- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 3157
عشرون عاماً من عهد الملك محمد السادس (الجزء الثاني): تطورات السياسة الخارجية
"هذا المرصد السياسي هو الثاني في سلسلة من جزئين لتقييم التطورات الرئيسية خلال عهد الملك محمد السادس. وقد بحث الجزء الأول التطورات المحلية".
خلال العقدين الماضيين، قلّل العاهل المغربي الملك محمد السادس من البصمة المغربية في الشرق الأوسط، مفضلاً الاستثمار في علاقات جديدة عبر أفريقيا، وتعزيز التحالفات في أوروبا، والحفاظ على علاقات مثمرة مع واشنطن، والسعي إلى اجتذاب استثمارات من الصين. ولكن العلاقات العدائية مع الجزائر لا تزال تشكل نقطة قاتمة. وبينما يمكن القول أنّ محمد السادس قد سجّل نجاحات في ملف الصحراء الغربية، إلّا أن حل النزاع أمر بعيد المنال.
من الخليج إلى إفريقيا وأوروبا
في عهد العاهل المغربي السابق، كرّست المملكة قدراً كبيراً من الجهد لإقامة علاقات وثيقة مع الدول الغنية في الخليج العربي والتوسط في الصراع الإسرائيلي -الفلسطيني. ورغم أن محمد السادس حريص على مواصلة جذب الاستثمارات الخليجية، إلا أنّ المغرب كان غائباً إلى حد كبير عن عملية السلام منذ توليه السلطة عام 1999، وسعى إلى تجنب التورط غير الضروري في شؤون الشرق الأوسط.
وهناك عدد من الأمثلة الحديثة الدّالة البارزة. ففي عام 2015، انضم المغرب إلى التدخل العسكري الأولي الذي قادته السعودية في اليمن، ولكن بعد ذلك بفترة قصيرة تراجع عن مشاركته بعد أن أسقط الثوار الحوثيين إحدى طائراته من طراز "إف-16". وفي عام 2017، لم تدعم المملكة بوضوح أي جانب من النزاع الخليجي حول قطر، على الرغم من العلاقات الوثيقة التي تربط ظاهرياً الرباط بالرياض، واعتماد المغرب الطويل الأمد على الاستثمارات السعودية. وبعد عامين، علّق المغرب مشاركته في حرب اليمن بصورة تامة بعد أن بثّت قناة "العربية" المملوكة للتلفزيون السعودي فيلماً وثائقياً اعتُبر انتقاداً لموقف الرباط من الصحراء الغربية. وبالنسبة للنزاع الإسرائيلي -الفلسطيني، قام المستشار الأمريكي جاريد كوشنر مؤخراً بزيارة المملكة لطلب دعمها لمؤتمر السلام المتعدد الأطراف الذي عُقد الشهر الماضي في البحرين. ولكن في نهاية المطاف، أرسل المغرب موظفاً من وزارة الخارجية متدني الرتبة لتمثيله في المؤتمر.
باختصار، لم ينمُ حضور الرباط في الشرق الأوسط في عهد محمد السادس. وبدلاً من ذلك، ركّز العاهل المغربي طاقاته الدبلوماسية على بناء العلاقات عبر إفريقيا وتعزيز التحالفات التقليدية في أوروبا. وربما كان جهد بناء العلاقات عبر إفريقيا هو التحوّل الأكثر أهمية مما كان عليه الوضع في عهد والده، وقد بدأ يؤتي ثماره. فقد زادت المملكة من وصولها إلى الأسواق الإفريقية في مجالات الاتصالات والتعدين والمصارف والتأمين، ووسّعت من نفوذها الإقليمي بعد انضمامها من جديد إلى الاتحاد الإفريقي في عام 2017. وكان المغرب قد ترك المنظمة في عام 1984 بعد أن قرر أعضاؤها قبول انضمام "الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية"، وهو الاسم الذي أطلقته "جبهة البوليساريو" المدعومة من الجزائر على الصحراء الغربية؛ و "البوليساريو" هو الخصم الرئيسي للرباط في تلك المنطقة المتنازع عليها حتى اليوم.
ولدى البلاط الملكي المغربي أيضاً سبب وجيه لتعميق العلاقات مع أوروبا، حيث تعيش حالياً أكثر من 50 بالمائة من جاليات المغاربة المغتربين (حوالي 4-5 مليون مواطن). وفي عام 2000، وقّع محمد السادس اتفاقية شراكة بين الاتحاد الأوروبي والمغرب أسفرت عن توسيع نطاق التجارة بشكل كبير. ومنذ ذلك الحين، اتسعت العلاقة لتشمل التبادلات البرلمانية، والمساعدة من الاتحاد الأوروبي (200 مليون يورو سنوياً في الفترة 2014-2017 وحدها)، والتعاون في مجال الأمن والهجرة. وأصبحت القضية الأخيرة ملحّة بشكل خاص بالنظر إلى إغلاق طرق الهجرة في الجزء الأوسط من البحر الأبيض المتوسط في العام الماضي وتزايد عدد الأشخاص الذين يسعون إلى دخول أوروبا عبر المغرب.
وفي الفترة بين عامي 2015-2018 انتكست العلاقات في أعقاب قرار "محكمة العدل الأوروبية" باستبعاد الصحراء الغربية من الاتفاقيات التجارية المبرمة بين الاتحاد الأوروبي والمغرب التي تشمل المنتجات الزراعية، والزراعية الغذائية والسمكية. ومع ذلك، ففي وقت سابق من هذا العام، اعتمد البرلمان الأوروبي سلسلة من الاتفاقيات المعدّلة من خلال شمل الأراضي المتنازع عليها، مما أدّى إلى تعافي العلاقات إلى حد كبير.
انخراط قوة عظمى
رغم أن علاقات الرباط مع الولايات المتحدة ليست قوية مثل تحالفاتها الأوروبية، إلا أنها أحرزت تقدماً هاماً منذ تولي محمد السادس العرش. ففي عام 2004، أدرجت واشنطن المغرب كـ "حليف رئيسي من خارج حلف الناتو". وبعد عام، أطلق البلدان مناورة "فلينتلوك"، وهي تدريب عسكري إقليمي سنوي يركّز على مكافحة الإرهاب. وبالفعل، رسّخت الرباط مكانتها كشريك رئيسي في مكافحة الإرهاب في غرب إفريقيا والساحل، حيث سعت الجماعات الجهادية مثل تنظيم «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» إلى استغلال الدول المنهارة في مالي وغيرها. والمملكة المغربية عضو في "الشراكة المعنية بمكافحة الإرهاب عبر الصحراء الكبرى"، وهي برنامج أمريكي يساعد الحكومات الإقليمية على تعزيز قدرتها على احتواء المنظمات الإرهابية المحلية وهزيمتها. كما لعبت الرباط دوراً أساسياً في تشكيل "المنتدى العالمي لمكافحة الإرهاب" مع الجزائر ومصر والأردن وقطر والسعودية ودولة الإمارات.
وفي غضون ذلك، يقوم المغرب منذ عام 2008 بإجراء مناورات عسكرية ثنائية سنوية مع الولايات المتحدة تُعرف باسم مناورات "الأسد الإفريقي"، التي تركّز على تحسين توافق العمل المشترك. ومنذ عام 2012، يعقد البلدان حواراً استراتيجياً يركز على تعزيز التعاون العسكري والاقتصادي ومكافحة الإرهاب. وكانت المملكة أول دولة من بلدان المغرب العربي التي تنضم إلى التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة لهزيمة تنظيم «الدولة الإسلامية». وفي عام 2018، أجرت البحرية الأمريكية مناورة "المصافحة الصاعقة" مع القوات البحرية والجوية المغربية، وهي المناورة العسكرية الثنائية الأكثر تقدماً التي أجريت مع شريك أفريقي.
وعلى الصعيد الاقتصادي، وقّعت واشنطن والرباط اتفاقاً للتجارة الحرة في عام 2006، وهو الاتفاق الوحيد من نوعه بين الولايات المتحدة ودولة أفريقية. وشكّل الاتفاق خيبة أمل بعض الشيء بالنسبة للمغرب إذ أن العجز التجاري مع الولايات المتحدة ما فتئ يزداد. ومع ذلك، كان للاتفاق تأثير ثانوي كبير في الدلالة على وجود مناخ استثماري مؤاتي. ونتيجة لذلك، التزمت شركات أمريكية كبرى، مثل "بوينغ"، بمشاريع في المملكة.
ولم تحول مثل هذه العلاقات دون تعامل المغرب مع خصوم الولايات المتحدة، وعلى رأسهم الصين. فقد أدّى اجتماع العاهل المغربي مع الرئيس شي جين بينغ عام 2016 إلى إبرام عدد كبير من الاتفاقات التي تغطي قطاعات السياحة والتعليم والبنية التحتية. وفي وقت سابق من هذا الشهر، وافق كل من "البنك المغربي للتجارة الخارجية" (BMCE) وشركة "تشاينا كوميونيكيشنز كونستركشن كومباني" ("شركة الصين لبناء الاتصالات") المملوكة للدولة على بناء مدينة متطورة بالقرب من طنجة، التي إذا ما اكتمل تشييدها قد توفر 100 ألف فرصة عمل وتجتذب استثمارات تُقدّر بنحو 10 مليارات دولار. بيد، تعثرت صفقة سابقة في عام 2017، مما أثار الشكوك حول ما إذا كانت الاتفاقية الجديدة ستُترجم إلى استثمارات فعلية على أرض الواقع.
الصحراء العنيدة
من بين جميع أهداف العاهل المغربي المتعلقة بالسياسة الخارجية، كان الاعتراف الدولي بسيادة المغرب على الصحراء الغربية أكثرها تقديراً وصعوبة للتحقيق. ففي عام 2006، أي بعد خمسة عشر عاماً من شروع قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في مراقبة منطقة عازلة تفصل الإقليم الخاضع للسيطرة المغربية عن الجزائر وموريتانيا، قدّمت الرباط خطة حكم ذاتي تَحكم فيها الصحراء الغربية نفسها تحت سيادة المملكة. وبينما أيّدت فرنسا هذا الاقتراح، اعتبرته الولايات المتحدة "جاداً وواقعياً ويتحلى بالمصداقية". إلّا أن جبهة "البوليساريو" رفضت الخطة وهو الأمر بالنسبة للجزائر، التي تدعم الجبهة منذ وقت طويل، وهكذا تلاشت محادثاتهما اللاحقة مع المغرب إلى حد كبير في عام 2012.
ومنذ ذلك الحين، استمر محمد السادس في التماس الدعم لاقتراحه المتعلق بالحكم الذاتي أينما استطاع. على سبيل المثال، عكس جزء كبير من تواصله مع إفريقيا حسابات بأن هذا التواصل لن يحقق فوائد اقتصادية فحسب، بل تقدماً دبلوماسياً أيضاً. وقد نجح هذا النهج في بعض النواحي - فمنذ أواخر التسعينيات، سحبت عشرون دولة في جميع أنحاء العالم اعترافها بـ "الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية"، وما زالت خمسة وثلاثون دولة إفريقية لا تعترف بها. وعلاوة على ذلك، أدمجت مبادرات السياسة المحلية مثل برنامج "الهيكلة الإقليمية المتقدمة"، الصحراء الغربية في هياكل الحوكمة القائمة في المغرب، محوّلة بذلك الواقع لصالح الرباط.
ولكن في جوانب أخرى، لم تُحقق الجهود الدبلوماسية للعاهل المغربي فيما يتعلق بالصحراء الغربية هدفها، كما يتضح من التوترات القائمة مع أوروبا في أعقاب قرار محكمة العدل الأوروبية بشأن التجارة، وإصرار الاتحاد الإفريقي على السماح بمشاركة "الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية" في مؤتمرات القمة. وقد لمّحت واشنطن بشدّة عن خيبة أملها من الوضع الراهن، حيث عبّر مستشار الأمن القومي جون بولتون عن معارضته لبعثات حفظ السلام المفتوحة، وبالتالي تواجه الرباط ضغوط من قبل الأمم المتحدة للعودة إلى طاولة المفاوضات. وفي الوقت نفسه، ظلت علاقات المغرب بالجزائر عدائية إلى حد كبير، مما يحول دون حل النزاع الإقليمي. ومع ذلك، يعود الكثير من الفضل على الأرجح إلى محمد السادس في منع تصعيد حدة التوترات في الصحراء الغربية وتحوّلها إلى عنف واسع النطاق.
اعتبارات لواشنطن
أدّت توجهات السياسة الخارجية للمغرب في عهد الملك محمد السادس إلى تعزيز المصالح الأمريكية إلى حد كبير، وأثبتت البلاد أنها حليف موثوق به في منطقة لا تفتأ تزداد تقلباً. ومع دخول الملك عقده الثالث من الحكم، ينبغي على واشنطن التأكد من أن الرباط تملك الوسائل اللازمة لمواصلة تسهيل الاستقرار الإقليمي.
وتحقيقاً لهذه الغاية، يجب على صانعي السياسة إيجاد السبل التي تعزّز القيادة الأمريكية في إفريقيا. فبدعم أكبر من واشنطن، يمكن لـ "القيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا" ("أفريكوم") أن تبني على النجاح الأخير للمشاركة العسكرية ومكافحة الإرهاب الذي حققته مع المغرب، وأن تكون بمثابة مركز لتعاون أوروبي أكبر مع الرباط فيما يخص التحديات المتعلقة بالهجرة، وأن تشجّع التنسيق الأمني المغربي مع الجزائر (وهو ما قام به مسؤولو "أفريكوم" بصورة غير علنية وفعلوه بصورة بناءة في الماضي). ينبغي على واشنطن أيضاً النظر في توجيه المزيد من مساعداتها الثنائية للوكالات المغربية المسؤولة عن إدارة تدفقات الهجرة، التي لا تتحدى استقرار المملكة فحسب، بل استقرار حلفاء أمريكا الأوروبيين أيضاً. وأخيراً، تتطلب المصالح المتداخلة الكثيرة بين الحكومتين اتصالات واضحة ورفيعة المستوى، لا يمكن أن تتحقق إلا إذا أرسلت واشنطن سفيراً إلى الرباط.
سارة فوير زميلة مساعدة في معهد واشنطن، الذي عمل فيه رضا عيادي مساعداً باحثاً في الفترة 2018-2019.