- تحليل السياسات
- مذكرات سياسية 131
رد فعل عكسي للأتراك: كيف ساهمت المقابلات في الشوارع في نشر المشاعر المعادية للاجئين السوريين
أدى تضييق المجال أمام وسائل الإعلام الموثوقة في تركيا إلى ظهور منصات بديلة تروّج للغة الكراهية والتعصب والعنصرية تجاه السوريين.
للحصول على نسخة من هذا المقال مع المصادر، قم بتنزيل ملف الـ "بي. دي. إف" باللغة الانكيزية.
في أوائل شباط/فبراير الماضي، ضرب زلزالان قويان جنوب شرق تركيا وأجزاء من سوريا، في أكبر كارثة طبيعية في تاريخ تركيا المعاصر أسفرت عن مقتل 45 ألف مواطناً تركياً. ويتمثل التحدي الأكثر إلحاحاً الذي تواجهه البلاد في إغاثة أكثر من 13 مليون مواطن يعيشون في مناطق تضررت بشكل مباشر من الهزة الأرضية. ولكن بالإضافة إلى أن الكارثة كشفت عن المخالفات الفظيعة المرتكبة على صعيد تقسيم المناطق وقوانين البناء، أظهر الزلزالان القويان أبعاداً جديدة لمشاعر الأتراك المعادية للسوريين. ففي الأيام التي أعقبت الزلزالين، تمّ تداول مقاطع فيديو مروعة عبر وسائل التواصل الاجتماعي تظهر حراساً من وحدات حراسة مدنية يضربون أفراداً على خلفية اتهامهم بالقيام بعمليات نهب في الولايات المتضررة. وقد تفاقمت أوضاع اللاجئين السوريين بصورة أكثر بسبب مظاهر العداء التي يتعرضون لها محلياً، وتضاءلت فرص استفادتهم من المساعدات المخصصة لمتضرري الزلزال لعدم حملهم الجنسية التركية فضلاً عن كونهم أكثر عرضة لأعمال عدائية على أيدي وحدات الحراسة المدنية. ففي بعض منصات وسائل التواصل الاجتماعي، أصبحت كلمة "نهب" مرادفة لكلمة "سوري"، الأمر الذي يؤجج مشاعر كراهية اللاجئين لدى عامة الشعب. لكن اللافت أن الكراهية التي تنتشر على شبكة الانترنت في تركيا ضد السوريين ليست أمراً جديداً.
فمنذ عام 2021، ازدادت وتيرة أعمال العنف ضد اللاجئين في تركيا بشكل عام، خاصة السوريين منهم. وفي حادثة اتسمت بدرجة عالية من العنف في آب/أغسطس 2021، حطّم سكان حي التنداغ في العاصمة أنقرة محلات ومنازل تابعة لسوريين وقاموا بنهبها. وخلال عامي 2022 و2023، حتى قبل وقوع الزلزالين، كانت وتيرة جرائم الكراهية تجاه السوريين آخذة في الازدياد.
وتستضيف تركيا ما لا يقل عن 4 ملايين لاجئ - 3.7 مليون منهم سوريون أو عديمي الجنسية هاجروا من سوريا. وهذه إضافة تقارب 5 في المائة إلى عدد سكان تركيا الحاليين، الذين بلغ عددهم حوالي 74 مليوناً قبل قدوم هؤلاء اللاجئين، وهو أكبر موجة تدفق للاجئين تشهدها تركيا منذ حروب البلقان عامي 1912-1913، خلال فترة انهيار الإمبراطورية العثمانية. ومنذ اندلاع الحرب السورية في عام 2011، استقبلت الحكومة التركية أعداداً هائلة من اللاجئين تحت صفة "الحماية المؤقتة". وفي البداية، رحب الأتراك بالسوريين ، إلا أن تواجد السوريين في تركيا أصبح أمراً يزعج الأتراك منذ أن دخلت البلاد في حالة ركود اقتصادي في عام 2018.
وقد تجلى استياء الشعب التركي عبر اتجاه إعلامي سائد يعرف باسم "مقابلات الشارع"، الذي يسعى إلى الترويج لرفض وجود اللاجئين السوريين في تركيا ونشر معلومات مضللة عنهم في الوقت نفسه. وفي هذا السياق، قامت الحكومة التركية بقمع وسائل الإعلام التقليدية خلال العقد والنصف الماضي، ومنحت وسائل الإعلام الموالية لها حق احتكار المعلومات، وبالتالي، دفعت المواطنين الأتراك إلى البحث عن مصادر بديلة للأخبار. ونتيجةً لذلك، برزت مبادرات جديدة مبتكرة يعتمد بعضها على وسائل التواصل الاجتماعي. وبينما يمكن لهذه المبادرات سد الفجوات وترك بصمة مفيدة، إلا أن بعضها، على غرار مقابلات الشارع، هي مقابلات تتدثر برداء الصحافة وبإمكانها الترويج لرسائل خطيرة. وإذا لم تخفف الحكومة التركية سيطرتها على وسائل الإعلام، فمن المتوقع استمرار هذه التوجهات ومواصلة تحكم الحكومة بالرأي العام، الأمر الذي سينعكس سلباً بشكل أساسي على مجتمعات السوريين المستضعفين الموجودين في البلاد.
نبذة تاريخية موجزة عن الوجود السوري في تركيا
وفقاً لـ "رئاسة إدارة الهجرة التركية"، وهي وكالة حكومية تابعة لوزارة الداخلية، وصلت الموجة الأولى من اللاجئين السوريين إلى تركيا في 29 نيسان/أبريل 2011 بعد تصاعد حدة الصدامات بين المحتجين والحكومة السورية. ففي ذلك اليوم، وصل 400 سوري فجأة إلى بوابة "جيلفا غوزو" الحدودية في ولاية هاتاي، قادمين من حلب التي تعتبر أكبر مدينة سورية. وبحلول أواخر عام 2012، وصل عدد اللاجئين السوريين في تركيا إلى 100 ألف، وبعد أقل من عامين، تخطى هذا العدد عتبة المليون.
وفي حين تُعتبر كلمة لاجئ اختصارا لغوياً مفيداً، إلا أنها من وجهة نظر قانونية، تسمية مغلوطة للمجتمعات السورية الموجودة في تركيا. فقد وقّعت تركيا على "اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1951 الخاصة بوضع اللاجئين"، وهي اتفاقية متعددة الأطراف تعرّف المقصود بكلمة لاجئ وتحدد حقوقه. وعندما صادقت تركيا على المعاهدة في عام 1962، فرضت بعض القيود بحيث حصرت تعريف اللاجئين بالأفراد المتضررين جراء أحداث وقعت في أوروبا قبل عام 1951. وفي وقت لاحق، ألغت أنقرة القيود الزمنية لكنها لم ترفع القيود الجغرافية. وهذا يعني أن معظم السوريين في تركيا - باستثناء أولئك الذين أصبحوا مواطنين أتراك - يدخلون ضمن تصنيف غامض يعرف بـ "الحماية المؤقتة".
ومع ذلك، يُعتبر مصطلح الحماية المؤقتة مصطلحاً قانونياً، وغالباً ما تستخدمه الدول عندما تشهد نزوحاً جماعياً خلال الأزمات الإنسانية، حيث تمنح الدول المضيفة المدنيين الإذن للبقاء على أراضيها لفترة محدودة دون وعدهم بمنحهم الإقامة الدائمة أو الجنسية. ووفقاً للمبادئ التوجيهية للأمم المتحدة، لا ينطبق تصنيف الحماية المؤقتة على اللاجئين عندما ينالون صفة بديلة في الدولة المضيفة أو يتم توطينهم في دولة ثالثة. والأهم من ذلك، تنتهي الحماية المؤقتة فور انتهاء الأزمة التي أدت إلى النزوح. ووفقاً لبيانات "المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين"، هناك 3.5 ملايين لاجئ سوري في تركيا من أصل 3.7 ملايين يحصلون على الحماية المؤقتة من قبل الحكومة التركية، في حين اكتسب نحو 200 ألف لاجئ الجنسية التركية.
عندما اندلعت أعمال العنف في سوريا في عام 2011، قدمت تركيا دعمها لمعارضي الرئيس السوري بشار الأسد، متوقعة سقوط النظام خلال فترة قصيرة. ومع تدفق مجموعات من السوريين إلى تركيا، اعتبرت أنقرة تواجدهم على أراضيها تواجداً مؤقتاً وانتهجت سياسة الباب المفتوح. لكن الأحوال تغيّرت، فقد مر أكثر من عقد على بدء المعارك ولا يزال الأسد متربعاً على سدة الحكم، كما أنه يحكم قبضته على الحكم يوماً بعد يوم. ويواجه السوريون في تركيا عدداً كبيراً من المشاكل الناشئة عن وضعهم القانوني المبهم، وعجزهم عن إيجاد فرص عمل، واستياء متزايد من الشعب التركي.
وقد تجلى السخط الشعبي إزاء اللاجئين السوريين في الحوار السياسي الدائر في تركيا، وانهيار اتفاق غير مكتوب بين الفصائل السياسية الرئيسية حول عدم استغلال مسألة اللاجئين في الحملات الانتخابية. وتعرضت إدارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لانتقادات من قادة المعارضة الرئيسيين، الذين ألقوا باللوم عليه في مشكلة اللاجئين.
ويبدو أيضاً أن المشاعر المعادية للاجئين تنتشر أيضاً عبر المنتديات الإلكترونية. ومع فقدان وسائل الإعلام التقليدية مثل الصحف مكانتها، برزت منصات إعلامية جديدة على غرار "يوتيوب" والمبادرات الصحفية القائمة على الإنترنت وأصبح لها تأثير ملحوظ على النقاش المحتدم بشأن اللاجئين. وأدى ظهور المنابر البديلة المشبعة بالكراهية، التي تزامنت مع تقلص حرية الإعلام في تركيا، إلى زيادة انتشار الخطاب المسيء والتحريضي ضد اللاجئين. ورداً على ذلك، من الأفضل أن تقوم أنقرة بالترويج لحرية التعبير وحماية اللاجئين الضعفاء في البلاد من خلال إلقاء نظرة فاحصة على الوضع الحالي للإعلام البديل ودراسة إمكانية تعديل السياسات القمعية للحكومة تجاه حرية الصحافة.
الانتقال إلى وسائل التواصل الاجتماعي
منذ عام 2007 تقريباً، استولت لجان الرقابة الحكومية التركية على العديد من المنافذ الإعلامية ومنحتها لمؤسسات موالية لأردوغان في إطار مزادات لم يتقدم فيها سوى مزايد واحد في أغلب الأحيان من خلال صفقات ممولة بقروض شبه خالية من الفوائد تقدمها مصارف عامة. ونتيجةً لذلك، أصبحت نحو 90 في المائة من المنافذ الإعلامية التقليدية - أي شبكات التلفزيون والصحف - مملوكة لجهات موالية لأردوغان أو تابعة له. ويقوم جهاز الرقابة على وسائل الإعلام في تركيا، "المجلس الأعلى للإذاعة والتلفزيون"، الذي عيّن أردوغان معظم أعضائه، بفرض غرامات باهظة وحظر البث بشكل روتيني على وسائل الإعلام المعارضة القليلة المتبقية.
وأدى قمع أردوغان لوسائل الإعلام إلى انعدام الثقة على نطاق واسع في وسائل الإعلام التركية، وبالتالي لجأ الشعب، وخاصة الشباب، إلى منصات إعلامية جديدة على غرار قنوات "اليوتيوب" التي تحتوي على مقابلات في الشوارع، والمنتديات الصحفية عبر الإنترنت، والحسابات على وسائل التواصل الاجتماعي. وعادةً ما يميل منتجو المحتوى على هذه المنصات إلى عدم مراعاة المعايير والممارسات المطبقة في الصحافة التقليدية. ومع أن بعض هذه المنصات تسد الفجوة الإعلامية في المشهد الإعلامي في البلاد من خلال إنتاج محتوى موثوق ومستقل ومنح الشعب التركي منبراً للتعبير عن آرائه، يمكن لأخرى، كما ذكرنا في سياق اللاجئين السوريين، أن تُنتج خطاب الكراهية والمعلومات المضللة وتروّج لها باستمرار.
يُذكر أن معدل استخدام مواقع التواصل الاجتماعي مرتفع في تركيا، حيث يصل إلى 82 في المائة على الإنترنت وحوالي 70 مليون مشارك. ووفقاً لتقرير صادر عن "معهد رويترز"، ازدادت شعبية وسائل التواصل الاجتماعي باعتبارها مصدراً للأخبار في تركيا خلال السنوات القليلة الماضية، في حين انخفض عدد قراء الأخبار المطبوعة والإلكترونية. وفي استطلاع رأي أجري في تركيا، أفاد 61 في المائة من المستطلعين أنهم يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي للاطلاع على الأخبار، في ارتفاع عن نسبة 35 في المائة عام 2015، في حين قال 10 في المائة منهم إنهم يعتمدون عليها حصرياً كمصدر للأخبار.
لكن يبدو أن شبكة الإنترنت في تركيا ليست بمنأى عن إشراف ورقابة الحكومة. ففي عام 2020، أقر البرلمان التركي قانوناً يلزم منصات وسائل التواصل الاجتماعي الكبرى بتأسيس مكاتب لها في تركيا لتستجيب بسرعة لأي أمر يصدر عن محكمة بحذف محتوى ما، وقد امتثلت جميع المنصات الرئيسية لهذا القانون. لكن ذلك لم ينطبق على عمالقة منصات التواصل الاجتماعي مثل "يوتيوب" و"تويتر" التي لا تزال توفر مساحة للأتراك لإنتاج محتوى إخباري بديل.
مقابلات الشارع
لم تسفر الرقابة الحكومية عن إرغام المواطنين الأتراك على الاطلاع على الأخبار عبر وسائل التواصل الاجتماعي فحسب بل جعلتهم يطلقون العنان لمخيلتهم ويبتدعون ويدعمون أساليب جديدة، بما فيها تلك التي تجمع بين صناعة المحتوى ونشره، وأبرزها المقابلات في الشوارع.
إن هذه المقابلات، التي يتمّ إعدادها ونشرها بشكل رئيسي عبر "يوتيوب" قبل تسويقها بشكل أكبر على منصات مثل "تيك توك" و"إنستغرام" لجذب المشاهدات، تلعب دوراً أساسياً في تشكيل المشهد الإعلامي الجديد في تركيا. ويقوم هذا الأسلوب الناشئ على طرح الشخص الذي يجري المقابلة - والذي نادراً ما يكون مراسلاً متمرساً - أسئلة مثيرة للجدل على مواطنين أتراك عاديين في الشارع. وتختلف مواضيع هذه المقابلات بين أخبار المشاهير والسياسة المحلية، لكن المقابلات الأقوى والأكثر مشاهدة هي تلك التي تتناول القضايا التي تثير استياء المواطنين العاديين من الحكومة. ومن المقابلات التي تحقق نجاحاً باهراً تلك التي تَعْرض مجموعة مشاهد لمواطنين يتحدثون عن الأزمات الاقتصادية في البلاد ويعربون عن استيائهم من عدد اللاجئين الضخم في البلاد.
ويوجد في تركيا ما لا يقل عن 14 قناة رئيسية على موقع "يوتيوب" في كل منها أكثر من 100 ألف مشترك (انظر الملحق). والملفت أن جميع هذه القنوات تحدثت مراراً عن قضية اللاجئين، وجمعت نحو ملياري مشاهدة حتى هذا اليوم فضلاً عن أكثر من 5.5 مليون مشترك.
ومن المساهمين المحتملين في زيادة شعبية المقابلات في الشوارع هي الإيرادات المحققة على "يوتيوب". فوفقاً لـ "سوشيال بليد"، وهي أداة عامة للتحليلات المتعلقة بموقع "يوتيوب"، تتراوح قيمة الإيرادات الشهرية التي تحققها إحدى أبرز قنوات مقابلات الشارع "Ilave TV" من الإعلانات بين 1200 و 19 ألف دولار أمريكي. وتتفاوت هذه المكاسب الشهرية بناءً على عدد المشاهدات، في وقت تشير فيه البيانات العامة إلى أن بعض هذه القنوات مثل "Halk Ekrani" تجني أرباحاً تصل إلى نحو 55 ألف دولار شهرياً. وعند التحقق من هذه الأرقام بواسطة حاسبة للإيرادات عبر الإنترنت، يتضح أنها تتماشى عموماً مع الأرقام التي تحددها "سوشيال بليد". وبغض النظر عن التقلبات المفاجئة في الخوارزميات الحسابية لهذه الأخيرة، فحتى التقديرات المتحفظة تعادل دخلاً جيداً في تركيا حيث انخفضت قيمة الليرة. فقبل 3 سنوات فقط، كان معدل صرف الليرة مقابل الدولار يبلغ 1:6، لكن اعتباراً من شباط/فبراير عام 2023، ارتفع بواقع ثلاثة أضعاف ليصبح سعر صرف الليرة مقابل الدولار 1:18.
وتختلف التوجهات السياسية لأبرز قنوات المقابلات في الشوارع. فعلى الرغم من أن القسم الأكبر من هذه القنوات ينتقد الرئيس أردوغان، إلا أن هناك أخرى على غرار "Ahsen TV" - التي يديرها قوميون أتراك من أنصار الإسلام السياسي التابع للشبكة الدينية المعروفة باسم "Ismailaga Cemaati" (جماعة إسماعيل آغا)، هي من أبرز المؤيدين لأردوغان. والجدير بالملاحظة أن كل واحدة من هذه القنوات الرئيسية، بغض النظر عن موقفها السياسي، أنتجت مقاطع فيديو سلطت الضوء فيها على رفض وجود اللاجئين. ويبدو أن مقاطع الفيديو الخاصة بالمقابلات في الشوارع، والتي حصدت أكثر من ملياري مشاهدة منذ عام 2022، تعرض أنماطاً تؤجج المشاعر والتصرفات المعادية للاجئين، على غرار المقاطع الفيروسية التي تظهر لاجئين سوريين يلاحقهم الأتراك الغاضبون ويطالبونهم "بالعودة إلى سوريا".
ويشكل "Ilave TV" خير مثال على هذه الموجة الإعلامية الجديدة. ففي آب/أغسطس 2022، حصد التلفزيون، الذي لديه أكثر من 600 ألف مشترك، ما معدله 130 ألف مشاهدة يومياً ونحو مليون مشاهدة أسبوعياً. وقد عرضت القناة ما لا يقل عن 12 مقطع فيديو لمقابلات معادية للاجئين أجريت في الشوارع خلال السنوات الثلاث الماضية، وجذبت أكثر من 5 ملايين مشاهدة. وعلى سبيل المقارنة، باعت صحيفة "صباح" الأكثر مبيعاً في تركيا والتي تملكها مؤسسات موالية لأردوغان، 194930 نسخة يومياً في عام 2021.
وحصد مقطع فيديو عن خطة لاجئ سوري للبقاء في تركيا - والتصويت لأردوغان - أكثر من مليون مشاهدة. وفي هذا المقطع المصور يتحدث شاب سوري إلى مراسل "Ilave TV" بينما يشارك المارة في الجدال منددين بالشاب السوري. ويظهر فيه أيضاً رجل تركي يتحدث بغضب بسبب هروب اللاجئين السوريين من بلادهم "كالنساء" فقط بهدف التحرش بالنساء التركيات والتسبب في رفع الإيجارات في البلاد. ويشير رجل تركي آخر إلى اللاجئ قائلاً: "كل من يواجه صعوبات في بلده يأتي إلى [تركيا]. فهم يأتون من أفغانستان والعراق وإيران... هكذا أصبحت تركيا! لقد انتهت تركيا!".
ويبدو أن هناك قاسم مشترك يجمع بين مقابلات الشارع وهو المطالبة بطرد اللاجئين السوريين. ففي إحدى المقابلات على قناة Halk Ekrani، وافق 33 من بين 40 شخصاً من الذين أُجريت معهم المقابلات على ضرورة ترحيل السوريين. وبينما أعرب البعض عن تعاطفهم مع محنة السوريين، إلّا أن الأغلبية وصفتهم بأنهم "عبء اجتماعي" يستنزف موارد البلاد. وتستند وجهة النظر الشائعة هذه، التي يعبر عنها مراراً الأتراك أثناء المقابلات التي تجري معهم في الشارع، إلى بعض النقاط الأساسية.
النقطة الأولى: الحرب وضعت أوزارها
من الأسئلة الأكثر شيوعاً التي تُطرح على السوريين خلال المقابلات معهم في الشارع هي سبب بقائهم في تركيا على الرغم من "انتهاء" الحرب في بلدهم. فالذين يجرون المقابلات يزعمون أن اللاجئين يغادرون إلى سوريا للاحتفال بالأعياد وإذا كان بإمكانهم قضاء عطلة فيها، فبإمكانهم العودة للعيش هناك.
فتركيا تسمح للاجئين السوريين الراغبين في زيارة عائلاتهم في سوريا بعبور الحدود في وقت قريب من أيام الأعياد الدينية. والهدف من ذلك على الأرجح الحفاظ على روابط اللاجئين بوطنهم، مما يمهد الطريق في نهاية المطاف أمام عودتهم مع مراعاة المشاعر والأبعاد الدينية أيضاً.
لكن في الواقع إن الحرب في سوريا لم تنته بعد. فالحكومات والجيوش الأجنبية لا تزال تنفذ عملياتها في البلاد، في حين أن نظام الأسد والمقاتلون المتحالفون معه، على غرار مجموعة "فاغنر" التي ترعاها روسيا، يواصلون أعمالهم الوحشية ضد المدنيين، ولا سيما ضد الذين شاركوا في الانتفاضة ضد دمشق. وبينما يصح القول بأن وتيرة العنف قد تراجعت، إلا أن الصراع مستمر في جيوب عديدة من البلاد.
النقطة الثانية: اللاجئون ينتزعون الوظائف من الأتراك ويتقاضون رواتب من الحكومة
من الاتهامات التي غالباً ما توجه إلى اللاجئين هي أنهم "يسرقون الوظائف" من الأتراك. ففي أحد مقاطع الفيديو التي بثتها قناة "Ilave TV"، يدّعي أحد المارة أنه "مقابل كل عمل يحصل عليه سوري، يخسر شاب تركي فرصة عمل". وقد أثبتت دراسة أجريت في إسطنبول أن وجهة النظر هذه شائعة في تركيا: فقد أفاد 64 في المائة من السكان الذين تم استطلاع آرائهم أن اللاجئين السوريين يشكلون عبئاً اقتصادياً، في حين قالت نسبة 71 في المائة منهم إن وجودهم يقلص فرص العمل المتاحة للمواطنين الأتراك. وبينما يصح القول بأن دخول ملايين اللاجئين إلى سوق العمل (الرسمي وغير الرسمي) في تركيا زاد المنافسة، إلّا أن هذه الرواية لا تنقل الصورة كاملة. ويعمل عدد كبير من هؤلاء اللاجئين في تركيا في ظروف غير لائقة، أي يشغلون في معظم الأحيان وظائف لا يرغب بها أحد في قطاع الصناعة الثقيلة لقاء أجر زهيد نسبياً. كما تكثر حالات العنف ضد اللاجئين في أماكن العمل: على سبيل المثال، تعرض مصطفى جولاق وهو مواطن سوري يعيش في إسطنبول لهجوم وحشي أدى إلى وفاته على يد سبعة من زملائه في العمل في آب/أغسطس عام 2022.
كذلك، يدّعي الأتراك المعادون للاجئين بأن السوريين الذين "يسرقون الوظائف"، يتقاضون أيضاً مبالغ شهرية من الحكومة التركية. وفي حين أن بعض هؤلاء اللاجئين يحملون بطاقة "الهلال الأحمر" التركي الممولة من قبل الاتحاد الأوروبي التي تمنحهم 230 ليرة تركية (حوالي 12 دولاراً) شهرياً كمساعدة إنسانية، إلّا أنه لا أساس للإدعاءات بأنهم يتقاضون رواتب شهرية من الحكومة التركية.
إن المقابلات في الشارع غالباً ما تصوّر السوريين على أنهم سبب التدهور الاقتصادي الذي تشهده تركيا. فتلك التي تبدأ بطرح أسئلة لا ترتبط مباشرة بقضية اللاجئين السوريين - على غرار معدلات التضخم المرتفعة - تتحول دائماً إلى مناقشات محتدمة بشأنهم. وكانت إحدى أبرز القنوات التي تعرض مقابلات الشارع "Sade Vatandas"، قد عملت في تموز/يوليو 2022 على تغطية أخبار ارتفاع أسعار السلع في مقاطعة غازي عنتاب جنوب شرق البلاد التي تستضيف ثاني أكبر تجمع للاجئين السوريين الذين يتخطى عددهم الـ 460 ألف شخص أي نحو 18 في المائة من سكانها. وما هي إلا دقائق قليلة حتى تحولت شكاوى الأشخاص الذين أجريت معهم مقابلات بشأن التضخم إلى شكوى جماعية من أن الحكومة التركية تفضل اللاجئين السوريين على مواطنيها. وفي هذا السياق، أعربت إمرأة مسنّة عن أسفها على طريقة تخصيص الحكومة للموارد قائلةً إن الحكومة "كانت تزود [الأتراك] بالفحم، لكنها تعطيه الآن للسوريين". من جهتها، ناشدت شابة تركية، وقد بدا عليها الانفعال، أنقرة السماح للاجئين السوريين بعبور الحدود إلى أوروبا، قائلةً إنه بمجرد ذهابهم سيجد أزواجنا عملاً، وستزداد أعمال الحرفيين الأتراك وستتوقف أسعار الإيجارات عن الإرتفاع. وقد لقي خطابها استحساناً.
وقد تجلى هذا الاعتقاد الخاطئ بشأن المبالغة في تحميل اللاجئين مسؤولية المشقات الاقتصادية التي تواجهها تركيا حالياً بأشكال مختلفة غير متوقعة في مقابلات الشوارع. ففي مقابلة غريبة بعض الشيء تسلط الضوء على هذه الأفكار المغلوطة، ألقى مواطن تركي اللوم على السوريين وحمّلهم مسؤولية عجزه عن شراء الموز. وانتشر هذا الفيديو الذي عرضته "Kanal Dunya" على موقع "يوتيوب" بسرعة، ليتسبب في انتشار موجة معاكسة من مقاطع الفيديو عبر "تيك توك" لأشخاص يأكلون الموز ويزعمون بأنهم لاجئون سوريون. وقد أغضبت هذه الفيديوهات الأتراك على مواقع التواصل الاجتماعي، مما دفع بالحكومة إلى ترحيل 45 لاجئاً بسبب نشرهم محتوى "مستفز" على وسائل التواصل الاجتماعي.
النقطة الثالثة: اللاجئون يحصلون على التعليم لكنهم لا يخضعون للامتحانات
في حزيران/يونيو من كل عام، يخضع طلاب السنة الدراسية الأخيرة وخريجو المدارس الثانوية التركية الذين يرغبون في متابعة دراساتهم العليا، لامتحانات دخول إلى الجامعات الوطنية تستمر ليومين، علماً بأن المنافسة شديدة حيث خضع أكثر من ثلاثة ملايين طالب للامتحانات في عام 2022. غير أنه ثمة اعتقاد خاطئ يسود في تركيا بأنه يتم إعفاء اللاجئين من الامتحانات الوطنية.
وفي الواقع، قد تكون امتحانات الدخول إلى الجامعة أكثر صعوبة وتكلفة بالنسبة للاجئين السوريين. فجميع الأجانب المقيمين في تركيا، بغض النظر عن وضعهم القانوني، يخضعون لإجراءات القبول نفسها. وعليه، يُعتبر اللاجئون السوريون مقدمي طلبات أجانب ويخضعون "لامتحانات الطلاب الأجانب" التي تضعها كل مؤسسة تعليمية لاختيار مرشحين لملء الحصص المخصصة للطلاب الأجانب، المحدودة عادةً. وحيث أن كل جامعة تُنظم امتحان الدخول الخاص بها، غالباً ما يضطر الطلاب الأجانب إلى دفع رسوم التسجيل في عدة امتحانات.
النقطة الرابعة: اللاجئون يشكلون تهديداً على المجتمع
تشير شهادات الأتراك الذين أجريت معهم مقابلات الشارع إلى أن قسماً من الشعب التركي يعتقد أن اللاجئين يشكلون تهديداً على الأمن و"أسلوب الحياة التركي" والنساء. بالإضافة إلى ذلك، خلصت دراسة أجراها "مركز الدراسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية" ("سيتا") إلى أن الأتراك غالباً ما يشكون من أن وجود اللاجئين السوريين منعهم من الاستفادة من المساحات الترفيهية الحضرية؛ فقد ذكر 59.8 في المائة من المستطلعين أن السوريين يهددون "أسلوب الحياة المعاصر". ولفتت الدراسة إلى أن بعض المواطنين الأتراك يعتبرون اللاجئين السوريين خطراً على العلمانية فيرون أنهم محافظون اجتماعياً ويحملونهم اللوم في ابتعاد تركيا عن مواكبة النمط الغربي للحياة.
وغالباً ما تصوّر هذه المقابلات غالبية اللاجئين السوريين من الرجال، لتشير بعدها إلى أنهم جبناء هربوا من الصراع تاركين نساءهم وأطفالهم. غير أن البيانات الصادرة مؤخراً بشأن اللاجئين السوريين في تركيا تدحض هذه التصورات. فوفقاً لـ "جمعية اللاجئين" غير الربحية ومقرها تركيا، يشكل النساء والأطفال أكثر من 70 في المائة من إجمالي عدد السوريين الموجودين في البلاد. وخلال هذه المقابلات، يعرب الأتراك أيضاً عن قلقهم من عدم فرض إجراءات صارمة على دخول اللاجئين، زاعمين أن بعضهم مجرمون. فعلى سبيل المثال، يسرد أحد الأتراك في إحدى المقابلات رواية غير مؤكدة يتهم فيها صاحب محل للوجبات الجاهزة من اللاجئين السوريين بقطع رأس جندي تركي في سوريا قبل هروبه. وفي مقابلة أخرى أجرتها قناة " Medyali TV"، سلط رجل تركي آخر الضوء على مدى انعدام الثقة في اللاجئين السوريين حيث ظهر فيها وهو يحذر من أن اللاجئين السوريين سيصبحون "في غضون عشر سنوات جواسيس وسيغدرون [بالأتراك]"، وهو اتهام لقي تأييداً كبيراً من الحشد الحاضر.
وفي هذه المقابلات يتطرق الأتراك في كثير من الأحيان إلى الخطر المحدق بالنساء. ففي مقابلة عرضها "Ilave TV"، تَوجه رجل تركي بانفعال إلى لاجئ سوري قائلاً له "يومياً تضايقون نساءنا". وكان الرجل يشير على الأرجح إلى سلسلة من الحوادث التي حظيت باهتمام إعلامي واسع جراء عرض فيديوهات عدة لنساء تمّ تصويرها من زوايا فاضحة وزُعم فيها أن رجالاً لاجئين سوريين وأفغان وباكستانيين قاموا بنشرها. وفي الفوضى التي أعقبت ذلك، دعا الأتراك حكومتهم إلى ترحيل اللاجئين لحماية النساء.
الخاتمة
في إحدى المقابلات التي جرت في الشارع، قال أحد سكان مدينة غازي عنتاب: "سابقاً كنتُ الداعم الأول لأردوغان. وحالياً، أنا آخر من أدعمه. هؤلاء السوريون سيدمرون [رجب] طيب [أردوغان]". ويتم التعبير عن هذه المشاعر على نطاق واسع في مقابلات الشوارع مع المؤيدين السابقين للرئيس التركي.
يذكر أن هذه المقابلات تجري في كافة الولايات التركية، والجماعات الديمغرافية التي تمثلها عادة - وتتألف عموماً من ناخبين من الطبقتين العاملة والمتوسطة لا تنقل وسائل الإعلام التقليدية آراءهم بشكل كاف على الرغم من أنهم يشكلون معظم قاعدة الناخبين في تركيا - تضفي طابعاً مميزاً ومفيداً عليها. وفي حين أن مقابلات الشارع لا تخضع للمعايير المنهجية الخاصة بمهنة الصحافة أو الاستطلاع، إلا أنها لا تزال توفر رؤية قيّمة عن شكاوى المجتمع التركي بشكل أوسع كما أنها تؤجج التوترات الاجتماعية.
ويدرك "حزب العدالة والتنمية" الحاكم أن الرأي العام التركي قد نفذ صبره تجاه ضيوفه السوريين، ويظهر ذلك في زيادة نسبة تصريحات المسؤولين المُطالبة بترحيل اللاجئين، وفي بعض الحالات تنفيذهم عمليات ترحيل فعلية. وفي أكثر من مناسبة، أصدر وزير الداخلية التركي سليمان صويلو أيضاً بيانات تروّج لترحيل أعداد كبيرة من اللاجئين. وكشفت "رئاسة إدارة الهجرة التركية" في تشرين الثاني/ نوفمبر 2022 عن ترحيلها حوالي 100 ألف "مهاجر غير نظامي" في الأشهر الأحد عشر الأولى من العام، ليصل إجمالي عدد المرحَّلين منذ عام 2016 إلى 427 ألفاً. يضاف إلى كل ذلك، إقدام أنقرة على إتمام مشاريع سكنية في مناطق شمال غرب سوريا الخاضعة للسيطرة التركية استعداداً لإيواء السوريين العائدين، بغض النظر عن أماكن إقامتهم قبل اندلاع النزاع.
وستكون مسألة اللاجئين من بين المواضيع التي سيتم مناقشتها بشكل كبير قبل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في تركيا لعام 2023، وستكون لها عواقب محتملة على السوريين المقيمين في البلاد. ويرجع ذلك جزئياً إلى الاتجاهات الناشئة وغير الخاضعة للتنظيم الرقابي في وسائل الإعلام مثل مقابلات الشارع.
على أنقرة أن تدرك أن تقليصها لهامش الحرية المخصص للإعلام الموثوق، سيدفع بمستخدمي وسائل الإعلام التركية - الذين لا يزالون يتذكرون صورة تركيا عندما كانت دولة أكثر ديمقراطية ويعارضون تحكم الحكومة على الأخبار والعناوين الرئيسية - للبحث عن سبل بديلة تستشري فيها لغة الكراهية والتعصب والعنصرية تجاه السوريين. وفي الواقع، إن السيطرة المفرطة للحكومة على وسائل الإعلام تؤدي إلى تداول المعلومات المضللة، الأمر الذي يشجع على انتشار الخطاب المسيء والمعادي للاجئين إلى خارج الصحافة التقليدية. وبالتالي سيكون من الحكمة أن تلجأ أنقرة إلى توسيع هامش الحرية في الإعلام التركي خلال الفترة التي تسبق انتخابات عام 2023، مما يتيح للصحفيين المتمتعين بمصداقية أن يعملوا بحرية بدلاً من السماح للعاملين في مجال الإعلام البديل بالتحكم على الخطاب المتداول على وسائل التواصل الاجتماعي، الذي أصبح يشكّل الآن مصدر المعلومات لشرائح كبيرة من الشعب التركي. ويمكن للحكومة أيضاً أن تساعد في التصدي للخطاب المليئ بالمعلومات المضللة من خلال دعم مبادرات تدعو إلى دمج اللاجئين السوريين، الذين مكثوا في تركيا لفترة أطول مما كان متوقعاً في البداية.
إن ترحيب أنقرة باللاجئين السوريين كان نابعاً من تعاطفهم مع السوريين وهو أمر جدير بالثناء، حتى وإن كان له أبعاداً استراتيجية. والآن، أمام قادة تركيا فرصة لإعادة التفكير في الأضرار المترتبة على تضييق هامش الحرية في وسائل الإعلام، وكيف ستساهم عودة الحريات الإعلامية في مواجهة الخطابات التي تروج للكراهية، وضمان الاستقرار الوطني، وحماية مستقبل اللاجئين السوريين.
سودي أكغوندوغدو هي باحثة مساعدة في "برنامج الأبحاث التركي" بمعهد واشنطن.