- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
عندما يعلو صراخ روسيا، تتحرّك تركيا
من بين حوالي عشر دول مجاورة لتركيا، واحدة فقط تخافها تركيا بالفعل: إنّها روسيا. ويتأصّل هذا الخوف في التاريخ ليعود إلى عهد السلطنة العثمانية. فقد سيطر الأتراك العثمانيون في مرحلة معيّنة من الماضي على كل جارات تركيا المعاصرة أو هزموها من اليونان إلى سوريا، إلّا أن الاستثناء الوحيد كان روسيا.
ما بين القرن الخامس عشر، عندما أصبحت الأمبراطوريتان العثمانية والروسية جارتَين، والعام ١٩١٧ سنة الثورة البلشفية، خاض الأتراك والروس في ما بينهم ١٧ حرباً على الأقل. وكانت روسيا قد حرّضت على كل واحدة منها، وخسر الأتراك كل تلك الحروب على التوالي. ولسبب وجيه، على مرّ العصور، تأصّل في النخبة التركية خوف كبير من موسكو.
في الواقع، غالباً ما كانت القوّة العسكرية الروسية عاملاً في تشكيل السياسة العثمانية والتركية. وكما كتب زميلي أكين أونفر في مقالة له في صحيفة «فورين أفيرز»، عندما استولى الروس على شبه جزيرة القرم عام ١٧٨٣- الأرض الأولى بغالبية مسلمة التي خسرها الأتراك لصالح قوّة مسيحية - حثّ ذلك حركة التغريب التركي. شعر الأتراك بالإذلال على يد الروس لدرجة أنّهم قرّروا اعتماد طرق أوروبية للتصدّي للأمر. وفي النهاية، أنتجت عملية الحداثة هذه مصطفى كمال أتاتورك، مؤسس الجمهورية التركية.
وفي زمن أكثر حداثة، عندما طالب ستالين أراضٍ من تركيا (مثل البوسفور عام ١٩٤٦)، اتّخذت أنقرة قراراً تضمّن انعكاسات بعيدة المدى من خلال اختيارها الانحياز إلى جانب الولايات المتحدة خلال الحرب الباردة. يبدو أنّ الخوف من روسيا يجبر الأتراك على فعل كل ما يلزم لإيجاد حماية من موسكو: ففي العام ١٩٥٠، أرسلت تركيا قوّات إلى كوريا البعيدة لمحاربة الشيوعيين مثبتةً التزامها تجاه الولايات المتحدة. وقد كافأت واشنطن أنقرة على خطوتها هذه في العام ١٩٥٢ من خلال عضوية تركيا في حلف شمال الأطلسي (الناتو).
إنّ الخوف من روسيا قد خدم كمحفّز أساسي للمناورات السياسية التركية طوال مئات السنين. لهذا يُعتبر إسقاط أنقرة الأخير للطائرة الروسية، التي خرقت الأجواء التركية لبرهة فقط، أكثر منطقية بعد التدقيق.
بصفتها قوّة عسكرية منبعثة، خرقت روسيا أجواء حلفاء "الناتو" بشكل مستمرّ، بدءاً من أستونيا وصولاً إلى المملكة المتحدة، لكن لم تعمد أيّ من هذه الدول على إسقاط طائرة روسية. فالطائرات اليونانية والتركية تخترق أجواء بعضها بعض بشكل دائم، لكنّ تركيا لا تسقط أي طائرة يونانية. بعبارات أخرى، هناك أمر مربك بشكل خاص في القرار التركي الذي قضى إطلاق النار على الطائرة الروسية: ليس هذا التصرّف التركي روتيناً، وليس ردّة فعل معهودة للناتو. بالإضافة إلى ذلك، مع الأخذ بعين الاعتبار المعطيات التاريخية، كان يجب على أنقرة أن تدرك أنّ احتمالات فوزها بمواجهة عسكرية بمفردها مع روسيا هي شبه معدومة.
يمكن تفسير موقف تركيا العدائي تجاه روسيا من خلال الحرب في سوريا حيث تطرح أنقرة وموسكو سياستان متناقضتان تماماً. فمنذ عام ٢٠١١، كانت لسياسة تركيا تجاه سوريا فكرة واحدة وهي: الإطاحة بنظام الرئيس السوري بشار الأسد الذي، وعلى العكس من ذلك، نجحت روسيا في دعمه. وحتى الآن، فشلت سياسة أنقرة تجاه سوريا ونجحت موسكو.
ومع دعم روسيا للأسد في سوريا، من الواضح أنّ نظامه لن يسقط. ولم تعترف أنقرة حتّى الآن بفشلها علناً، إلا أن تركيا قد خفضت في الواقع من حدّة سياستها تجاه سوريا.
هدف سياسة تركيا تجاه سوريا اليوم إلى حفظ مكان لأنقرة على الطاولة عندما تعقد المفاوضات للبحث في مستقبل سوريا. وسيحصل ذلك فقط إذا حافظ المتمرّدون المدعومون من تركيا على المناطق الاستراتيجية في شمال غرب سوريا، مما يعطي معنى إضافياً للضربات الجوّية الروسية الأخيرة ضدّ هؤلاء المتمرّدين. وتهدّد مثل هذه الضربات بإضعاف هذه الجماعات المتمرّدة، وتقوّض بالتالي سياسة تركيا تجاه سوريا التي خُفّض سقفها مؤخّراً.
إنّه ذاك الخوف من الاستبعاد من سوريا بفعل الهجمات الروسية على المتمرّدين المنحازين لتركيا هو الذي دفع تركيا إلى اتخاذ موقف عدائي شديد ضدّ روسيا، ما أدّى إلى إطلاق الزناد وإسقاط الطائرة يوم الجمعة الماضي. والسؤال هو: كيف ستردّ موسكو؟ في حين أنّ روسيا هي الجارة الوحيدة التي تخشاها أنقرة بالفعل، يعتبر الروس تركيا مصدر إزعاج تاريخي لا يمكن أن يسمحوا له أن يقف في دربهم ودرب أهدافهم. ولذلك، لن تقبل موسكو بأي شيء أقلّ من أن تتنحّى تركيا في سوريا، بالإضافة إلى اعتذار كامل من أنقرة. وحتى اليوم، إنّ كلا الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورئيس الوزراء أحمد داوود أوغلو قد أبعدا احتمال الاعتذار.
قد تطلق روسيا في الأيام المقبلة مجموعة خطوات انتقامية مصمّمة لإذلال أنقرة. وبأخذ ذلك بعين الاعتبار، ستستهدف روسيا شمال غرب سوريا بقوّة متزايدة لاستئصال المتمرّدين الذين تدعمهم تركيا. إنّ حلم بوتين اليوم هو إخراج هؤلاء المتمرّدين من سوريا، ما قد يعني هزيمة كاملة لسياسة أنقرة السورية. ومن المحتمل أن يخلق ذلك موجة جديدة كثيفة من اللاجئين، ما سيزيد من العبء الحالي الذي تحمله تركيا المتمثل بحوالي ٢.٥ مليون لاجئ.
كما قد تلجأ روسيا إلى حرب غير متناسقة ضدّ أنقرة، ما قد يعني، لسوء حظ تركيا، دعماً لـ«حزب العمّال الكردستاني» الذي تحاربه أنقرة.
كما قد تؤمّن روسيا الأسلحة لـ«حزب الاتحاد الديمقراطي»، وهو الفرع السوري من «حزب العمّال الكردستاني»، الذي يهدف إلى احتلال حوالي ٦٠ ميلاً من الأراضي (ممرّ جرابلس- أعزاز) على طول الحدود التركية السورية لوصل الموقعَين في شمال سوريا. ستسمح مساعدة روسيا لـ«حزب الاتحاد الديمقراطي» بإنشاء نطاق على امتداد ٤٠٠ ميل موالٍ لـ«حزب العمّال الكردستاني» يصل تركيا من الجنوب، وذلك بدعم موسكو.
إذ تفاقمت الأزمة الروسية التركية، سينتج عن ذلك تشعّبات خطيرة: إذ ستردّ روسيا على الخطوات الروسية بخطوة تاريخية محتملة.
على واشنطن أن تتحضّر لخطوات تركيا المحتملة. فبعد عقد من محاولة أنقرة أن تصبح لاعباً شرق أوسطياً بنفسها، قد تجد تعزيتها في تحالف الناتو عندما تواجه الخطر الروسي التاريخي، وستميل أكثر نحو الولايات المتحدة.
وكاحتمال بديل، قد تحاول تركيا الردّ ضدّ خطوات موسكو، مصعّدةً الحرب في سوريا من خلال حمل آسيا الوسطى، والشيشان، ووكلاء من شمال القوقاز على المحاربة ضدّ روسيا في سوريا. إنّ هكذا سياسة قد تجد صداها لدى القوميين الأتراك والدوائر الانتخابية الإسلامية في إدارة أردوغان وداوود أوغلو في أنقرة، ما سيعزّز اندفاعهم إلى سياسة خارجية ذات سيادة مطلقة.
في كلتا الحالتَين، قد تكون أنقرة عند منعطف قرار أساسي في السياسة الخارجية: عندما يعلو صراخ روسيا، تتحرّك تركيا.
سونر چاغاپتاي هو زميل "باير فاميلي" ومدير برنامج الأبحاث التركية في معهد واشنطن، ومؤلف الكتاب باللغة الانكليزية "صعود تركيا: أول قوة مسلمة في القرن الحادي والعشرين" الذي سُمّي من قبل "جمعية السياسة الخارجية" كواحد من أهم عشرة كتب صدرت في عام 2014.
"وور أون ذي روكس"