- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
رحلة ترامب: ظلال بيل كلينتون
كانت الزيارة الأولى للرئيس دونالد ترامب إلى الخارج "ترامبيّة" في طموحاتها وأجوائها وامتدادها: الديانات السماوية الثلاث، ولقاءات [مع رؤساء دول] منظمة "حلف شمال الأطلسي" ("الناتو") والاتحاد الأوروبي و"مجموعة السبع"، وزوبعة التجارب الثقافية، و أخيراً حملة "إجعل أمريكا عظيمةً من جديد" من خلال الصفقات التجارية وبيع الأسلحة والاستثمارات واللفتات. لكن جوهر الزيارة كان طمأنة نظامَي التحالف بقيادة الولاياة المتحدة اللذان كانا يشهدان توتراتٍ كبيرة، ألا وهما الحلف الشرق أوسطي وحلف "الناتو" -الأوروبي.
وقد سعى العالم العربي السنّي بمعظمه وإسرائيل وتركيا إلى [الحصول على] ضمانات بأن ترامب سيعكس كل من "استدارة" الرئيس باراك أوباما بعيداً عن المنطقة، وتحذير أوباما بأن على المملكة العربية السعودية أن "تتشاطر" الشرق الأوسط مع إيران. كما خشي شعوب المنطقة وحكوماتها من أن خطابات المرشّح ترامب الحادّة المناهضة للإسلام قد تعكس عدائيةً تجاههم.
وبفضل هذه المعايير، حقق ترامب نجاحاً جزئياً. فإدانته العنيفة لإيران، ومشاركته في عملية السلام الفلسطينية-الإسرائيلية، والتزامه بحربٍ شرسة ضد الإرهاب قد طمأنت من جديد الشعور السائد في معظم أنحاء الشرق الأوسط، إن لم يكن في طهران.
أمّا انطلاقته الأوروبية فكانت أكثر تنوّعاً، إذ سعى حلفاء "الناتو" إلى الالتزام بالتحالف الأطلسي تحت قيادة الولايات المتحدة والاستعداد لاحتواء روسيا، ولكن عدم مصادقتها. بيد أنّ لغة ترامب المتمثلة بـ "الوقوف إلى جانبكم" والموجّهة إلى قادة "حلف شمال الأطلسي" لم تذكر المادة الخامسة من معاهدة "الناتو" التي تلزم أعضاء التحالف بالدفاع عن حليف يواجه اعتداءً ما. إن ذلك قد خيّب آمال الأوروبيين بحق، حيث كان ترامب قد شكّك بها أثناء ترشيحه للرئاسة. [وعند اجتماعه] مع رئيس الاتحاد الأوروبي دونالد تاسك، يبدو أنّ ترامب اتّخذ موقفاً بشأن أوكرانيا أرضى فيه الأوروبيين، إلّا أنّه اختلف معه على مسألة اعتبار روسيا تهديداً.
ويبدو من المستغرب أنّ مطلبه بأن يتقيّد حلفاء "الناتو" بتخصيص نسبة 2% من نفقات "الناتج المحلي الإجمالي" للشؤون الدفاعية التي التزموا بها رسمياً قد صدم الحلفاء الذين سمعوا ذلك مراراً من ترامب ومن نائب الرئيس مايك بنس وغيرهما. (بيد أنّ الشرارة قد تكون اشتعلت عند مطالبة ترامب بأن يعوّضوا عن تضييعهم ذلك الهدف في الماضي). وأخيراً، إنّ هدنته مع المؤسسات الأوروبية الأقل "ترامبيةً"، الكرسي البابوي والاتحاد الأوروبي، كانت على الأرجح مطمأنة بما فيه الكفاية للقادة الأوروبيين الذين كانوا يخشون من مغالاة ترامب في الوطنية وشعارات "أمريكا أولاً".
وهكذا وللوهلة الأولى، أكّدت الزيارة على استمرارية القيادة الأمريكية في منطقتَين من مناطق العالم الثلاث حيث يكثر الطلب عليها. ونظراً للتوقّعات القليلة من ترامب قبل ستة أشهر كانعزاليّ معادٍ لأوروبا ومولع ببوتين ومعادٍ للإسلام، كانت هذه العودة إلى الوضع الطبيعي مرحباً بها. إلّا أنّ الأهمية الكامنة وراء ذلك كانت في ما لم يتبنّاه ترامب - أي الاستمالة المباشرة من أمريكا إلى الشعوب، بدلاً من الحكومات، كالنمط المهيمن للسياسة الخارجية الأمريكية. ويمثّل ذلك انحرافاً عن إرث السياسة الخارجية الأساسي للإدارتَين الأمريكيتين السابقتَين وعودةً إلى المقاربة الأكثر تقليدية كتلك التي طبعت فترتي رئاسة كلينتون وجورج بوش الأب.
إنّ احتضان ترامب المبالغ فيه أحياناً لقادة الحكومات، بالرغم من عيوبهم، والعلاقات بين الدول، بدلاً من الشعوب ودعم الحقوق الفردية، تظهر الانحراف عن السياسة الخارجية الأمريكية التقليدية التي طبعت الإدارتَين السابقتَين. فقد سعى كلاهما إلى تغيير تحويلي رداً على الأحداث التي شكّكت بالسياسة الخارجية الأمريكية النموذجية، مع التأكيد على النظام العالمي ومجموعات متشابكة من التحالفات منذ أربعينيات القرن المنصرم.
ففي حالة بوش، كان هذا الحدث هجمات 11 أيلول/ سبتمبر، وكان ردّه استئصال الإرهاب من العالم الإسلامي من خلال احتضان القيم الغربية، وأهمها الثورة الديمقراطية في الشرق الأوسط. أمّا في حالة أوباما، فكان الحدث الفشل في العراق وأفغنستان (وإلى حدّ ما الخطابات اليسارية التي طبعت ستينيات القرن الماضي)؛ وكان ردّه الذي كان جليّاً في خطابه في القاهرة ومقاربته لـ"الربيع العربي" من خلال استمالته للشعوب بدل الحكومات، حتّى عندما كانت تلك متحالفة مع الولايات المتحدة، على غرار الرئيس المصري حسني مبارك.
وقد رأى كل من بوش وأوباما، وفقاً لتعبير أوباما، بأن "قوس التاريخ" يتّجه لا محالة نحو نظام عالمي ليبرالي متعمّق، وسعى كلاهما إلى تسريعه من خلال التواصل مع الشعوب (والمعارضين في حالة أوباما)، في حين الإساءة للحلفاء التقليديين (في الشرق الأوسط بشكل رئيسي في عهد أوباما، وفي أوروبا في عهد بوش). وقد فشل كلاهما. فالقيم الليبرالية ونظام الأمن الجماعي العالمي الذي يرتكز على القانون يواجهان انتهاكاً أكثر من أي وقت مضى منذ منتصف الثمانينيات، كما أنّ نظام التحالف المصمم لمواجهة مثل هذه التحديات قد تضاءل بشكلٍ كبير.
وقد أشارت زيارة ترامب إلى عكس هذه المقاربة، وعلى الأرجح العودة إلى السياسة الخارجية الأمريكية التقليدية التي شوهدت للمرة الأخيرة في عهد بيل كلينتون. ففي حين تظاهر كلينتون بالدفاع عن الحريّات الفردية وحظي باستمالة شعبية، إلا أنه اعتمد بشكل أساسي على مزيج من الواقعية السياسية المكوّن من سياسات التحالف والقوة العسكرية لاحتواءأولئك الذين يهددون النظام في البلقان والشرق الأوسط وآسيا الشرقية. لكن حتّى الآن، وكما يشير الناقدون، إن الانعكاس الذي يتبعه ترامب هو رمزي أكثر مما هو عملي، لكن هناك حاجة إلى هذه الرمزية بعد أكثر من 16 عاماً من سوء المغامرة في السياسية الخارجية الأمريكية وإدانة حملة ترامب الانتخابية لمعظم السياسة الخارجية الأمريكية.
بيد أنّ النجاح يحتاج إلى الجوهر، وفي هذه الحالة هناك شكوك كثيرة حول النهضة في السياسة الخارجية في عهد ترامب. وتبدأ هذه الشكوك مع الرئيس نفسه. فالقادة يعشقون الرموز والابتذالات لأنّها تأتي بنتيجة على المستوى السياسي، كما أنّها سهلة. إلّا أنّ إدارة جوهر السياسة الخارجية هي، كما قال ترامب في سياق آخر، "صعبة" وغير مكافئة سياسياً في معظم الأحيان. فهل سيتمتّع الرئيس بقدرة التحمّل الفكرية والفصل في اتخاذ القرارات للحفاظ على التحالفات مع عددٍ كبير من الدول المتباينة التي تهدّدها روسيا وإيران والإرهاب الإسلامي (مع التعامل في الوقت نفسه مع مجموعة مماثلة من المشاكل في الشرق الأقصى)؟
وعلى وجه الخصوص، يبدو أنه غير مدرك للتناقضات داخل هذه التحالفات التي تجعل من العمل الجماعي الفعّال أمراً صعباً. ففي أوروبا، تنعدم الرغبة في زيادة ميزانيات الدفاع إلى حد كبير، إذ توافق معظم الشعوب هناك على صياغة وزير الخارجية الألماني السابق، الرئيس الحالي، فرانك فالتر شتاينماير الذي قال "لا يوجد حلّ عسكري" (...لأي مشكلة بشكل أساسي). بالإضافة إلى ذلك، على الرغم من التحدّيات الشعبوية، فإنّ أوروبا القارّية، لا سيّما حكوماتها، هي بين أيدي النخب الدولوية الليبرالية التي تعتبر كل شيء عن دونالد ترامب أمراً مروّعاً.
وكان هذا النفور ملموساً خلال الزيارة، بدءاً من استضافة ميركل لباراك أوباما في برلين صبيحة قمّة "الناتو" وصولاً إلى الوجوه الخائبة في وجه غياب تأييد ترامب الحاسم لالتزامات "حلف شمال الأطلسي" وتشديده على الالتزام بنسبة 2 %. وفي الوقت نفسه، يشعر كبار القادة الأوروبيين بالإحباط الشديد إزاء عدم استعداد ترامب لتأييد جداول أعمالهم بشأن التجارة والمناخ والهجرة في قمة "مجموعة السبع". وعلى أقلّ تقدير، تعيق هذه الاحتكاكات التقدير المتبادل بين القادة الذي يعتبر أساسياً لأخذ مواقف مشتركة.
وليست هذه النقطة الأخيرة بمشكلة في الشرق الأوسط، حيث تتردد أصداء هيبة ترامب واستهلاكه المتفاخر بين النخبة السياسية في المنطقة. إلّا أنّ قبضة هذه النخب على شعوبها هي أكثر هشاشة من قبضتها على الطبقات الأوروبية الحاكمة. وبالتالي فإنّ قدرة هذه النخبة على قمع مصادر الإرهاب الإسلامي في مجتمعاتها، الأمر الذي يُعدّ عنصراً أساسياً في "صفقتها" مع ترامب، تبقى أمراً مشككاً به بالرغم من ادعاء نيوت جينغريتش في صحيفة "واشنظن بوست" أنّ ترامب قد سجّل إنجازاً تحويلياً مع الدول الإسلامية ضدّ الإرهاب الإسلامي. وبدلاً من ذلك، إذا كانت بيانات الرياض أي دليل، فإن قادة المنطقة سيتخلّون عن التزاماتهم ضدّ تمويل الإرهاب والأئمة المتطرّفين، كما كان عليه الحال في الماضي.
إن الفرق الوحيد هو أنّ ترامب، ومن خلال الاتفاق معهم على الخطر الإيراني، يستجيب لمخاوفهم الأمنية بطريقة لم يقم بها أوباما. ويمكن أن يؤدي ذلك إلى إحداث تغيير نحو الأفضل، ليس في النوع بل في الدرجة، في جهود الدول الإسلامية ضد الإرهاب الأصولي السني. إلّا أنّ السعوديين قد أجهضوا المبادرة من خلال طرح التنافس الإيراني مع معظم دول المنطقة بعبارات تتعلق بصراع سنّي-شيعي حادّ. إن هذا التفسير الديني لما هو في الغالب تحدي جيوسياسي هو أمرٌ خطير وغير دقيق، ولا تقبله دول مثل تركيا وإسرائيل ومصر.
وأخيراً، إنّ التأثيرات المتراكمة للفضيحة الروسية من جهة، وعدم كفاءة الإدارة الأمريكية من جهة أخرى - المتمثّلة في سوء التعامل مع الاستخبارات من قبل شريكَيْ أمريكا الأمنيين الأقرب، إسرائيل وبريطانيا - قد يكون لها مفعولاً عكسياً لما كان، عموماً، رحلةً رئاسيةً أولى واعدة.
جيمس إف. جيفري هو سفير الولايات المتحدة السابق في العراق وتركيا، وحالياً زميل "فيليب سولوندز" المتميز في معهد واشنطن حيث يركز على الاستراتيجية الإقليمية والدبلوماسية والعسكرية الأمريكية، وكذلك على تركيا والعراق وإيران. وقد عمل سابقاً كمساعد للرئيس الأمريكي ونائب مستشار الأمن القومي في إدارة الرئيس جورج دبليو بوش، حيث كان يركز على إيران بشكل خاص.
"ذي سايفر بريف"