بالنظر إلى التقارير التي تحدثت عن حشود هائلة توافدت على المدن الإيرانية للمشاركة في مراسم التشييع تكريماً لقائد «فيلق القدس» السابق قاسم سليماني، قد يخلق ذلك انطباعٌ بأنه كان يتمتع بشعبية في جميع أنحاء المنطقة. إلّا أن هذا الانطباع أبعد ما يكون عن الحقيقة. ففي معظم بلدان الشرق الأوسط، انعدم تماماً رد الفعل الشعبي على وفاته؛ وينطبق الأمر نفسه على البلدان ذات الأغلبية المسلمة في أماكن أخرى، باستثناء احتجاجٍ واحدٍ صغير في باكستان.
والأمر الأكثر لفتاً للانتباه من أي شيء آخر هو رد الفعل القليل من المسلمين الشيعة خارج إيران. فإذا أُخِذ العراق في الاعتبار، تدفّقَ سكّان بغداد منذ أشهرٍ إلى الشوارع ليلاً بعد ليلة للاحتجاج على مختلف المشاكل التي يواجهونها مع حكومتهم - لكنهم لم يتدفقوا الآن، ولم يتدفقوا في أعقاب مقتل سليماني. وخلال الفترة نفسها، تظاهر مئات الآلاف من العراقيين عدة مرات بعد صلاة الجمعة. لكن يوم الجمعة الماضي، أشارت التقارير الصحفية ووسائل التواصل الاجتماعي إلى أن عدداً قليلاً من الجوامع فقط شهِد احتجاجاتٍ شعبية ضد ضربة الطائرة الأمريكية بدون طيار التي قتلت سليماني قبل ساعاتٍ قليلة من [الصلاة]، إلى جانب السياسي العراقي البارز جمال جعفر محمد علي الإبراهيمي (المعروف أيضاً بأبو مهدي المهندس، قائد ميليشيا «كتائب حزب الله»).
هناك ما لا يقل عن سبعة ملايين شيعي يُقيمون في بغداد، أو ما يصل إلى ثمانية ملايين وفقاً لبعض التقارير. إلا أن نسبةً صغيرةً جدّاً منهم - أي ما لا يزيد عن 2 في المائة وفقاً للتقارير، وربما أقل من 1 في المائة - حضرت جنازة سليماني في 4 كانون الثاني/يناير. وعلى الرغم من أن هذه النسبة قد تبدو كبيرة إذا تُرجمت إلى أرقام أولية أو إذا شوهدت في الأشرطة المصوّرة ضمن الأنباء الدعائية المتعلٌّقة بهذا الحدث، إلّا أنها تتضاءل مقارنةً بما يقرب من ثلث كافة الشيعة العراقيين الذين يشاركون في مسيرة الأربعين السنوية، حتى في السنوات التي يكون فيها المشاركون عرضةً للاعتداءات الإرهابية المتكررة. ولمثل لهذه الأرقام دلالات كبيرة حول الشعبية الحالية لسليماني وإيران في العراق.
وبالنظر أيضاً إلى أن موكب التشييع في بغداد مرّ مباشرةً عبر المنطقة الدولية دون أي محاولة لاقتحامها أو مهاجمة السفارة الأمريكية، قد يعني ذلك الكثير من حيث مدى الشراسة الفعلية لردة الفعل على مقتل سليماني. وكان العديد من الخبراء يشعرون بالقلق من احتمال استغلال الحدث لشن هجوم كبير على السفارة، مما يؤدي إلى سقوط أعداد كبيرة من الضحايا إذا ما ردّت "مشاة البحرية الأمريكية" على الهجمات في ذلك الموقع. ولم يحدث ذلك، سواء لأن القوات العسكرية الأمريكية نقلت قوّاتٍ إضافية للدفاع عن السفارة، أو لأن المشاركين في الموكب لم يكونوا غاضبين بما يكفي لكي تصل الأمور إلى هذا الحد، أو للسببيْن معاً.
إن رد الفعل هذا الصامت نسبيّاً هام بشكلٍ خاص لأنه حدث في بغداد، التي شهدت احتجاجاً مناهضاً لإيران أقل وضوحاً من المدن العراقية الجنوبية مثل النجف والبصرة. فهناك، تم إحراق القنصليات الإيرانية تماماً - وليس حرقاً رمزياً لقاعة الاستقبال (كما حدث في السفارة الأمريكية في الأسبوع الماضي، قبل مقتل سليماني)، ولكن التدمير التام جرى من قبل جماهير عفوية، مما يعكس غضباً شعبياً لا يمكن السيطرة عليه. وفي المقابل، كانت الحشود التي قامت بأعمال الشغب بالقرب من السفارة الأمريكية في 31 كانون الأول/ديسمبر مؤلفة إلى حدٍّ كبير من أعضاء ميليشيات نفّذوا عملية ذات مستوًى عالٍ من الانضباط والتنظيم.
ويُعتقد على نطاق واسع أن هذه الميليشيات نفسها مسؤولة عن مقتل مئات المحتجّين العراقيين بناء على أوامر سليماني في الأشهر الأخيرة، مما قلل إلى حد كبير من الدعم الشعبي الذي كسبته خلال الحرب ضد تنظيم «الدولة الإسلامية». واستمرت هذه الانتهاكات هذا الأسبوع؛ ففي الناصرية على سبيل المثال، قتلَ أعضاء الميليشيات محتجّاً رفض الانضمام إلى موكب التشييع المحلّي لسليماني والمهندس في 5 كانون الثاني/يناير. وردّاً على ذلك، قام حشد غاضب بإحراق مقرّ الميليشيا المعنيّة. وفي حالاتٍ أخرى، أظهر المحتجّون الجنوبيون سخطهم تجاه إيران ووكلائها من خلال مهاجمة مواكب تشييع سليماني.
ويقيناً، سيؤدي مقتل سليماني إلى التفاف العديد من الإيرانيين حول العلم. ومع ذلك، فإن العامل نفسه الذي جعله يتمتع بشعبية في إيران يعمل ضدّه في أماكن أخرى من المنطقة، وهو صورته كقومي إيراني مثالي. وبالعودة إلى الوطن، لا يصوّره النظام كشخصية إسلامية أو ثورية عظيمة، إنما كرجلٍ أنقذ الأمّة الإيرانية من تهديد تنظيم «الدولة الإسلامية». فبعدَ أن غزت المنظمة الإرهابية العابرة للحدود الموصل في عام 2014 وبدأت مسيرتها نحو بغداد، كان لدى الكثير من الإيرانيين خوف مبالغ فيه من أنهم سيكونون المقبلين الذين يعانون من اجتياح إرهابي، أو على الأقل فوضى داخلية كبيرة من النوع الذي شهدته سوريا والعراق. وكنتيجة لذلك، حتى عددٌ كبير من الإصلاحيين الإيرانيين يرون سليماني بمثابة الرجل الذي أنقذ بلادهم من ذلك المصير. ورغم أن النظام قد نظّم بالتأكيد المشاركة في مآتمه، إلّا أنه لا يمكن إنكار رثاء الكثير من الإيرانيين فعلاً على رحيله.
ولا شك في أن هذه الفكرة حول "المنقذ سليماني" مثيرة جدّاً للسخرية، خاصّةً لأن انتصارات تنظيم «الدولة الإسلامية» في العراق كان سببها إلى حدٍّ كبير السياسات الطائفية المتطرفة التي مارسها على السلطات في بغداد. نعم، أدّى سليماني والميليشيات الخاضعة لسيطرته دوراً أساسيّاً في محاربة الجماعة، لكنه كان أيضاً الوكيل الأساسي لعمليات التجنيد التي قامت بها - بمعنى آخر، كان رجل الإطفاء والمتسبب بالحرائق المتعمّدة على حد سواء.
وبصرف النظر عن المشاعر المحلية، فإن النقطة الأكثر أهمية هي أن المسلمين في أماكن أخرى من المنطقة وحول العالَم لن يندفعوا إلى السير وراء راية قومية إيرانية. وفي الواقع، إن صورة سليماني القومية هي التي غذت معظم الكراهية له في العراق. ووفقاً لذلك، من غير المرجح أن تواجه الولايات المتحدة عمليات انتقامية شعبية من جانب المسلمين في العالَم في أعقاب موته - ولا حتّى من جانب معظم الشيعة. وبينما صعّد البرلمان العراقي بسرعة جهوده لإخراج القوات الأمريكية من البلاد، يجب أن تميّز واشنطن بين القرارات الحامية التي تصدرها النخب السياسية المتأثّرة بإيران من جهة، والغضب الفاتر نسبيّاً الذي تُظهره عامة الناس حيال مقتل سليماني من جهة أخرى.
پاتريك كلاوسون هو زميل أقدم في زمالة "مورنينغستار" ومدير الأبحاث في معهد واشنطن.