- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 3755
نمو المجتمعات الأوكرانية والروسية في تركيا
بالنسبة إلى المواطنين من كلا جانبيَ القتال في أوكرانيا وروسيا، أدت حرب أوكرانيا إلى تحويل تركيا من وجهة شعبية لقضاء عطلة الصيف إلى ملاذ آمن على المدى الأطول أو موطن دائم على البحر الأبيض المتوسط.
منذ التسعينيات، أصبحت تركيا وجهة رئيسية للسياح والمهاجرين من أوكرانيا وروسيا ودول أخرى من الاتحاد السوفيتي السابق. إلا أن الغزو الروسي لأوكرانيا في عام 2022 أدى إلى توجه موجة أكبر من المهاجرين من كلا البلدين إلى تركيا. وقد استخدم الفارّون من الأزمة مجموعة كبيرة من الوسائل للدخول إلى تركيا والبقاء فيها، ابتداءً من الحصول على "التأشيرات الذهبية" ووصولاً إلى تقديم طلبات الحصول على الحماية. وفي المرحلة القادمة، يمكن أن يُحدِث وجودهم تأثيراً هائلاً على العلاقات الاجتماعية والاقتصادية المستقبلية بين البلدان الثلاثة.
الأوكرانيون والروس في تركيا قبل عام 2022
خلال الحرب الباردة، كان تبادل الأشخاص بين تركيا والاتحاد السوفيتي قليلاً، ففي عام 1964 على سبيل المثال، تُظهر البيانات الحكومية أن 414 زائراً سوفيتياً فقط أتوا إلى تركيا. لكن في العقود التي تلت الانهيار السوفيتي، أصبحت تركيا وجهة رئيسية بسبب بنيتها التحتية السياحية وقربها الجغرافي.
ووفقاً لوزارة الداخلية التركية و"معهد الإحصاء التركي"، ارتفع التدفق السنوي للسياح الروس بشكلٍ مطردٍ من 1.3 مليون في عام 1996 إلى 7 ملايين في عام 2019، وهو أعلى رقم بين كافة الجنسيات. كذلك، ارتفع عدد الوافدين الأوكرانيين إلى تركيا (خاصة في الصيف)، من 93794 زائراً في عام 1996 إلى 1.5 مليون في عام 2019.
وعلى مدى العقدين الماضيين، بدأ هذا التدفق المتزايد بإعادة تشكيل النسيج الاجتماعي في المدن التركية المقصودة. فأصبحت اللغة الروسية سائدة في مدينة أنطاليا السياحية الرئيسية، مما دفع الكثير من العاملين في قطاع السياحة التركي إلى الالتحاق بمدارس اللغة في روسيا. كما زاد عدد الزيجات بين الأتراك وأفرادٍ من روسيا أو أوكرانيا. ووفقاً لـ"معهد الإحصاء التركي"، شكلت الجنسيتان (الروسية والأوكرانية) مجتمعتين 10.1 في المائة من الأزواج الأجانب وفقاً للجنسية اعتباراً من عام 2016. وبالإضافة إلى ذلك، كان 10117 روسياً و7575 أوكرانياً قد مُنحوا تصاريح إقامة بحلول عام 2012، مما أتاح المكوث لفترة أطول في البلاد لأغراض غير سياحية.
التدفق الأوكراني والروسي خلال الحرب
يمكن تلخيص سياسة أنقرة تجاه الحرب بأنها "موالية لأوكرانيا ولكن ليست مناهِضة لروسيا". وتمشياً مع هذا النهج، سمحت هذه السياسة للأفراد من كلا البلدين بالتماس اللجوء المؤقت أو الدائم داخل حدود تركيا منذ العام الماضي.
وبحلول شهر أيلول/سبتمبر، كانت تركيا تستضيف ما لا يقل عن 145000 لاجئ أوكراني. وانخفض هذا العدد منذ ذلك الحين إلى 46000، مع وجود معظم اللاجئين في المدن الكبرى (على سبيل المثال، اسطنبول، إزمير، أنقرة) والمحافظات الساحلية (أنطاليا، موغلا). وتَقدّم نحو 7130 شخصاً بطلبات لجوء. وكما يظهر في البلدان المضيفة الأخرى، عاد معظم اللاجئين المسجلين السابقين على الأرجح إلى أوكرانيا أو غادروا إلى وجهاتٍ أخرى، لكنّ قسماً منهم حصل على وضع قانوني بديل (على سبيل المثال، تصاريح إقامة قصيرة أو طويلة الأجل) أو وجد طرقاً أخرى للبقاء في تركيا (انظر مناقشة "التأشيرة الذهبية" أدناه).
وفي الوقت نفسه، أبقت أنقرة أبوابها مفتوحةً أمام التدفق الأكبر للمهاجرين الروس خلال الحرب، من بينهم الأفراد الذين يسعون إلى تفادي العقوبات، أو الهروب من حكومة فلاديمير بوتين، أو نقل حياتهم وأصولهم إلى الخارج. وشمل هؤلاء المهاجرون روساً أثرياء (على سبيل المثال، الأوليغارشيين رومان أبراموفيتش وديمتري كامينشيك) ومعارضين مختلفين، تراوحوا من الصحفيين المشهورين إلى الأفراد المرتبطين بـ"مؤسسة مكافحة الفساد" التابعة لزعيم المعارضة الروسي أليكسي نافالني.
التأشيرات والجوازات الذهبية
بالنسبة إلى الروس والأوكرانيين على حدٍ سواء، يبدو أن اللجوء إلى خيار "التأشيرة الذهبية"، التي تمنح فيه الحكومة التركية تصاريح الإقامة أو الجنسية مقابل القيام باستثمارات كبيرة، كان المسار الأكثر شيوعاً لتأمين فترة إقامة أطول مدة أو دائمة في تركيا. فعلى سبيل المثال، تتطلب أهلية الحصول على جواز سفر تركي عبر هذا المسار من المتقدمين بالطلبات تخزين ما لا يقل عن 500000 دولار في المصارف التركية أو كأموال دولة، أو شراء القيمة نفسها كسندات حكومية، أو توفير خمسين وظيفة على الأقل في تركيا. وبدلاً من ذلك، يتيح شراء عقارات بقيمة 400000 دولار على الأقل للمتقدم بالطلب الحصول بسرعة على الجنسية التركية، ضمن مهلة 120 يوماً في بعض الحالات.
ويمكن أن يتخذ الأجانب ثلاثة مسارات أخرى أيضاً، وهي: شراء عقارات بقيمة أقل كلفة، أو تأسيس شركة في تركيا، أو استثمار مبلغ أدنى يحدده مجلس الوزراء، وذلك للحصول على تصاريح إقامة قصيرة الأجل تصل مدتها إلى خمس سنوات مع خيار التجديد. وحالما يكمل المقيمون على المدى القصير (وليس طالبي اللجوء) سبع سنوات متتالية من الوجود القانوني في تركيا، يصبحوا مؤهلين للحصول على الجنسية.
تصاريح الإقامة قصيرة الأمد
وفقاً لـ "رئاسة إدارة الهجرة" في تركيا، يحمل 40872 أوكرانياً في الوقت الحالي تصاريح إقامة قصيرة الأجل في البلاد. وبلغ هذا العدد 46804 في نهاية عام 2022، مما يعكس الانخفاض في أعداد اللاجئين منذ أيلول/سبتمبر. ولم تنشر "رئاسة إدارة الهجرة" بياناتٍ عن التصاريح الأوكرانية القصيرة الأجل قبل الحرب، لأن الأوكرانيين لم يكونوا من بين الجنسيات العشر الأولى التي تمتعت بهذا الوضع القانوني حتى عام 2022. وهُم يحتلون الآن المرتبة العاشرة، بعد أن كانوا في المركز التاسع العام الماضي.
أما الروس فقد وصلوا إلى مرتبة أعلى على تلك القائمة. فقبل غزو أوكرانيا، تفوّق العراق إلى حد كبير في إرسال معظم المقيمين على المدى القصير إلى تركيا، بينما احتلت روسيا المرتبة الخامسة. لكن في عام 2022، قفزت نسبة السكان الروس من نحو 4.8 في المائة من إجمالي المقيمين على المدى القصير في تركيا إلى أكثر من 10 في المائة. وفي الوقت الراهن، يتمتع 145092 روسياً بهذا الوضع القانوني، مما يشكل انخفاضاً طفيفاً بعد أن كان عددهم يبلغ 145715 في عام 2022. وقد نتج هذا التراجع على الأرجح عن حصول أعداد كبيرة من الأثرياء الروس على جوازات سفر تركية، ثم انتقالهم إلى بلدان ثالثة أو عودتهم إلى وطنهم الأم مع تمتعهم بالقدرة على دخول تركيا متى شاؤوا.
مشتريات العقارات
وفقاً لبعض البيانات التي نشرها "معهد الإحصاء التركي"، شهدت مشتريات الأوكرانيين من المنازل في تركيا طفرة هائلة بنسبة 106.4 في المائة بين عامَي 2021 و 2022، حيث ارتفعت من 1246 منزلاً إلى 2572 منزلاً. وسيستمر هذا النمو على الأرجح في عام 2023، نظراً إلى أن عدد المنازل التي سبق أن تم بيعها منذ أيار/مايو للمشترين الأوكرانيين وصل إلى 1540.
وعلى النحو نفسه، زادت مشتريات الروس من المنازل خلال الحرب. فمن بين المشترين الأجانب، بلغ عدد المنازل التي اشتراها الروس ثالث أكبر رقم بين عامَي 2019 و2021، بعد الإيرانيين والعراقيين. لكنهم تصدّروا القائمة في عام 2022، إذ شكلت نسبة مشترياتهم 25 في المائة تقريباً من إجمالي المشتريات الأجنبية (ارتفعت من 5379 منزلاً في عام 2021 إلى 16582 في عام 2022، بزيادة قدرها 208.3٪). واعتباراً من الشهر الماضي، كانوا قد اشتروا 5723 منزلاً إضافياً، مما يشير إلى أن الطفرة التي شهدها زمن الحرب ستستمر في عام 2023.
وأدى النمو في شراء الروس والأوكرانيين للعقارات إلى زيادة الطلب المحلي بشكلٍ كبيرٍ، مما أسفر عن استبعاد الكثير من الأتراكٍ من السوق في المناطق المعنية بسبب غلاء الأسعار. فعلى سبيل المثال، في أنطاليا، التي هي عاصمة السياحة على الشواطئ التركية، ارتفعت أسعار الإيجارات بنسبة فاقت 300 في المائة في بعض الحالات. ووفقاً لـ "غرفة التجارة والصناعة" في أنطاليا، أصبح الآن حوالي سبعة من أصل كل عشرة عملاء مستأجرين هناك روساً أو أوكرانيين.
الخاتمة
على الصعيد التاريخي، شكلت تركيا وجهةً للهجرة من بعض أنحاء أوروبا، شملت الأراضي العثمانية السابقة في البلقان وحول البحر الأسود. وتُعتبَر الهجرة من روسيا وأوكرانيا ظاهرة جديدة نسبياً هناك (بصرف النظر عن تدفق "الروس البيض" بعد ثورة عام 1917، وانتقال العديد منهم لاحقاً إلى الولايات المتحدة أو أوروبا الغربية). وبعد أن أصبح الآن الوافدون من هذين البلدين يزورون تركيا بأعدادٍ أكبر ويرسّخون فيها جذوراً اجتماعية واقتصادية، أصبح بإمكانهم بناء مجتمعات سلافية كبيرة هناك مع مرور الزمن، وهو تطورٌ من شأنه أن يزيد التنوع في تركيا، ويبني أيضاً جسوراً بين كافة البلدان الثلاثة.
سودي أكغوندوغدو و كولين تريسيل هما مساعدان باحثان في "برنامج الأبحاث التركية" التابع لمعهد واشنطن.