- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
روسيا ستلقي بظلالها على رئاسة ترامب ما لم يتحرك
نادراً ما يحظى رؤساء [الولايات المتحدة] بميزة اختيار أولويات سياستهم الخارجية. وعوضاً عن ذلك، ترسم الأحداث أجنداتهم الدولية - انهيار الاتحاد السوفياتي أثناء ولاية جورج إتش. دبليو. بوش وبيل كلينتون، هجمات 11 أيلول/سبتمبر خلال رئاسة جورج دبليو. بوش، والانتفاضات العربية وصعود تنظيم «الدولة الإسلامية» خلال رئاسة باراك أوباما. وفي هذا الإطار، يواجه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب نفس التحدي - ولكنه يتمثل هذه المرة باغتصاب روسيا لجدول الأعمال.
ومع ذلك، فمقابل كل هذا الاهتمام الذي انصب على التواصل بين الحملة الرئاسية لترامب وموسكو - وبالتأكيد، هذه قضايا تتطلب استجابة جادة من البيت الأبيض - تكمن مشكلته الحقيقية المتعلقة بروسيا في مكان آخر: موسكو جريئة على نحو متزايد في تحديها للغرب، كما أن خطر اندلاع صراع بين القوى العظمى هو الآن في ذروته منذ نهاية الحرب الباردة. لذلك، فإن الولايات المتحدة في حاجة ماسة إلى استراتيجية واضحة للتعامل مع هذا التحدي.
لقد كان موقف ترامب تجاه روسيا خلال الحملة الانتخابية معتدلاً نسبياً. فقد قاوم انتقاد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وأعرب عن انفتاحه تجاه بناء علاقات أفضل بين الولايات المتحدة وروسيا. إلّا أن هذا النهج كان يعكس إلى حد كبير وجهة نظر الرأي العام الأمريكي: ففي استطلاع أجراه "مجلس شيكاغو" في أوائل عام 2016 وجد أن 56 في المائة من الأمريكيين يفضلون التعاون مع موسكو على العمل للحد من نفوذها، بينما أفاد استطلاع آخر لمركز "بيو" أن 23 في المائة فقط حددوا روسيا كـ "عدو".
ما أكبر ما يحدثه عام واحد من فرق! ففي أعقاب الجهود الروسية الفظة للتدخل في الانتخابات الرئاسية الأمريكية (من بين أمور أخرى)، يحدد 31 في المائة من الأمريكيين حالياً بأن روسيا هي البلد الذي يمثل "أكبر خطر" للولايات المتحدة. وفي المقابل، يقول 22 في المائة فقط إنها كوريا الشمالية، و 9 في المائة فقط إنها إيران. وفي حين أنه من المغري أن يُعزى ذلك إلى السياسة المحلية - وبالفعل إن التحول هو الأكثر وضوحاً بين الديمقراطيين - إلّا أن هذا الاتجاه مؤيَّد بقوة من كلا الحزبين في الولايات المتحدة - الجمهوري والديمقراطي.
وبالنسبة إلى ترامب، هذه معضلة مفهومة - ليس فقط لأن الساحة السياسية قد تحوّلت بسرعة بعيداً عنه، بل أيضاً لأنه كان الفائز في الانتخابات التي تُتهم فيها موسكو بالتدخل، وبالتالي فإن الرئيس الأمريكي يَعتبر انتقاد روسيا بديلاً لهجوم على شرعية فوزه.
ومع ذلك، فمما يُحسب للإدارة الأمريكية هو أن النهج الذي اتبعته تجاه روسيا لم يكن سهلاً: فقد حافظت حتى الآن على العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على روسيا، ومضت قدماً في نشر قوات أمريكية في أوروبا الشرقية، ووجهت ضربات في سوريا ضد حلفاء روسيا، في تحدٍ لتبجح موسكو. ومع ذلك، يُلقي الشبح الروسي بظلاله على رئاسة ترامب، ومعها تحالفات أمريكا العابرة للأطلسي، وسيواصل هذا الشبح القيام بذلك دون إجراءات حاسمة. وبالتالي، لا بدّ من اتخاذ ثلاث خطوات.
أولاً، يتعين على إدارة ترامب التوصّل إلى تقييم واضح لدوافع روسيا وأهدافها واستراتيجيتها، من أجل إطلاع صناع السياسة الأمريكيين عليها. ففي ظل رئاسة بوتين تُعتبر روسيا قوة تعديلية [استرجاعية]، غير راضية عن وضع العالم الراهن، ولكنها تتطلع إلى إعادة تشكيل النظام الدولي من أجل مصلحتها الخاصة. ويعني ذلك استعادة القوة الروسية إلى أمجادها السابقة وسط انتقام موسكو على طول الطريق من أي ازدراء بها سواء أكان فعلياً أو من نسج الخيال. ويعني ذلك أيضاً تقليص الدور الأمريكي في النظام الدولي - لأن بوتين يبدو وكأنه يلقي نظرة خاطئة على العالم، بتقليله من الدور الأمريكي في النظام الدولي.
ومع ذلك، فبسبب جميع هذه التطلعات، لا تزال روسيا ضعيفة اقتصادياً ودبلوماسياً، وبالتالي يجب أن تبحث عن فرص لاغتنامها ونقاط ضعفها لاستغلالها - على سبيل المثال، الإهمال الغربي لسوريا أو اضمحلال وفساد دول مثل أوكرانيا.
ثانياً، بعد الانتهاء من هذا التقييم، يتعيّن على ترامب رسم مسار واضح وحاسم للسياسة الأمريكية تجاه روسيا. فليس هناك أي ضرر في إشراك موسكو دبلوماسياً أو حتى في البحث عن مجالات تعاون بين البلدين. لكن على الولايات المتحدة توخّي الحذر في خضم ذلك، فلا بدّ من أن تحدّد ما تريده من هذه المشاركة وأن تحرص على ضمان ميزة لها مسبقاً. وكما هو الحال مع الخصوم الآخرين، تتطلب استراتيجية روسيا الشاملة معارضة الولايات المتحدة من أجل المعارضة. وبالتالي، فمهما كانت التقاربات التكتيكية بين البلدين، فإنهما سيبقيان، على الأقل في الوقت الحاضر، على طرفي نقيض على الصعيد الاستراتيجي.
ينبغي على استراتيجية الولايات المتحدة تجاه روسيا أن تتصدّى لاستراتيجية موسكو تجاهها لا أن تعكسها. ويجب على واشنطن أن لا تركّز على الحد من النفوذ الروسي - الضئيل في معظم المناطق - بحدّ ذاته، كما يجب ألّا تعمل بذهنية بوتين القائمة على مبدأ [معركة] محصلتها صفر. وبدلاً من ذلك، يتعين على الولايات المتحدة ردع موسكو من خلال عدم منحها أي فرصة سهلة للتدخل، لا سيما في أوروبا، وضمان ليس فقط عدم تحقيق عملياتها الحالية في أوكرانيا وسوريا أي مكاسب، بل تكبدها تكلفة استراتيجية باهظة أيضاً.
وسيكون ردع روسيا في الفضاء السيبراني [الإنترنت] أكثر صعوبة لكنه على نفس القدر من الإلحاح أيضاً، لمنع تكرار تدخلها في الانتخابات الأمريكية. ويُعتبر اتخاذ موقف حازم تجاه هذه المسألة الأخيرة مهماً بشكل خاص بالنسبة لترامب. وقد يخشى أن يصبح ذلك سلاحاً مشهراً في وجهه، ولكن في الواقع، من شأن إصدار أوامر بمراجعة التدخل الروسي وتعزيز الدفاعات الأمريكية للتصدي لمثل محاولات تخريب كهذه، أن يكونا مؤشرين على القوة والثقة.
وأخيراً، يتعين على الولايات المتحدة حشد حلفائها لدعم سياستها تجاه روسيا. فخلال الرحلة التي قام بها ترامب في أيار/مايو إلى بروكسل، دعا حلفاءه إلى الوفاء بالتزاماتهم المتعلقة بالنفقات الدفاعية كأعضاء في "حلف شمال الأطلسي" - وهو مطلب منطقي للغاية كان قد عرضه أسلافه أيضاً. ومع ذلك، من المبرر أن يتساءل شركاء الولايات المتحدة "ما الغاية من ذلك"، فالمهمة الأصلية لحلف "الناتو" كانت ردع "الاتحاد السوفيتي" والدفاع ضده، وهو هدف تلاشى بعد انهيار "اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية".
لقد اقترح البعض، ومن بينهم ترامب، أن يحوّل "الناتو" تركيزه إلى قضايا مثل الإرهاب والهجرة. ومع ذلك، ففي حين أن هذه المسائل ملحة، إلّا أنها تتطلب مجموعة مختلفة من القدرات، وربما من الشركاء، تفوق متطلبات ردع قوة عظمى. وإذا كانت واشنطن ترغب في إعادة إحياء التحالف وتحفيز حلفائها على زيادة نفقاتهم الدفاعية، يتعين عليها إيضاح التزام الولايات المتحدة بالردع - وهي مهمة تُعتبر مجدداً ذات أهمية كبيرة. وفي المقابل، إذا أظهرت واشنطن عدم اكتراثها في الموضوع، فعليها أن تتوقع أن يتحوّط حلفاؤها بدورهم في رهاناتهم مع موسكو أو أن يركزوا على الشراكات الدفاعية المتمحورة حول الاتحاد الأوروبي.
وبالنسبة إلى أي إدارة أمريكية، سيطرح التعامل مع روسيا وغيرها من الخصوم الذي يتحلّون بالجرأة والقوة، مشكلةً كبيرة. أما بالنسبة إلى إدارة ترامب، فيكتسي تخطي هذا التحدي أهميةً خاصة إذا كانت تأمل في استعادة السيطرة على أجندة السياسة الخارجية الخاصة بها.
مايكل سينغ هو زميل أقدم في زمالة "لين- سويغ" والمدير الإداري في معهد واشنطن.
"فورين بوليسي"