- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
صفقة بين الأعداء
يَفترض العديد من صناع السياسة في الغرب أن إيران طرف عقلاني، وأن أيديولوجيتها الإسلامية لا تُحرك سياساتها. وفي إطار هذه المقاربة، يفترض هؤلاء أن «خطة العمل المشتركة الشاملة» من شأنها أن تشجع إيران على تقديم تنازلات صعبة بشأن برنامجها النووي، لدرجة أنها ستقوم أيضاً في النهاية بإجراء تغيير جذري في سياساتها الإقليمية المتحدية وتعمل مع القوى العالمية لإحلال السلام والأمن في الشرق الأوسط. وخلافاً لهذا الرأي، يخشى منتقدو الصفقة من أن «خطة العمل المشتركة الشاملة» تحول دون قيام الغرب بالرد على السياسات الإقليمية الإيرانية العدوانية ومنعها، من منطلق الحرص على الاتفاق بأي ثمن. إن هذا النقص في الفهم المشترك في الغرب حول التحديات المطروحة في مرحلة ما بعد الاتفاق النووي تمكّن الجمهورية الإسلامية الإيرانية من مواصلة جدول أعمالها الإقليمي، الأمر الذي يهدد مصالح الغرب وحلفائه.
إن جمهورية إيران الإسلامية ليست موحدة سياسياً. كما أنها ليست دكتاتورية تقليدية. فهي عبارة عن نظام قمعي نشأ في أعقاب اندلاع ثورة. وبما أن الرموز والمُثل الثورية العليا ما زالت توفر رأس المال السياسي الكبير، فإن الفصائل السياسية تضطر إلى الاعتماد عليها والتنافس على ملكيتها ومعانيها. ولا تزال الطقوس الديمقراطية تعطي الشرعية للثورة، تلك الثورة التي لم ترتد حتى الآن على أبنائها من خلال انقلاب.
إن جانبي السياسة في إيران، أي المتشددين والمعتدلين، يعكسان الحقائق في الجمهورية الإسلامية. ففي عالم السياسات الخارجية والعسكرية والنووية، يُعتبر المرشد الأعلى آية الله خامنئي صاحب السلطة العليا. يُذكر أن قاعدة مناصري خامنئي لا تقوم على المعتدلين، بل على صفوف المتشددين الذين يسيطرون على أجهزة الجيش والاستخبارات والقضاء والدعاية. فهم يتمتعون بما يكفي من القوة لرسم وتنفيذ سياسة إيران الإقليمية، وإضعاف المؤسسات الديمقراطية وكبح أي انشقاق داخل البلاد. أما أولئك الذين من المتوقع أن تتفاوض معهم القوى الغربية، فقد تم إقصاؤهم من دوائر صناعة القرار في إيران.
يُمكن اعتبار الجمهورية الإسلامية طرف عقلاني إذا عرّفنا العقلانية على أنها الاستفادة من تحليل التكاليف والمنافع بغية تصميم السياسات والأساليب الأكثر فعالية وتطبيقها لتحقيق الأهداف. لكن يبرز فرق ما بين "العقلانية" و"المعقولية". إذ إن "المعقولية" تعني الالتزام بالحدود التي ينص عليها المنطق - الأخلاقي أو السياسي - وبالتالي تعني الاعتدال والانفتاح على الآخرين وإمكانية التنبؤ والتصحيح الذاتي. فلا يمكن القول إن أي ديكتاتورية حديثة أو دولة استبدادية، بما فيها النازية والشيوعية أو حتى منظمة إرهابية، كانت غير عقلانية. إن الأيديولوجيا الإسلامية هي على وجه التحديد ظاهرة حديثة لأنها عقلانية وتستخدم الوسائل التقنية والاستراتيجية الأكثر تقدماً لتحقيق جدول أعمالها. [لذا] فإن الجمهورية الإسلامية عقلانية، ولكن ليس هناك شك في أنها غير عاقلة أيضاً. فقادتها الأقوياء غير المنتخبين لا يؤمنون بممارسة "السياسة" في سلوكهم المحلي (وتشمل هذه "السياسية" نبذ العنف وتمكين الرأي العام لكي يشارك جميع المواطنين في العملية السياسية)، كما أنهم لا يسعون إلى إقامة علاقات اقتصادية وسياسية طبيعية مع العالم.
وغني عن القول إن الجمهورية الإسلامية، في المقاربة التي تعتمدها في السياسات المحلية والدولية، ليست مدفوعة في المقام الأول بالأيديولوجيا الإسلامية. فمؤسس النظام الحالي، آية الله الخميني، قال بصراحة إن مصلحة الدولة العليا أو حماية النظام تفوق الشريعة وكذلك الدستور. لذلك، فإن الأيديولوجيا الإسلامية هي ليست الهدف النهائي، بل مجرد وسيلة لحماية الحكومة وتقويتها. في الوقت الحالي، تُعتبر الأيديولوجيا الإسلامية أقل جاذبية مما كانت عليه من قبل، لا سيما بالنسبة للإيرانيين الأصغر سناً. كما أن وسائل الإعلام التي تسيطر عليها الدولة تخصص وقتاً أقل للدفاع عن الشرعية الإسلامية للحكومة ولمطالبة بالأفضلية في جميع المسائل القضائية لأن مسألة الشرعية الدينية قد فقدت أهميتها. إلى جانب ذلك، برز فقدان الحماس الثوري والمعتقدات الثورية على مستوى النخبة؛ فهناك عدد قليل من المسؤولين في الدولة ومن أنصار النظام يعتقدون أن الأيديولوجيا الإسلامية لديها القدرة على حل مشاكل هذا العالم والعالم التالي.
وفي حين أن الشيعة الإثني عشرية هي الدين الرسمي للدولة وأن "تصدير الثورة" هو العنصر الأساسي للسياسة الخارجية للنظام، فإن إيران لا تسعى إلى تشييع السنّة أو إنشاء "الهلال الشيعي" أكثر من سعي الصين إلى توسيع نفوذها من خلال بناء دول تابعة، أو من سعي روسيا إلى بناء تحالفات أيديولوجية. ويتجلى الدافع وراء السياسة الخارجية الإيرانية في "الرغبة في السلطة،" كما تستخدم طهران معارضتها الأساسية للولايات المتحدة والغرب وإسرائيل، وليس التشيع أو الأيديولوجيا الإسلامية، لتوسيع نفوذها في المنطقة. إن طرح إيران لنفسها كقوة رائدة في المعركة ضد الإمبريالية والاستعمار الجديد و"النظام العالمي الظالم" يسمح لها بالتحالف مع أطراف أخرى حكومية وغير حكومية. فهذه الأجندة تجذب المسلمين من جميع أنحاء العالم ومختلف الانقسامات الأيديولوجية، فضلاً عن غير المسلمين من معسكر اليسار الجديد.
إن سياسة إيران الإقليمية جزءً لا يتجزأ من هوية الجمهورية الإسلامية. فالمرشد الأعلى هو الذي صمم النظام كما نعرفه الآن، وأن سياسته الإقليمية هي السمة المميزة التي تمنحه قدرات فريدة من نوعها وتسمح له بتحدي أعدائه على الصعيدين الداخلي والخارجي. ويكمن هدفه النهائي في السيطرة الإيرانية على شرق أوسط مستقر وآمن من دون التأثير الغربي. وتحقيقاً لهذه الغاية، سيقاتل بشراسة، وبطريقة عقلانية، إلى أن تعترف القوى الإقليمية والعالمية الأخرى بذلك. فهذا الأمر كان في صميم سياسة طهران الإقليمية عندما كانت إيران تخضع لعقوبات لم يسبق لها مثيل في ظل غياب "الصفقة". وسيستمر في كونه ركيزة أساسية في سياستها الخارجية في إطار الاتفاق النووي وتخفيف العقوبات.
إن صنّاع القرار الذين يتصورون منطقة شرق أوسط سلمية وآمنة قد يرون نهجاً مختلفاً من قبل إيران إذا خرج آية الله خامنئي من الساحة السياسية، ولكن حتى ذلك الحين سيحتاجون إلى مواجهة أنشطة إيران المزعزعة للاستقرار الإقليمي إذا كانوا يرغبون في تحقيق مصالحهم الوطنية الخاصة.
مهدي خلجي هو زميل "ليبيتزكي فاميلي" في معهد واشنطن.
"كارافان"