
- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 3998
عندما تلتقي الريفييرا مع الصمود: لماذا لا يتطابق الواقع الفلسطيني مع خطة ترامب بشأن غزة

تستند رؤية ترامب لإعادة تأهيل قطاع غزة إلى اعتبارات اقتصادية ونفعية بحتة، لكنها تتجاهل الارتباط العميق للفلسطينيين بأرضهم الذى لا يزال يشكل مكوناً أساسياً من مكونات الهوية الوطنية الفلسطينية.
واجهت رؤية الرئيس ترامب لإعادة تأهيل قطاع غزة معارضة واسعة من قبل المجتمع الدولي وجميع دول الشرق الأوسط، باستثناء إسرائيل، إضافة إلى رفض الفلسطينيين. وتقوم رؤية ترامب على فكرة نقل مليوني فلسطيني يعيشون في القطاع إلى دول أخرى، تحديداً مصر والأردن المجاورتين، على الرغم من أن التقارير الإعلامية أوردت أيضًا وجهات أبعد مثل المغرب وأرض الصومال وبونتلاند. وفي 4 شباط/فبراير، الماضي، قال الرئيس الأمريكي: "آمل أن نتمكن من القيام بشيء جيد لا يجعلهم يرغبون في العودة مرة أخرى"، بينما وصف أعضاء في إدارته إجلاء الفلسطينيين بأنه ترتيب ”مؤقت“ أو ”مرحلي“، وستقوم الولايات المتحدة بعد ذلك بالإشراف على مشروع إعادة التأهيل، بينما ستتكفل دول أخرى بتمويله. ومن المفترض أن تتحول غزة إلى "ريفييرا الشرق الأوسط" حيث يمكن للناس من جميع أنحاء العالم الاستقرار فيها، في حين "سيتم إعادة توطين الفلسطينيين في مجتمعات أكثر أمناً وجمالاً.
وردًا على ذلك، أعلنت كل من السلطة الفلسطينية وحركة "حماس" - على الرغم من خلافاتهما المريرة حول قضايا أخرى - أنهما لن تقبلا أي ترتيب يتعارض مع "حق العودة" الفلسطيني، مما يعكس روح الصمود التي طالما كانت سائدة في المجتمع الفلسطيني. وقد وصف رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس الخطة بأنها "انتهاك خطير للقانون الدولي" وسارع إلى التنسيق مع مصر والأردن وقطر والسعودية والإمارات العربية المتحدة لبلورة موقف مشترك. وأكدت حركة "حماس" أنها لن تسمح "بالتطهير العرقي" والتهجير القسري للفلسطينيين من غزة، حيث قال العضو البارز في الحركة عزت الرشق: " إن الخطة تعكس جهلًاً عميقاً بفلسطين والمنطقة، غزة ليست عقارا يُباع ويُشترى، وهي جزء لا يتجزأ من أرضنا الفلسطينية المحتلة ".
وبالمثل، استقبل الجمهور الفلسطيني إعلان ترامب بمشاعر مختلطة من الدهشة والغضب والإحباط. ورفضت الغالبية العظمى من المعلقين هذا الاقتراح رفضاً قاطعاً، واعتبروه مثالًا آخر على نية إسرائيل تدبير نكبة جديدة كما حدث أثناء الحرب، في إشارة إلى مصطلح "النكبة" الذي يُستخدم لوصف عمليات التهجير التي تعرض لها الفلسطينيون إبان تأسيس دولة إسرائيل. ويجسد تعليق لإحدى الشابات الغزاويات، نُقل في وسائل الإعلام، حجم الشعور العام هناك حيث قالت: "نحن لسنا بناية مهجورة يمكن لأحد أن يدعي ملكيتها. نحن شعب. نحن ننتمي إلى هذه الأرض". وتساءل آخرون بسخرية عن سبب عدم عرض ترامب الولايات المتحدة كوجهة للهجرة الفلسطينية. وبالمثل، أعرب مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي الفلسطينيون عن استيائهم مما يعتبرونه مؤامرة أمريكية إسرائيلية لمحو هويتهم الوطنية. ويصف العديد من المعلقين الوضع الراهن للحركة الوطنية الفلسطينية بأنه يشهد تراجعًا كبيرًا، حيث تعاني من التفكك الداخلي والضعف وتعتمد بشكل كبير على الدعم الخارجي لإفشال خطة ترامب. كما أشاروا إلى أن الحركة فشلت في حشد مقاومة شعبية واسعة النطاق ضد الخطة. ومع ذلك، ظهرت بعض الأصوات المنعزلة بين الفلسطينيين التي رحبت بفكرة ترامب، معتبرة إياها فرصة محتملة لمستقبل أفضل لهم ولأبنائهم.
ويعكس اقتراح ترامب - الذي يتألف من مجموعة من المبادئ العامة أكثر من كونه خطة مفصلة - مقاربته الأساسية في التعامل مع الشؤون السياسية. فبصفته رجل أعمال، فهو ينظر إلى الأفراد باعتبارهم كائنات اقتصادية تعطي الأولوية للمكاسب الشخصية الملموسة - مثل الرخاء الذي يستمدون منه كرامتهم - على الأهداف الجماعية المجردة مثل الاستقلال الوطني والهوية الثقافية أو الدينية. ويتجسد هذا المنظور أيضًا في مقترحاته المتعلقة بغرينلاند وكندا وقناة بنما، حيث يستبدل المفهوم السياسي "للسيادة" بمصطلح ”الملكية“ الاقتصادي" ويتعامل مع الأراضي كما لو كانت عقارات قابلة للبيع والشراء.
واستنادا إلى وجهة النظر هذه ، فإن تقديم مزايا مادية للفلسطينيين لحثهم على التخلي عن روايتهم الوطنية تُعد محاولة لتعزيز ما يُسمى بـ"السلام الاقتصادي". إلا أن هذه المقاربة لا يمكن أن تتحقق بنجاح إلا بين الدول ذات السيادة، حيث لا يُطلب من أي منها التخلي عن عناصر أساسية من هويتها مقابل الحصول على مكاسب اقتصادية. ومن الأمثلة البارزة على ذلك اتفاقات "أبراهام"، وهي ذروة إنجازات السياسة الخارجية لإدارة ترامب خلال فترة رئاسته السابقة.
سياسات الهجرة في الماضي
لا تُعد فكرة تسوية النزاع عبر تحفيز هجرة الفلسطينيين من قطاع غزة فكرة مستحدثة. بل شكّلت في حقيقة الأمر عنصراً محورياً في الاستراتيجية الإسرائيلية عقب احتلال 1967. وقد ظهرت بوادر هذا النهج في وقت مبكر من الاحتلال الإسرائيلي في الفترة 1956-1957. في السنوات الأخيرة، قدم سياسيون من التيار اليميني الإسرائيلي رؤى مشابهة، سواء قبيل اندلاع الحرب الحالية أو في أعقابها. وقد كشفت دراسة أجراها الباحث عمري شافير رافيف، الذي تخصص في دراسة السياسة الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين بعد حرب الأيام الستة، أن إسرائيل عملت على تعزيز المبادرات الرامية إلى تشجيع هجرة الفلسطينيين (نقلهم فعليًا) إلى وجهات خارج نطاق سيطرتها، ولا سيما أمريكا اللاتينية ودول الخليج العربي. كما درست إسرائيل أيضًا سيناريوهات إعادة توطين سكان غزة في مناطق خاضعة لسيطرتها مثل الضفة الغربية، وسابقاً في سيناء.
هدفت هذه السياسات في بدايتها إلى دفع سكان غزة إلى المغادرة بشكل كامل، أو على الأقل لدفع جزء كبير منهم إلى الرحيل. إلا أن إخفاق هذه الجهود، إلى جانب المناقشات السياسية الداخلية — حيث تساءل البعض عما إذا كان تقليل عدد سكان غزة يستحق زيادة عدد الفلسطينيين في الضفة الغربية — دفع إسرائيل إلى تغيير تركيزها وتشجيع هجرة فئات محددة من سكان غزة. وشمل ذلك بشكل خاص الأفراد الذين تم تصنيفهم كمتطرفين أو اعتُبروا مصدر تهديد أمني، لا سيما الشباب المتعلمين. وقد سعت إسرائيل إلى تحقيق هذا الهدف من خلال تقليص فرص العمل المناسبة في غزة.
وعلى أرض الواقع، لم تؤدِّ السياسات المصممة خصيصًا لتشجيع هجرة الفلسطينيين سوى إلى مغادرة عدد محدود للغاية من الأشخاص. بيد أن التدابير السياسية الأوسع نطاقًا مثل فتح الحدود كان لها تأثير أكبر - فبحلول عام 1987، غادر أكثر من 94,000 من سكان غزة (ما يقرب من ربع سكان القطاع عام 1967) من خلال الهجرة “الهادئة والعفوية". وفي الآونة الأخيرة، أفادت عدة منظمات دولية بأن ما بين 250,000-350,000 فلسطيني غادروا غزة خلال الفترة الممتدة من سيطرة حماس على القطاع في عام 2007 حتى تشرين الأول/أكتوبر 2023. كما غادر ما بين 115,000 -135,000 شخص آخر بين هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر وإغلاق معبر رفح في أيار/مايو 2024. ووفقًاً لنتائج استطلاع أجراه الباروميتر العربي في أيلول/سبتمبر 2023، فإن ما يقارب ثلث سكان غزة وخُمس سكان الضفة الغربية يفكرون في الهجرة لأسباب اقتصادية، أو سياسية، أو أمنية، أو مرتبطة بالحكم. وخلال السنوات الأخيرة، برزت تركيا كوجهة رئيسية للفلسطينيين المغادرين من غزة، رغم أن غالبيتهم يخططون لمواصلة رحلتهم إلى وجهات أخرى، وتحديدًا أوروبا، كندا، والولايات المتحدة وقطر.
مخاوف عربية
من وجهة نظر الدول العربية، افتقرت خطة ترامب إلى عنصرين جوهريين: الأول: ضمان إبقاء جزء من الفلسطينيين على الأقل في غزة لأثبات أن عملية إعادة التأهيل ممكنة حتى مع بقاء السكان؛ والثاني، إدراج العملية ضمن مسار سياسي، حتى لو كان طويل الأمد، بما يؤدي في النهاية إلى إقامة دولة فلسطينية. وستسعى هذه الدول إلى إظهار استعدادها للمساهمة بفاعلية من خلال توفير المساعدات المالية والمعدات والمستشارين والخطط الهندسية، بل وحتى تشكيل قوة أمنية أو مدنية عربية مشتركة في غزة – وهي خطوة لم تُقدم على تنفيذها حتى الآن. كما تعوّل هذه الدول على أن يساهم ذلك في حمل ترامب إلى التخلي عن خطته، لا سيما وأن الإدارة الأمريكية أعلنت انفتاحها على بدائل أفضل.
وفي الوقت عينه، تبذل قطر وتركيا جهوداً لدمج "حماس" في مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية. غير أنه نظراً لعدم وجود حوار مباشر بين "فتح" (الفصيل المسيطر على منظمة التحرير الفلسطينية) و"حماس"، فمن غير المرجح أن يتمكنا من التوصل إلى اتفاق مفصل. عوضاً عن ذلك، قد يقترح كلا الفصلين تشكيل إطار عام، مثل إنشاء لجنة مدنية تابعة لمؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية، على أمل أن ترى إدارة ترامب في ذلك إجراءً كافياً، على الأقل في البداية.
خاتمة
تقوم رؤية ترامب لهجرة الفلسطينيين من غزة وتحويل المنطقة إلى "ريفييرا"على أساس منطق اقتصادي براغماتي. إذ إن بعض الفلسطينيين قد يهاجرون إذا كانت الظروف مواتية - على سبيل المثال، إذا توفرت لديهم الوسائل اللازمة للمغادرة، وإذا كانت هناك وجهات مرحبة ومتطورة. ومع ذلك، تبقى الهجرة الجماعية كجزء من خطة سياسية رسمية - لا سيما تلك التي تحول دون عودتهم - أمراً مستبعداً. وفي نهاية المطاف، تظل روح الصمود عنصراً جوهرياً من مكونات الهوية الوطنية الفلسطينية، وبدونها، ستفقد الحركة الوطنية الفلسطينية مبرر وجودها.
وتجدر الإشارة إلى أن رؤية ترامب تنشأ في سياق الفراغ الناتج عن غياب خطة إسرائيلية واضحة وقابلة للتطبيق لـ"اليوم التالي" في غزة. وإذا نجحت إسرائيل في صياغة مثل هذه الخطة، فستتمكن من تشكيل الوضع "من النهر إلى البحر"، بينما تفتح الطريق لتعزيز العلاقات مع الدول العربية.
نعومي نيومان هي زميلة زائرة في معهد واشنطن، حيث تركز على الشؤون الفلسطينية. وعملت سابقاً كرئيسة لوحدة الأبحاث في "وكالة الأمن الإسرائيلية"، أو "الشاباك"، وفي وزارة الخارجية الإسرائيلية. ومؤخراً بدأت نيومان دراسة الدكتوراه في جامعة تل أبيب.