منذ أن قطعت السلطة الفلسطينية جميع الاتصالات مع واشنطن في عام 2017 بعد اعتراف إدارة ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل، أعلن الرئيس محمود عباس مراراً وتكراراً أنه لن يقبل أي خطة سلام يقدمها البيت الأبيض. وكرر مسؤولون في السلطة الفلسطينية هذا الموقف في الأيام الأخيرة بعد الحديث عن أنه سيتمّ الإعلان عن الخطة بشكل أو بآخر في الثامن والعشرين من كانون الثاني/يناير، خلال زيارات زعيمان إسرائيليان إلى واشنطن. وبما أن المسؤولين في السلطة الفلسطينية سيحافظون على موقفهم بشكل شبه مؤكد بمجرد الإعلان عن الخطة، فالسؤال الذي يطرح نفسه هنا، كيف ستقوم السلطة الفلسطينية بتفعيل موقفها محلياً ودولياً؟
النهج الدبلوماسي
على المدى القريب، سيكون هدف الدبلوماسية الفلسطينية عزل الموقف الأمريكي وتصوير خطة ترامب للسلام على أنها خطوة ثنائية أمريكية-إسرائيلية يعارضها القسم الأكبر من المجتمع الدولي. وإلى جانب قيام السلطة الفلسطينية بإحباط الزخم الفوري للخطة، تأمل السلطة أيضاً في منع محتوياتها من أن تصبح إطاراً مرجعياً جديداً يستمر تأثيره إلى ما بعد فترة ولاية ترامب. وعملياً، يعني ذلك على الأرجح انتهاج استراتيجية تتألف من ثلاث ركائز تسير على النمط نفسه الذي استُخدم بعد اعتراف الولايات المتحدة بالقدس.
وسيكون العالم العربي الهدف الأول للدبلوماسية الفلسطينية. فأي رد فعل عربي يقل عن الرفض التام للخطة سيُعتبر بمثابة انتصار لإدارة ترامب، حتى إن لم يقم أي زعيم عربي بالمصادقة على الخطة فعلياً. وعلى الأرجح، ستسعى السلطة الفلسطينية عندئذ إلى تحديد السردية منذ البداية من خلال رفض الخطة رسمياً فور إعلانها. ومن خلال قيامها بذلك، قد يأمل المسؤولون الفلسطينيون أن يستبقوا نظرائهم في المنطقة من التعبير عن استعدادهم للانخراط في أي من مقترحات الخطة.
ومن هذا المنطلق، من المحتمل أيضاً أن تدعو السلطة الفلسطينية إلى عقد اجتماع طارئ للجامعة العربية للبناء على تصريحات سابقة مفادها أن الزعماء العرب لن يقبلوا بأي شيء يرفضه الفلسطينيون. ورغم أنه لن يكون لهذه الخطوة أثر عملي كبير، إلا أنها سترغم الحكومات العربية على رفض الخطة رسمياً أو دعم الموقف الفلسطيني على الأقل. وعلى وجه الخصوص، ستسعى السلطة الفلسطينية إلى ضمان دعم مصر والأردن والسعودية. فالمسؤولون الفلسطينيون حساسون جداً لموقف الرياض وسيبذلون جهداً كبيراً للحصول على تصريح سعودي واضح، يشمل إقدام الرئيس عباس على التواصل مباشرة مع الملك سلمان.
أما الهدف الثاني للدبلوماسية الفلسطينية فهو أوروبا. ومن المرجح أن يطلب المسؤولون الفلسطينيون من الأوروبيين إعادة تأكيد التزامهم بحل الدولتين، ورفض أي ضم إسرائيلي أحادي الجانب للأراضي الفلسطينية، والرفض الضمني للعناصر الأساسية لخطة ترامب. وفي موازاة ذلك، سوف يعملون أيضاً على انخراط الدول الأوروبية بشكل فردي على أمل الحصول على اعتراف ثنائي بدولة فلسطينية. وستركّز هذه المناشدات على الدول التي سبق لبرلماناتها أن دعمت الاعتراف، ولو بطريقة غير ملزمة؛ كما أنها ستزداد حدة إذا مضت إسرائيل قدماً في ضم غور الأردن أو أجزاء من الضفة الغربية.
ثالثاً، سيهدف قادة السلطة الفلسطينية إلى تحفيز الأمم المتحدة. فإذا كانوا واثقين من كسب الدعم من الأعضاء الأربعة عشر الآخرين في "مجلس الأمن الدولي" إلى جانب الولايات المتحدة، فمن المرجح أن يطرحوا قراراً يعيد التأكيد على المعايير التقليدية لحل النزاع - أي حل الدولتين وفق حدود 1967 تكون بموجبه القدس الشرقية عاصمة فلسطين. ورغم أن استخدام الولايات المتحدة لحق النقض ("الفيتو") هو نتيجة حتمية، إلا أن التأثير على بقية أعضاء "المجلس" قد يعزز الهدف الفلسطيني المتمثل في عزل واشنطن عن هذه القضايا. وتبدو السلطة الفلسطينية واثقة من الدعم الروسي والصيني في هذا المجال، لكن تساورها بعض الشكوك إزاء بريطانيا وفرنسا. ومن غير الواضح مدى مرونة الفلسطينيين في صياغة شروط مثل هذا القرار، لأن تاريخهم في هذا المجال متقلب.
ومن المرجح أيضاً أن تسعى السلطة الفلسطينية إلى الحصول على قرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة. فبما أن اعتماد شامل لمثل هذا الإجراء أمر مضمون، فمن المحتمل أن تركز الجهود الفلسطينية على ضمان دعم دول رئيسية في أوروبا وخارجها. علاوة على ذلك، ستحاول السلطة الفلسطينية حمل مختلف الوكالات المتخصصة على تمرير عدد كبير من القرارات ذات الصلة، بحيث تتعارض مع خطة ترامب بعدة طرق أساسية حتى لو لم يتم الإشارة إليها بالضرورة.
فرص النجاح
ستكون ردود الفعل العربية أهم المتغيرات في تحديد فعالية استراتيجية السلطة الفلسطينية. فمن الناحية الجوهرية، تحتاج الدول العربية إلى خطة تتضمن مكونين أساسيين إذا كانت ستنخرط بهذا الشأن ولو بطريقة بسيطة: (1) عاصمة فلسطينية في القدس الشرقية تسيطر فيها سلطة فلسطينية وعربية ومسلمة قوية على الأماكن المقدسة الإسلامية في جبل الهيكل/الحرم القدسي الشريف (المعنى الفعلي واللوجستي لهذه السيطرة يجب أن يتم وضعهما لاحقاً)، و(2) وعد موثوق بدولة فلسطينية.
ومجدداً، ستحاول السلطة الفلسطينية منع جهات فاعلة أخرى من الانخراط في الخطة من خلال التعبير عن معارضتها الشديدة منذ البداية. وما إن يتمّ الإعلان عن الموقف الفلسطيني الرسمي بصورة علنية، فمن غير المرجح أن تعارضه الدول العربية - التي فضّلت تقليدياً التأثير على السلطة الفلسطينية سراً، وكانت أكثر فعالية (إلى حد ما) بهذه الطريقة من محاولة ممارسة ضغوط علنية. وما لم تتشاور واشنطن أو جهات فاعلة أخرى مع المسؤولين العرب قبل الكشف عن الخطة، وتُطلِعهم على محتوياتها بطريقة هادفة وعالية المستوى، فستكون هناك فرصة جيدة بأن تحقق استراتيجية الرفض الفوري للسلطة الفلسطينية أهدافها.
التداعيات على أرض الواقع
إلى جانب سلسلة الأنشطة الدبلوماسية هذه، فمن غير المرجح أن يؤدي مجرد الإعلان عن الخطة الأمريكية إلى دفع السلطة الفلسطينية إلى اتخاذ أي خطوة كبيرة في الواقع. فقد يسمح المسؤولون في السلطة الفلسطينية ببروز بعض الاحتجاجات على الخطة بعيداً عن نقاط الاحتكاك مع الإسرائيليين، لكن لا يريدون زعزعة الاستقرار في هذه المرحلة. وبالطبع، قد تحدث تطورات خارجة عن سيطرتهم. وقد رفضت الفصائل الفلسطينية بالإجماع هذه الخطة، وبعضها - وخاصة «حماس» - لديها مصلحة في زعزعة استقرار الضفة الغربية. علاوةً على ذلك، كوّن الجمهور أساساً نظرة سلبية عن الخطة بعد سنوات من تكهنات وسائل الإعلام في المنطقة التي صورتها على أنها مسيئة جداً للفلسطينيين. غير أن سكان الضفة الغربية لم يظهروا رغبةً في الحشد الجماهيري حول القضايا الدبلوماسية في السنوات الأخيرة، وقد أثبتت السلطة الفلسطينية أنها قادرة على التحكم بالشارع في ظروف مماثلة.
ومع ذلك، إذا أقدمت إسرائيل على ضم أي أرض بعد إعلان البيت الأبيض عن خطته، فمن شبه المؤكد أن تتخذ السلطة الفلسطينية أو الجمهور الفلسطيني خطوات أكثر تشدداً. والأهم من ذلك، سيسعى مسؤولو السلطة الفلسطينية إلى وقف التعاون الأمني مع إسرائيل، ذلك التعاون الذي لا يحظى بشعبية كبيرة أساساً من الجمهور الفلسطيني الذي هدد بإلغائه مرات عديدة خلال فترات التوتر الشديد. ونظراً إلى الدور الرئيسي الذي يلعبه هذا التعاون في الحفاظ على الاستقرار، فقد يؤدي وقف التعاون إلى وضع متقلب للغاية.
غيث العمري هو زميل أقدم في معهد واشنطن.