- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
عقيدة الهجوم: تنظيم «الدولة الإسلامية» في حالة الدفاع
مضى أكثر من ثمانية أشهر على اتخاذ تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» («داعش»)/«الدولة الإسلامية» مواقف دفاعية في العراق، وخسر فعلياً كل معركة خاضها. وقد أخذت المساحات الخاضعة لسيطرة «داعش» تنحسر ببطء ولكن بانتظام، بعد أن بلغت ذروتها في آب/أغسطس 2014. واعتمدت قدرة التنظيم على بسط سيطرته على الأراضي إلى حد كبير على مكامن الضعف لدى خصومه. وعندما خصصت «قوات الأمن العراقية» والبيشمركة الكردية الموارد لشن هجوم على «داعش»، استطاعت أن تقضي على دفاعاته، لا سيما عندما كانت القوة الجوية الغربية وأجهزة استخباراتها وتخطيطها للعمليات جزءاً كبيراً من هذا المزيج.
سنستعين في هذا المقال بدراسات حالات من معارك جرت مؤخراً في شمال وسط العراق لإظهار أن تنظيم «الدولة الإسلامية» يتّبع نمطاً عملياً دفاعياً مميزاً يشوبه عدد من نقاط الضعف التي يمكن استغلالها بينما يدرس التحالف الدولي شن هجمات جديدة في محافظة الأنبار والموصل. وفي نواح كثيرة، يشبه نمط الدفاع الذي يعتمده «داعش» ذلك الذي اتبعه الجيش الألماني بين عامي 1944 و1945. فعلى المستوى التكتيكي، تُعتبر عناصره شديدة الخطورة ولا تزال قادرة على تحقيق الانتصارات في الاشتباكات، ولكن على مستوى العمليات تفتقر إلى التماسك الأستراتيجي وتُظهر عجزاً مزمناً عن الدفاع عن الأراضي التي تحت سيطرتها.
النمط العملياتي الذي يتبعه تنظيم «الدولة الإسلامية»
يعتمد النمط العملياتي الذي يتّبعه «داعش» في العراق، على غرار كافة التنظيمات، على تركيبة التنظيم وهيكليته وأيديولوجيته وقيادته. وكما يُظهر عدد من الدراسات، يبدو أن بعض المخططين الكفؤين حقاً، تولوا بفعالية قيادة تنظيم «الدولة الإسلامية» على المستوى الاستراتيجي، ولكن على مستوى العمليات يبدو أن هناك فرصة ضئيلة لقيام سيطرة مركزية. وبدلاً من ذلك، فإن العمليات العسكرية التي يقوم بها «داعش» أصبحت تدريجياً أكثر تفككاً ومحلية من حيث نطاقها وحجمها منذ سقوط الموصل.
ويبدو أن عدة إيديولوجيات وأهداف متباينة تدفع العمليات العسكرية لتنظيم «الدولة الإسلامية» باتجاهات مختلفة. فداخل القيادة هناك أصحاب الأيديولوجيات السلفية وضباط الجيش البعثيين السابقين وهجناء من الإثنين. أما جنود الجبهة الأمامية فيضمون مزيجاً من مقاتلين ينشطون بدوام جزئي ويختصون بموقع معين ومساعدين عراقيين انضموا إلى «داعش» لفترة زمنية غير معروفة، وعراقيين مهجرين قد يكونوا مستعدين للقتال في أي مكان يرفع فيه تنظيم «الدولة الإسلامية» رايته، ومقاتلين أجانب رُحل تماماً تختلف درجات التزامهم بالساحة العراقية وبمواقع عراقية محددة. ويبدو أن أكثر من نصف مقاتلي «داعش» هم تحت سن الثلاثين، مع أن بعضهم أكبر سناً بكثير من ذلك.
وقد أوجد الاختلاف في مصادر المحاربين رؤى متباينة لكل وحدة عملياتية في تنظيم «داعش»، الناشطة على الساحة العراقية. فقد يبدي بعض هؤلاء المحاربين التزاماً كبيراً بالقتال في موقع واحد فقط، لا سيما عندما ترتبط مشاركتهم مع تنظيم «الدولة الإسلامية» بصراعات قبلية وطائفية محلية. وبالنسبة لبعض المنتسبين الذين يركزون اهتمامهم على موقع محلي معيّن فإن خسارة المعركة في ذلك الموقع تعني انتهاء الحرب. وسيركز عدة محاربين على تجربتهم الشخصية مع الجهاد ومسيرتهم الخاصة وإنجازاتهم بحثاً عن السمعة والمجد العسكري. أما آخرون فقد يبدون التزاماً أكثر جدية بكثير بأهداف قيادة تنظيم «الدولة الإسلامية» وهي: الدفاع عن أراضي الخلافة وفرض بنية دينية في تلك الأراضي طالما يكون ذلك ممكناً. وفي كثير من الحالات، ستبرز اختلافات بين احتياجات التنظيم وتفضيلات أفراده.
ثم هناك الأمور العملية التي تقوم عليها القوة العسكرية: مثل الخبرة والأعداد والمعدات. فنواة تنظيم «الدولة الإسلامية» ما زالت عبارة عن تحرك عسكري صغير جداً في العراق. فهي صغيرة للغاية لدرجة أنها لا تستطيع مواصلة الدفاع عن الأراضي الواقعة حالياً تحت سيطرتها بشكل دائم. وتتفاخر بأنها تضم عدة قادة وحدات صغيرة يتميزون بمهارتهم وقدرتهم على اجتذاب الجماهير، ولكنها ليست مؤسسة عسكرية مهنية وفقا لكل المقاييس. وقد تتقلص قاعدة مقاتليها ذوي الخبرة بفعل معدلات الاستنزاف حتى لو استمر جنود المشاة بالتدفق إلى الجهاد نظراً إلى أن إعداد القادة والمتخصصين يستغرق وقتاً طويلاً، والحرب في العراق تشتد وطأتها فضلاً عن أنها تأخذ في التسرع.
وتُمثل عمليات التسلح مشكلة أيضاً. فرغم أن تنظيم «الدولة الإسلامية» يستطيع الوصول إلى العديد من الأنواع المختلفة من الأسلحة التي تم الإستيلاء عليها، إلا أن ترسانته آخذة في الانحسار بشكل بطيء أيضاً، وذلك بفضل الضربات الجوية المستمرة واشتباكات أخرى. وفي النهاية يمكن اعتبار التنظيم اتحاداً لفرق قتال مؤللة شرسة، تخوض في معظم الأحيان اشتباكات تكتيكية من خلال تعزيز قوة فصائلها العسكرية. للعوامل التنظيمية والأيديولوجية واللوجستية المذكورة أعلاه، على إسلوب «داعش» الدفاعي في الحرب.
هل يستطيع تنظيم «الدولة الإسلامية» الدفاع عن الأراضي؟
منذ حزيران/يونيو 2014، خاض تنظيم «الدولة الإسلامية» عمليات دفاعية كبرى في 14 موقعاً عراقياً على الأقل: الرمادي، سد الموصل، منطقة قرية أمرلي، جلولاء، السعدية، المقدادية، ربيعة، جرف الصخر وشمال بابل، منطقة سامراء- صحراء الجلام - العظيم ، سنجار، بيجي، مخمور، أسكي الموصل، كركوك وتكريت. وقد مُني «داعش» بالخسارة كلما واجه هجوماً حازماً وذو موارد كافية من قبل «قوات الأمن العراقية» أو البيشمركة. وفي الواقع، عندما يرى التنظيم أنه تم التفوق على أعداده، غالباً ما يتخلى عن الأراضي الخاضعة لسيطرته لتتناسب مع الاحتياجات العملياتية الخاصة به، وتصدر عنه إشارات مفادها أنه يدرك بأنه سيتم إقصاؤه في وقت قصير من المناطق التي تمت مهاجمتها. ومع أن تنظيم «الدولة الإسلامية» يبقى في معظم الأحيان في تلك المناطق حتى اللحظة الأخيرة الممكنة قبل الانسحاب منها، إلا أن تاريخه حافل بحالات استنزاف قواته الأساسية في المناطق التي على وشك أن تتعرض لهجوم، على سبيل المثال في جلولاء وجرف الصخر. ونظراً للافتقار الأساسي للقوة العسكرية، لا يستطيع تنظيم «داعش» الدفاع عن أراضي من خلال فرض طوق حصري حولها، إذا قامت أعداد كافية من المهاجمين بشن هجمات. ويتمثل العامل الذي يعيق سرعة التقدم في وجه تنظيم «الدولة الإسلامية» في العراق، في جمع أعداد كافية من القوات العراقية التي تتمتع بالقدرات الضرورية لملء الأماكن الشاغرة.
تشكل منطقة جرف الصخر - المدينة السنية المطلة على طريق الحج بين بغداد وكربلاء، وتم تطهيرها بشكل حاسم واحتلالها من قبل «وحدات الحشد الشعبي» في أواخر تشرين الأول/أكتوبر 2014 - مثالاً مبكراً على الانسحاب الاستباقي تحت غطاء من العبوات الناسفة اليدوية، والمباني المفخخة، والقناصة. وبالمثل، انسحبت القوات الرئيسية لـ «داعش» عندما بدأت هجمات قوات البيشمركة و«قوات الأمن العراقية» التي طال انتظارها في منتصف تشرين الثاني/نوفمبر 2014 بتحرير المدينتين التوأمتين جلولاء والسعدية المحاذيتين لسد حمرين، بعد أن سقطتا بيد تنظيم «الدولة الإسلامية». وفي مجموعة واسعة من المناطق - من المدن الصغيرة مثل سليمان بيك الى مدينة الموصل - يبدو أن «داعش» يسرّع تدميره للمواقع الدينية والثقافية والإدارية (وسحب العائلات التابعة له ومعداته الاقتصادية) عندما يشعر بأن هجوماً على وشك الوقوع. وباختصار، يبدو أن تنظيم «الدولة الإسلامية» يدرك خير إدراك قدراته الدفاعية المحدودة ولديه تقييم واضح حولها.
قواعد اللعبة الدفاعية التي يمارسها تنظيم «الدولة الإسلامية»
على الرغم من تمتع البلدات والمدن بقيمة رمزية واستراتيجية على حد سواء، يبدو أن تنظيم «الدولة الإسلامية» يصب معظم تركيزه على الدفاع الناشط عن المناطق الريفية التي تضم المناطق الحضرية. وفي كثير من الحالات، قد يكون المركز الحضري في المنطقة التي يتم الدفاع عنها الجزء الذي تُخصَص له أقل نسبة من قوات التنظيم المتوفرة. ولم يُظهر «داعش» ميلاً للقيام بأعمال دفاعية تستمر حتى "الرمق الأخير". فالقناصة، والفرق المتنقلة لمطلقي النار، وحقول الألغام المرتجلة السميكة المصنوعة من العبوات الناسفة اليدوية في اسطوانات الغاز الخام، والمنازل التي تحوي على متفجرات هي أكثر من أن تكون كافية لإبطاء قوة آخذة في التقدم، ولكن عدم إيقافها؛ وبالتالي يتم منع هذه القوة من السيطرة على المناطق العامرة بالسكان بدلاً من الدفاع عنها فعلياً.
وغالباً ما يدافع تنظيم «الدولة الإسلامية» بشكل أكثر نشاطاً عن الأحزمة الريفية المحيطة بالمدينة ولفترة أطول. وظهرت هذه الاستراتيجية للمرة الأولى في معركة بغداد عامي 2006 و 2007، عندما لخصت عبارات "أحزمة بغداد" و"التمرد المتنقل" الدور المحوري الذي يضطلع به المحيط الريفي للمعركة الحضرية. ولا تزال هذه الاستراتيجية قائمة. وفي مدينة الرمادي، يتّبع تنظيم «داعش» استراتيجية "التمرد المتنقل" منذ أكثر من عام، بسبب المهمة الصعبة المتمثلة بعدم تخصيص الموارد الكافية لتأمين الأحزمة الريفية في المدينة.
وتعاني جميع المناطق التي ما زال تنظيم «الدولة الإسلامية» يدافع عنها فعلياً من المشلكة ذاتها المتمثلة بالملاجئ القريبة الخارجة عن السيطرة. وفي بعض ساحات المعارك الواقعة في محافظة الأنبار، توفر الصحاري الخارجة عن السيطرة والبساتين على حافة النهر طرق إمدادات وتعزيزات وخيارات بديلة واضحة لـ «داعش». وفي مدينة سنجار، تؤمن الحدود السورية درجة من الأمان لـ تنظيم «الدولة الإسلامية». وما زال «داعش» قادراً على الدفاع في المناطق التي فيها الأكراد مفككين ومنقسمين ولا يوفرون [فيها] الموارد الكافية. وفي مناطق مثل بيجي، المحاذية لصحراء الجلام البعيدة وجبال حمرين، يستطيع تنظيم «الدولة الإسلامية» أيضاً إحباط المحاولات الرامية إلى اقتلاعه. ويزيد «داعش» من صعوبة التحدي من خلال تحديد شكل الأراضي على نطاق واسع. وغالباً ما يعيق حركة القوات من خلال سد ممرات التنقل بحقول ألغام بدائية الصنع وتدمير الجسور الرئيسية.
إن إحدى المعلمات الغير معروفة في قواعد اللعبة الدفاعية لـ تنظيم «الدولة الإسلامية» هي موقفه الحقيقي تجاه المدنيين. فعناصره لم تتمكن من منع تدفق المدنيين من تكريت وجرف الصخر والعديد من المناطق الأخرى، ولكنهم عملوا بشكل فعال على منع سكان الموصل من مغادرتها بفضل مجموعة متنوعة من الإجراءات الأمنية. ومن غير الواضح ما إذا كان سبب ذلك هو رغبتهم في منع هجرة السكان من المدينة الأكبر للخلافة أو ما إذا كانوا يخططون لاستخدام سكان الموصل كدروع بشرية أو وسيلة للحد من تأثير الضربات الجوية. ولم يدافع «داعش» بتاتاً عن مدينة مأهولة من قبل. والأسئلة التي تطرح نفسها هي: هل سيطردون السكان أو يسمحون لهم بالمغادرة عندما تبدأ العملية العسكرية؟ وهل يتبنون المقاربة نفسها في أماكن أخرى أم سيتم اتخاذ ذلك القرار على الصعيد المحلي؟ ينبغي على البحوث التي ستجرى على المدى القريب أن تمنح الأولوية لوجهة نظر تنظيم «الدولة الإسلامية» بشأن وجود المدنيين في المنطقة المدافع عنها.
الدفاع النشط
عندما يلتزم تنظيم «الدولة الإسلامية» بالدفاع عن منطقة، غالباً ما يختار المقاربة الأكثر هجومية وعدائية للمهمة. ويعكس ذلك على الأرجح طريقة تفكير عدة قادة صغار في التنظيم، الذين يبدو أنهم يمتلكون هامشاً كبيراً من الحرية فيما يتعلق بالتخطيط للعمليات وتنفيذها. ويبدو أن العديد من وحدات «داعش» تعاني من "الارتباك التكتيكي" المزمن، الذي يتمثل بحاجة شبه مَرَضية لاتخاذ زمام المبادرة ومهاجمة العدو. ويمكن لهذه المقاربة أن تحافظ على المعنويات وتعزز الخبرة العملياتية للجنود الصامدين وهذا ما تقوم به فعلاً، إلا أنها تُنهك القوات أيضاً وتؤدي بشكل مستمر إلى استنزاف قوتهم الإجمالية.
وخير مثال على هذا الارتباك هو الميل إلى شن هجمات مضادة تكتيكية فور التعرض لنكسة. وهذا الميل يشبه تقريباً الغريزة العقائدية ويشكل أحد أوجه الشبه بين وحدات «داعش» والقوات الألمانية خلال المرحلة الأخيرة من الحرب العالمية الثانية. وتُظهر تجربة الجيش الألماني ["الفيرماخت"] الثمن الباهظ الذي قد يترتب عن الهجمات المضادة المتوقعة، في وجه تعاظم قوة العدو وتفوقه الجوي.
إن معدلات نجاح مثل هذه الهجمات المضادة الفورية آخذة في التقلص أكثر فأكثر. فبعد سقوط مدينة الموصل، فرغت ساحات المعارك إلى حد ما في العراق، وظهرت فجوات قابلة للاختراق بين القوات، مما أتاح لـ تنظيم «الدولة الإسلامية» قابلية تحرك كبيرة. ولم تتعلم «قوات الأمن العراقية» وقوات البيشمركة حتى الآن كيفية تعزيز قبضتها على المواقع الجديدة التي تكتسبها وهي تفتقر للأسلحة المضادة للدروع والدعم الجوي.
وما زال تنظيم «داعش» يحاول خوض الحرب القائمة على الهجمات المضادة رغم غياب الظروف المُثلى لمثل هذه الحرب في الوقت الراهن. وتقوم «قوات الأمن العراقية» وقوات البيشمركة حالياً بعمليات إخلاء أكثر منهجية مع أعداد كبرى من الوحدات التي تعمل بتعاون وثيق ويرافقها في معظم الأحيان دعم جوي غربي أو عراقي. وتقدم الجبهة الأمامية الكردية بين الموصل ومخمور دراسة حالة مفيدة في هذا الإطار. فخلال فترة دامت أسبوع واحدة، حاول تنظيم «الدولة الإسلامية» شن 10 هجمات كبرى على الجبهة الممتدة على طول 170 ميل. وتم صد ثمانية منها بمساعدة القوة الجوية الغربية، بينما تم شل الهجومين الباقيين حتى قبل بدئهما عندما دمرت الطائرات قوات الهجوم في مناطق تجمعها. ومع أن مسألة تعداد الضحايا تتطلب مقاربة حذرة، ربما لا تكون تصريحات التحالف الدولي، بأنه أوقع أكثر من 150 إصابة، بعيدة كثيراً عن الواقع.
ولعدة أشهر، بدا قادة تنظيم «الدولة الإسلامية» غير مستعدين لتقبل فكرة أن الكفة العسكرية لم تعد لصالحهم في العراق. فالتزامهم بصيغة من "عقيدة الهجوم" قادهم إلى تجربة صيغتين أكثر كلفة من الحرب القائمة على الهجمات المضادة. وارتكزت الأولى على إنشاء احتياطات تكتيكية مؤلفة من "الأجهزة المتفجرة المرتجلة المثبتة في مراكب للهجمات الانتحارية"، وهي غالباً قوة ذات ردة فعل سريعة مؤلفة من الشاحنات المفخخة الانتحارية المدرعة. واستُخدم هذا النوع من القوة الصادمة في عدد من ساحات المعارك هي سدالعظيم وحقول النفط في حمرين وتكريت، إلا أن أكبر هجوم مضاد سُجل في بلدة أسكي موصل، جنوب سد الموصل. ففي 21 كانون الثاني/يناير 2015، حققت قوات البيشمركة تقدماً مهماً عبر جبهة امتدت على طول 30 ميلاً وشكلت على ما يبدو تهديداً لمدينة الموصل. ورداً على ذلك، استخدم تنظيم «داعش» احتياطاته العملياتية. ففي مشهد يمكن استخراجه من رؤيا الواقع المرير التي تشتهر بها أفلام الآكشن "ماكس المجنون" (Mad Max)، تم توجيه 14 "جهازاً متفجراً مرتجلاً لمراكب الهجمات الانتحارية" باستخدام ناقلات نفط مدرعة وذلك لصد تقدم البيشمركة، وقد دُمرت جميعها بواسطة القوة الجوية الغربية والصواريخ الموجَهة المضادة للدبابات قبل أن تصل إلى أهدافها.
وتمثلت تجربة مكلفة أخرى بهجوم مضاد واسع النطاق شنه تنظيم «الدولة الإسلامية» بين 9 و11 كانون الثاني/يناير 2015 والذي اعتُبر أكبر عملية منسقة نفذها «داعش»، إذ جمع أكثر من عشر خلايا بحجم الفصائل لشن هجمات على المنطقة الخاضعة لسيطرة قوات «حكومة إقليم كردستان» بين الحدود السورية ومخمور. وارتكزت العملية على التطويق المزدوج للقوات الكردية التي كانت قد تقدمت في جنوب غرب إربيل وصولاً إلى نهر دجلة، في عمق الأراضي الخاضعة لسيطرة تنظيم «الدولة الإسلامية» منذ حزيران/يونيو 2014. وقد تعرض الجزء الشمالي من النتوء الأرضي الكردي لسلسلة من "هجمات الأنهار" بحجم الفصائل عبر نهري دجلة والزاب، فيما رزح الجزء الجنوبي تحت وطأة الغارات المؤللة المكثفة شمال نهر دجلة، مما سمح باجتياح نقاط الحراسة المتقدمة للقوات الكردية التي وصلت إلى النهر. وكانت العملية مذهلة، وحققت مفاجآت تكتيكية من خلال شن هجمات في الفجر تحت غطاء الضباب الذي يلف النهر، وما زالت القوات الكردية معرقلة في المنطقة أثناء كتابة هذا المقال. إلا أن الجبهة التي فُتحت بفعل الهجوم المضاد قادت قوات تنظيم «الدولة الإسلامية» إلى معركة مضنية في المناطق المفتوحة حيث ما زالت القوات الكردية والقوة الجوية الغربية تلحق إصابات فادحة في صفوف التنظيم. وقد يكون هذا الهجوم المضاد على المستوى العملياتي الذي شنه «داعش» في العراق "معركة الثغرة" الخاصة بالتنظيم - وهي المعركة التي تمثل الجهود الألمانية العبثية والمكلفة في نهاية عام 1944 لاستعادة زمام الأمور في أوروبا الغربية [وهو الهجوم الذي أخذ الحلفاء على حين غرة].
التأثير العملياتي للارتباك التكتيكي
ربما ترتكز "عقيدة الهجوم" المتجلية بالارتباك التكتيكي، على اندماج الحوافز الفردية والجماعية التي تشكل هيكلية تنظيم «الدولة الإسلامية» في العراق. وتتيح السيطرة العملياتية اللامركزية حرية كبيرة للقادة المحليين، على مستوى الفصائل في معظم الأحيان، لتخطيط العمليات وإنجازها. ومن الواضح أن المتطوعين الأفراد يعملون على خلفية التزامهم الشخصي بالجهاد المسلح، ورغبتهم في القتال، وسعيهم على المستوى الشخصي والوحدات الصغرى لتحقيق انتصار. فالدفاع عن أراضٍ معينة، أو حتى عن الموصل ذاتها، قد لا يكون مهماً بالنسبة إلى العناصر البارزة في «داعش» التي لا رابط لها بمواقع عراقية محددة.
وقد يشكل استعداد مقاتلي تنظيم «الدولة الإسلامية» على القيام بعمل هجومي ميزةً. فالتنظيم يخلق تدفقاً مستمراً من العمليات التي تحظى بتغطية إعلامية كبرى وتدعم جهوده الدعائية. وتترك هذه الصور انطباعاً لدى مؤيدي التنظيم بأن «داعش» يواصل حالة الهجوم، في حين أن العكس هو الصحيح. وقد تُعتبر صور الحرب الهجومية وخصوصاً العمليات الانتحارية أدوات تجنيد قوية، ترفع "معدل التجديد" الذي يستطيع فيه التنظيم استقطاب عناصر جديدة.
وعلى المستوى التكتيكي، كثيراً ما أخّرت الدوريات الناشطة التي تجريها وحدات تنظيم «الدولة الإسلامية» [من تقدّم] خصومها. ويستخدم «داعش» دوريات القتال للسيطرة على الأراضي الحيادية، وإيقاف العدو، ومنع أي جمع للمعلومات الاستخباراتية من قبله، واستطلاع طرق الهجوم - شأنه شأن قوات المشاة الماهرة الأخرى. فوحدات التنظيم، التي أصبحت عديمة المشاعر، تقوم - من خلال دورياتها المستمرة والمجموعة الفرعية للهجمات المخططة جيداً - بصدّ الغارات الرامية إلى التفوق على جماعات الجنود المرابطة الصغرى وقتلها أو القبض عليها.
وأثبت تنظيم «الدولة الإسلامية» فعاليته بشكل خاص في السيطرة أثناء الليل والهجوم تحت غطاء ضباب الصباح، مما قوّض إلى حد كبير من ثقة «قوات الأمن العراقية» ووحدات البيشمركة. وقد مكّن ذلك تنظيم «داعش» من التحرك عبر التطويقات بسهولة قصوى كما لو لم تكن موجودة، مما سمح للمجموعات المحاصَرة بتعزيز عددها أو التسلل إلى الخارج، وسمح لـ تنظيم «الدولة الإسلامية» بإعادة تموضع قواته بِحُرية كبيرة. غير أن ميزة التفوق الليلي هذه تلاشت تدريجياً في ساحات المعارك الأكثر سكوناً حيث تم توفير قوة جوية غربية وأدوات استخباراتية لدعم الأكراد، أو بدرجة أقل «قوات الأمن العراقية». وفي زيارة قام بها أحد كاتبي هذا المقال إلى الجبهات الأمامية في كركوك في آذار/مارس 2015، قال أحد جنود المشاة التابعين للبشمركة إنه ليس باستطاعة العناصر الاختصاصية في «داعش» الخروج من مكامنها إلا لبضع لحظات، وذلك لشن هجمات بالأسلحة الثقيلة على مقاتلي البيشمركة قبل أن يتم تدميرها الحتمي من قبل القوة الجوية الموجودة في وضع المراقبة.
ومع ذلك، وبصورة عامة، تأخذ تكاليف العمليات الهجومية في الارتفاع بشكل حاد بالنسبة إلى تنظيم «الدولة الإسلامية» فيما تتقلص منافعها. فقوات البيشمركة و«قوات الأمن العراقية» تخطط لعمليات هجومية وتنفذها بدون أن تلقى اعتراضاً ملحوظاً من قبل الدوريات الناشطة التي ينظمها «داعش». ومثل هذه الهجمات وغيرها من أعمال التقصي الفاشلة تؤدي إلى إنهاك تنظيم «الدولة الإسلامية» على جبهات القتال، وهو عامل قد يساهم في تقليص فعالية الدفاع عن الأهداف الأساسية التي تسعى «قوات الأمن العراقية» إلى استعادتها مثل الموصل والفلوجة وتلعفر.
وليس هناك شك بأنه يتم استنزاف قوات تنظيم «الدولة الإسلامية» بشكل متزايد. ففي 22 كانون الثاني/يناير 2015، صرح السفير الأمريكي في العراق ستيوارت جونز لقناة "العربية" أنه تم قتل حوالي 6000 عنصر في تلك المرحلة من الحملة. وتُبين التحاليل المتعلقة بأنواع الأماكن المستهدَفة في الحملة الجوية لغاية ذلك التاريخ أن هذا العدد قد يكون محتملاً جداً. ومع احتساب الخسائر التي تَكبدها تنظيم «داعش» في وجه القوات الكردية و«قوات الأمن العراقية» وغيرها من الأسباب، يمكن القول بثقة أن العدد قد يفوق أكثر بكثير من التقدير الأمريكي التقريبي الذي هو 6000 عنصر، وذلك في الأسابيع الأربع وعشرين الأولى التي تلت سقوط الموصل، علماً أنه أثناء كتابة هذا المقال كان قد انقضى 12 أسبوعاً آخراً تخللته ضربات ومعارك ناجعة بشكل متزايد ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» في العراق. وعلى الرغم من أن معدل تجديد عناصر «داعش» غير معروف، قد يعاني التنظيم من صعوبة كبرى في استبدال الخسائر الأسبوعية التي تفوق 250 ضحية (بالإضافة إلى أعداد متناسبة من الإصابات والانشقاقات الأخرى)، لاسيما القادة والقوى البشرية المتخصصة الماهرة.
تنظيم «الدولة الإسلامية» بعد الموصل
تُظهر معركة تكريت أن المعركتين القادمتين في الموصل والفلوجة ستكونان قاسية ولكن يمكن إحراز النصر فيهما إذا ما استُخدمت الصيغة المناسبة من التخطيط والموارد الكافية والقوة الجوية الغربية والدعم الاستخباراتي. والموصل أكبر بكثير من تكريت - حوالي 144 ميلاً مربعاً مقابل ثمانية أميال مربعة على التوالي - ولكن كما أظهرت المعركة في تكريت، ليست هناك ضرورة لأن تهاجم «قوات الأمن العراقية» المدينة كلها في آن واحد. فضلاً عن ذلك، ربما تكون تكريت كبيرة جداً من أن يتمكن «داعش» من اتباع استراتيجية دفاع حصري بأعداده الصغيرة نسبياً. وستتمكن قوات التحالف من اختراق المدينة، إذ أن التغلغل في المناطق الخاضعة لسيطرة تنظيم «الدولة الإسلامية» نادراً ما يعتبر المشكلة الفعلية.
إن إحدى جوانب الحملة العسكرية لـ «داعش» في العراق التي تم الاستخفاف بها، هو ارتكازها على جهود واسعة النطاق لـ "اقتصاد القوة". فقد انخرطت قوات تنظيم «الدولة الإسلامية» بشكل غير واضح في الدفاع النشط لحجب الضعف الأساسي في عددها على الأرض. وإذا ما توفرت قوات كافية للاستيلاء على المناطق التي تم استرجاعها وتعزيزها، يمكن عندها استخدام مقاربة تدريجية للحد من فتك وفعالية أساليب المماطلة التي تستخدمها «داعش». ويتمثل العامل الأساسي الذي يعيق سرعة التقدم ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» في حشد قوات الإخلاء الكافية، ووضع خطط فعالة لتطهير المناطق، واستخدام أعداد كافية من الوحدات الفعالة لملء المساحات المتنازع عليها وتعزيز ملكيتها.
وتشير هذه النتيجة إلى أنه يمكن إلحاق الهزيمة بتنظيم «الدولة الإسلامية» في مدن عراقية أخرى أيضاً وحتى في محافظة الرقة في سوريا، التي لا تبعد كثيراً عن نقاط انطلاق عسكرية محتملة في تركيا، إذا ما تم إعداد قوات مندفعة ومدعومة جيداً لتحرير تلك المناطق وتعزيز القبضة عليها. وليس هناك شئ خفي يحيط بـ تنظيم «داعش» كقوة دفاعية، إذ أن النجاحات التي حققها لا تُعزى إلى قوته الجوهرية، بل تعود بشكل كامل تقريباً إلى غياب المعارضة الفعالة.
ما الذي سيلي تحرير مدن كالموصل والفلوجة وتلعفر؟ يشكل نموذج الرمادي إحدى الخيارات؛ فعناصر تنظيم «الدولة الإسلامية» قد تلازم مواقعها لشن عمليات تمرد متنقلة في مناطق يمكن فيها مهاجمة مراكز السكان والمحاور الاقتصادية انطلاقاً من معاقل ريفية. وقد ينجح هذا النوع من النماذج العملياتية في بعض أجزاء الحدود السورية، وأجزاء من الصحراء الغربية والجزيرة، وبيجي، والمناطق الواقعة بين الرمادي والفلوجة، والمناطق المتاخمة لجبال حمرين. وقد يؤتي ثماره أيضاً في الموصل إذا كررت «قوات الأمن العراقية» والأكراد الخطأ المتمثل بعدم نشر الأعداد الملائمة من الجنود لحماية المدينة وأحزمتها الصحراوية والبلدات التابعة لها (وأهمها تلعفر). والعبرة الأساسية التي يمكن استخلاصها من الأشهر الستة الأخيرة هي أن النجاح الفعلي لا يقاس باسترجاع مراكز المدن: فالانتصار الحقيقي يكمن في ترسيخ الاستقرار في المنطقة الدفاعية بأكملها، بما فيها الأحزمة الريفية.
ولن تشكل إعادة بناء قوات احتلال كبرى موثوق بها ومقبولة محلياً مهمة سهلة نظراً للمناخ الطائفي والاقتصادي السائد اليوم في العراق. فإعادة توطين المهجّرين ستساهم في جهود مكافحة التمرد، غير أن إعادة الحكم والخدمات إلى العائدين سيكون في غاية الصعوبة. وفيما يخص الصيغة القائمة على إبقاء المناطق السنية كمناطق محصنة قليلة السكان، فقد استُخدمت في بعض الأماكن - قرية آمرلي، جرف الصخر، جلولاء، والسعدية - إلا أنها لا تشكل حلاً متوسط الأجل ولن تساهم سوى في خلق "بلدات أشباح" تمثل أوكاراً محبذة لـ «داعش». وستشكل إعادة توطين السكان تحدياً كبيراً لأن تنظيم «الدولة الإسلامية» قد دمر المئات من مراكز الشرطة، والمكاتب الإدارية، والجسور، والمراكز الرسمية في محاولة متعمدة لمواجهة الاستقرار؛ وقد تلمّح هذه المحاولة إلى استراتيجية غضب متفاقم تهدف إلى إنهاك الأمة العراقية من خلال شن هجمات متكررة انطلاقاً من معاقل سيطرة المتمردين في العراق وسوريا. وصحيح أن تنظيم «الدولة الإسلامية» لم يستطع الاحتفاظ بالأراضي التي وقعت في قبضته، إلا أنه قد يفلح في منع إعادة التوطين وترسيخ الاستقرار في المناطق المتضررة في المرحلة ما بعد النزاع. وهنا تكمن القوة شبه العسكرية الفعلية لـ «داعش»، وهذا هو التحدي العسكري الفعلي الذي يواجه العراقيين وشركاءهم في التحالف.
الدكتور مايكل نايتس هو زميل ليفر في معهد واشنطن. وقد عمل في كل محافظات العراق، بما في ذلك فترات كان خلالها ملحقاً مع قوات الأمن العراقية.
الكسندر ميلو هو المحلل الرئيسي للشؤون الأمنية المتعلقة بالعراق في "هورايزن كلاينت آكسيس"، وهي خدمة استشارية تعمل مع شركات الطاقة الرائدة في العالم.