهود يحطّون من قدرهم. فقد قال لي العام الماضي: "لم يكونوا على علم أننا المصريين أكثر ثقافة وأدباً، وليس من مختلقي المشاكل".
ومَثَلُهم مَثَل العديد من مجموعات المهاجرين، كان اليهود المزراحيون يشعرون أحياناً أن ثمن تقبل الآخرين لهم هو الاستيعاب الكامل أو التخلي عن ثقافتهم القديمة. فلم يعُد عددٌ كبير من الأجيال اللاحقة يتحدّث اللغة العربية أو يتمسك بتقاليده الفريدة. وقال أحد أساتذتي في تل أبيب ذات مرّةً في الصف إنه اعتاد بصفته ابناً لمهاجرين عراقيين أن يتفاخر أمام زملائه بوالده الذي كان يتحدث الإنكليزية والفرنسية. ولم يذكر العربية مطلقاً.
وفي الوقت نفسه، يتذكّر اليهود المزراحيون جيّداً التمييز الذي تعرضوا له في البلد القديم. فقد كان العديد من اليهود العراقيين والمغاربة في إسرائيل على قيد الحياة عندما كان الاضطهاد في أسوأ حالاته في الأربعينيات والخمسينات. وما زال بعضهم يشعر بمرارة تدفعهم إلى دعم أحزاب اليمين المتطرف في إسرائيل. وفي هذا السياق يتذكّر أحد أصدقائي عتاب جدّته التي كانت تقول: "لن يفهم الأشكنازيون أبداً العرب كما نحن نفهمهم. جلّ ما يعرفونه هو المحرقة".
ولكن المشهد تغيّر اليوم إذ أصبح المجتمع اليهودي أكثر شمولية. ويتم تكريم الثقافة اليهودية الشرقية، ولم يعُد الزواج بين المزراحيين والأشكناز يشكّل مشكلةً. كما أن اليهودي المزراحي آفي غباي يرأس اليوم "حزب العمل الإسرائيلي"، وهو حزب المعارضة الرئيسي الحالي والميدان التاريخي لليهود الأشكناز منذ زمن الإيديولوجيين الصهاينة الأوروبيين.
وبصفتي مسلماً، أدرك تماماً وجود مئات آلاف اللاجئين الفلسطينيين الذين تُركوا يُعانون في المخيّمات لعقودٍ من الزمن، غير مرحّبٍ بهم في أراضي جيرانهم العرب والمسلمين. وفي الآونة الأخيرة، يجد اللاجئون السوريون أنفسهم معزولين في مدنٍ من الخيم أو يواجهون تمييزاً عندما يحاولون الاندماج في بلدانٍ جديدة. بيد أن الاستيعاب الناجح لليهود من الدول الشرقية في إسرائيل - عبر الحواجز اللغوية والثقافية - يشكّل قصة نجاحٍ معاصرة تستحق أن يتم تذكّرها والاحتفال بها ومحاكاتها.
هيثم حسنين هو زميل "غليزر" في معهد واشنطن.
"وول ستريت جورنال"