- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 3770
سد الفجوة المتعلقة بالصين بين واشنطن وشركائها في الشرق الأوسط
للمرة الأولى منذ عقود، اختلفت الأولوية الاستراتيجية القصوى للولايات المتحدة عن أولويات شركائها الرئيسيين في المنطقة، لكن بإمكان واشنطن سد هذه الفجوة من خلال تعزيز فهم شركائها للصين وإزالة الغموض عن تصوراتهم للتهديدات.
وسط تركيز صانعي السياسات الأمريكيين بشكل أكبر على المنافسة مع الصين في السنوات الأخيرة، تعاظمت أيضاً مخاوفهم بشأن علاقات دول الشرق الأوسط مع بكين. وقد ساهم ذلك في خلق حلقة مفرغة - فقد أدى تنامي النفوذ والطموحات الصينية في جميع أنحاء العالم إلى انخفاض الاهتمام الأمريكي بالشرق الأوسط، الأمر الذي يحفز بدوره الشركاء الإقليميين للولايات المتحدة على تعميق علاقاتهم مع بكين، مما يؤدي بدوره إلى زيادة التوترات مع واشنطن ويؤدي ببعض هؤلاء الشركاء إلى الاستنتاج بأن الشرق الأوسط هو قضية خاسرة. وتكمن وراء هذه الديناميكية شكوك متكررة بسوء النية. وتقلق واشنطن من فكرة أن شركاءها يستغلون علاقاتهم مع الصين بشكل متهكم كوسيلة ضغط لانتزاع خدمات من الولايات المتحدة، أو الأسوأ من ذلك، أنهم يشاركون بكين نزعتها الاستبدادية. ومن جهتهم، يقلق الشركاء الإقليميون من أن تكون واشنطن إما غير موثوقة أو تركز جداً على السياسة الداخلية لدرجة أنها لم تعد تمنح قيمة استراتيجية لعلاقاتها مع الشرق الأوسط.
وغالباً ما تتجاهل هذه الافتراضات اختلافين أساسيين. أولاً، يختلف الطرفان اختلافاً جوهرياً لناحية التهديد اللذين يتصورانه من جانب بكين. ومن وجهة نظر الولايات المتحدة، لا يوجد تهديد أكبر من القوة الاقتصادية والعسكرية المتنامية للصين ونواياها التحريفية. ولكن شركاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط لا يرون سوى تهديدات طفيفة من قبل الصين، إن وجدت. وهم أكثر احتمالاً بكثير أن يروا بكين كشريك تجاري قيّم وشريك سياسي حميد، بل ومفيد، وثقل موازن في بعض الأحيان للقوى العظمى، خاصة عندما يواجِهون مطالب أمريكية غير مناسبة لهم. وتعني هذه الاختلافات أنه للمرة الأولى منذ عقود، تختلف واشنطن وشركاؤها الإقليميون بشكل حاد حول ما يعتبرونه تهديداً أساسياً لأمنهم القومي.
ثانياً، يختلف الجانبان في قدرتهما على فهم الصين. ففي العصر الحديث، لم يكن لبكين سوى قسط قليل من المشاركة الهادفة في منطقة الشرق الأوسط، بينما أمضت النخب الإقليمية وقتاً قليلاً نسبياً في بكين مقارنةً بالعواصم الدولية الأخرى. وما يضاعف هذا الجهل هو افتقار معظم حكومات الشرق الأوسط للقدرة التحليلية. وحتى إسرائيل، الحليف الاستخباراتي الأقوى في المنطقة، توجه بطبيعة الحال معظم مواردها التحليلية نحو ما تعتبره أبرز التهديدات اللاحقة بها (على سبيل المثال إيران والإرهاب). واتسعت هذه الفجوة في وجهات النظر خلال السنوات القليلة الماضية حيث وجهت الولايات المتحدة المزيد من مواردها نحو منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وشهدت الصين تغييراً سياسياً تاريخياً، فانتقلت من التركيز على القوة المحلية بشكل كبير إلى تبني سياسة خارجية أكثر طموحاً. ونظراً لسرعة هذه التحولات، واجه شركاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط صعوبة في مواكبتها.
سد الفجوة
بالنظر إلى هذه الاختلافات، يُنظر عادةً إلى التحذيرات الأمريكية المتعددة بشأن التكنولوجيا والأنشطة العسكرية والمبادرات الدبلوماسية الصينية ومسائل أخرى متعلقة بها من منظور تشكيكي في المنطقة. وفي كثير من الحالات، يَنظر الشركاء إلى هذه الرسائل على أنها طلبات لتأدية خدمات للولايات المتحدة مع القليل من مراعاة مصالحهم أو أولوياتهم. وفي حالات أخرى، يعتقدون أنه يُطلب منهم العمل ضد مصالحهم والاختيار فعلياً بين واشنطن وبكين. وبشكل أكثر تهكماً، منحت طلبات الولايات المتحدة لشركائها قدرة تأليب القوتين العظميين على بعضهما البعض على أمل الحصول على أقصى قدر من الفوائد من كلتيهما.
وما يضاعف من هذه الصعوبات واقع أن المخاوف الأمريكية بشأن الصين غالباً ما تتخطى حدود السياسة الخارجية والاقتصاد والتكنولوجيا، بخلاف المحادثات الواضحة المتعلقة بإيران والإرهاب والمواضيع التقليدية الأخرى لدول الشرق الأوسط. وهذا يمكن أن يضع المسؤولين الأمريكيين في وضع غير مؤاتٍ، كونهم عادةً أكثر تخصصاً في المحفظات من نظرائهم الإقليميين (خاصة في الخليج العربي)، وبالتالي قد تكون معرفتهم أقل بالمسائل التجارية أو التكنولوجية الأوسع نطاقاً - أو حتى حول سياسة الولايات المتحدة بشأن هذه الأمور العالمية. وفي مثل هذه الحالات، لن يتردد المسؤولون في الشرق الأوسط في الاعتماد على معرفتهم الأعمق للإشارة إلى نفاق واشنطن أو معاييرها المزدوجة عند رفض طلباتها.
وتُعتبر محاولة سد هذه الفجوات التحليلية والمتعلقة بالسياسات مهمة شاقة وقد تُثبت أنها غير قابلة للتطبيق في بعض النواحي. فتوطيد العلاقات بين الشرق الأوسط وبكين لا ينبع من اتباع واشنطن لسياسات صحيحة أو خاطئة فحسب، بل أيضاً من التحولات الهيكلية الأعمق التي من غير المرجح أن تتلاشى في المستقبل المنظور: على وجه التحديد، طلب الصين المتزايد على النفط (وتراجع الغرب عن طلبه)، وتصميم بكين على الاضطلاع بدور دبلوماسي وأمني في المنطقة، وتراجع أهمية صراعات الشرق الأوسط في استراتيجية واشنطن للأمن القومي. ولكن لا ينبغي لأي من ذلك أن يثني صانعي السياسات الأمريكيين عن فعل ما بوسعهم للتوصل إلى تفاهم مشترك أفضل مع الشركاء الإقليميين بشأن التحدي الذي تطرحه الصين.
توصيات في مجال السياسة العامة
في ضوء جميع هذه العوامل، على الحكومة الأمريكية اتخاذ الخطوات التالية:
حاسِب نفسك قبل أن تحاسب غيرك. أولاً وقبل كل شيء، يجب على وزارة الخارجية الأمريكية إعادة النظر في نموذج "مراقبة الصين" الذي اعتمدته مؤخراً في سفارات الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، والذي بموجبه يتم تعيين مسؤولين ذوي تدريب متخصص للتعامل مع القضايا المتعلقة بتنافس القوى العظمى. ويستند هذا النموذج إلى برنامج "مراقبة إيران" الذي يعود إلى أوائل العقد الأول من القرن الحالي، ولكن بخلاف تلك المحفظة الضيقة نسبياً، أصبحت المنافسة الصينية تهيمن على استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة ويجب التعامل معها وفقاً لذلك. يجب أن يفهم جميع الدبلوماسيين الأمريكيين في الخارج المبادئ الأساسية لسياسة الولايات المتحدة تجاه بكين ويكون لديهم على الأقل معرفة أساسية بشأن مخاوف واشنطن المتعلقة بالتجارة والتكنولوجيا والمسائل ذات الصلة - لا سيما الخطوات التي تم اتخاذها لتقييد التجارة والاستثمار الصيني. ويتم تنفيذ بعض هذا التدريب فعلاً، ولكن يجب تسريع وتيرته وتوسيع نطاقه إلى حد كبير.
إنشاء شبكة معرفة متخصصة بالصين. يجب على مجتمع الاستخبارات الأمريكي إقامة شراكات مع حلفاء الولايات المتحدة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ لتدريب نظرائهم في الشرق الأوسط - وخاصة في منطقة الخليج - على تحليل المسائل المتعلقة بالصين. ولا ينبغي أن يركز هذا التدريب بشكل خاص على سياسة بكين في المنطقة، بل على قضايا أوسع نطاقاً مثل الانصهار المدني العسكري الصيني، والتغيرات المحلية الأخيرة، والأنشطة الإشكالية في جميع أنحاء العالم (على سبيل المثال، التجسس، والهجمات الإلكترونية، وعمليات التأثير، ونقل التكنولوجيا). ويجب أن يكون الهدف النهائي هو تنمية شبكة من الخبراء الصينيين في حكومات الشرق الأوسط وتزويدهم بالأدوات والبيانات الضرورية لدراسة المخاطر المتعلقة بالصين اللاحقة بمصالحهم الوطنية، مع إبقاء القنوات ذات الصلة مفتوحة لكي يتمكنوا من اللجوء إلى نظرائهم الأمريكيين عند الحاجة. ولجعل هذه المبادرة أقل استفزازاً لبكين - وبالتالي، من المرجح أن تثير مشاركة إقليمية - يجب أن يركز التدريب أيضاً على التحديات العالمية الأخرى مثل روسيا وإيران.
تكرار الحوار التكنولوجي الاستراتيجي بين الولايات المتحدة وإسرائيل. في أيلول/سبتمبر 2022، أطلقت واشنطن والقدس حواراً استراتيجياً ثنائياً رفيع المستوى حول التكنولوجيا. ويشمل تفويض المجموعة المشتركة بين الوكالات، بقيادة مستشارين في الأمن القومي من البلدين، تكنولوجيا الطاقة النظيفة، والتأهب للجائحة، والذكاء الاصطناعي، وقضايا تقنية أخرى. ومع أن الصين لم تُذكر في البيانات التي أعلنت عن الاجتماع الأولي للمجموعة أو محادثاتها الأخيرة، إلا أنها كانت بلا شك ما حفز إقامة الحوار، بما أن مخاوف الولايات المتحدة بشأن التعاون التكنولوجي الإسرائيلي مع بكين أصبحت مصدر إزعاج كبير في العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل. يجب أن تدرس الولايات المتحدة إمكانية تكرار هذا النموذج مع الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية وربما قطر. فعلى الرغم من أن قطاعات التكنولوجيا في تلك البلدان ليست متطورة بقدر قطاع التكنولوجيا في إسرائيل، إلّا أن هذه البلدان الثلاثة تستثمر بكثافة في هذه القطاعات وقد أقامت شراكات واسعة مع بكين بما يُقلق واشنطن. وإذا أثبتت الحوارات الثنائية قابلية استمرارها ونجاحها، يجب على واشنطن دراسة إمكانية دمجها ضمن إطار عمل متعدد الأطراف.
إعادة صياغة تصورات التهديدات. على الرغم من الخطوات المتتالية، فحتى أقرب شركاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط لا يرون الصين ببساطة كتهديد لمصالحهم (وربما بصرف النظر عن الاحتكاك الذي تخلقه علاقاتهم بالصين مع واشنطن). ولا يعني ذلك أنهم يثقون بشكل أعمى بنوايا بكين، بل فقط أنهم لا ينظرون إلى أفعالها كتهديد. وفي الواقع، يعتبرون رغبة الصين في أن تكون أكثر نشاطاً في الشرق الأوسط فرصة، سواء من حيث جذب التجارة والاستثمارات أو خلق ثقل موازن لاعتمادهم على الولايات المتحدة.
ومع ذلك، فإن هذا التصور عن التهديد خاطئ للغاية. على سبيل المثال، إذا حاولت الصين الاستيلاء على تايوان بالقوة أو بأساليب أخرى، فمن المحتمل أن تؤدي الأزمة الناتجة عن ذلك إلى اضطرابات هائلة في التجارة العالمية، من شأنها إلحاق أضرار اقتصادية بالغة في منطقة الشرق الأوسط. وحتى لو لم يتحقق هذا السيناريو الجذري، بإمكان بكين الاعتماد على تسليح نفوذها الاقتصادي في المنطقة في أي وقت لأغراض سياسية، كما حاولت بالفعل ضد أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية والفلبين وغيرها من الدول. ولا يزال التعاون الصيني مع إيران يمثل إشكالية إلى حد بعيد أيضاً - على الرغم من جهود بكين لتأطيره بشكل إيجابي (على سبيل المثال، التقارب الأخير بين إيران والسعودية)، إلّا أن هذا النشاط ساعد في حماية طهران من العزلة الاقتصادية والدبلوماسية مع تعزيز التهديد الذي تشكله على جيرانها.
يجب على المسؤولين الأمريكيين التأكيد على هذه التهديدات بدلاً من إعادة مناقشة الرسائل المتعلقة بالديمقراطية مقابل الاستبداد أو المخاطر التي يتعرض لها النظام الدولي، والتي لا تلقى صدى لدى معظم شركاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. فعلى غرار الصين، يرى غالبية هؤلاء الشركاء أنفسهم كقوى صاعدة لم تُمنح نصيبها العادل من النفوذ العالمي.
وبالإضافة إلى الإشارة إلى التهديدات، على المسؤولين الأمريكيين العمل مع الشركاء الإقليميين بشأن المبادرات التي تجذبهم مع الاستمرار في مواجهة بكين ضمنياً. على سبيل المثال، تمتلك السعودية والإمارات رأس مال ينافس الاستثمارات الصينية في البنية التحتية واستخراج المعادن في العالم النامي ويمكنهما الاستفادة من الشراكة مع الغرب في هذا الصدد. وإذا فشل الشركاء الإقليميين في ذلك، فقد ينتهي بهم الأمر في تسهيل استراتيجية بكين من خلال السعي وراء فرص مماثلة مع شركائهم الصينيين، والتي يتم تقديمها بسهولة أكبر في الوقت الحاضر.
مايكل سينغ هو زميل أقدم في زمالة "لين- سويغ" والمدير الإداري لمعهد واشنطن، والمدير المؤقت لـ "برنامج مؤسسة دايين وغيلفورد غليزر" التابع للمعهد حول "منافسة القوى العظمى والشرق الأوسط".