في الآونة الأخيرة، أصبح النقاش حول الاتفاق النووي موضوعاً ساخناً في إيران. ويركّز التداول الأخير [في السرديات المتنافِسة] حول مدى المسؤولية التي يتحمّلها المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي عن المفاوضات ونتائجها.
خامنئي، المجلس، والمحادثات النووية
يصرّ فريق الرئيس الإيراني حسن روحاني على أنّ الاتفاق ينبغي أن يعتمده "المجلس الأعلى للأمن القومي"، بدلاً من «مجلس الشورى»، ويعود ذلك جزئياً إلى أنّ روحاني لا يتمتع بالسلطة لنقض قرار البرلمان. أمّا السبب الإضافي والأهمّ، فهو أنّ تصويت «مجلس الشورى» من شأنه أن يمنح المرشد الأعلى وسيلةً يرفض بها الاتفاق بهدوءٍ. ولن يستطيع خامنئي أن يخفي بسهولة مسؤوليته عن قرار "المجلس الأعلى للأمن القومي"، ذلك أنّ قرارات هذا الأخير، بخلاف مشاريع قوانين «مجلس الشورى»، لا تصبح قوانين إلّا بعد موافقة رسمية من خامنئي.
ولخامنئي تاريخ طويل في استخدام تعليمات غير مُعلَنة يوجّهها إلى «مجلس الشورى» باعتبارها وسيلةً لدفع الحكومة إلى اعتماد سياساتٍ لا يقع على عاتقه تحمّل مسؤوليتها. وعندما يتدخّل في شؤون «مجلس الشورى»، فإنّه يفعل ذلك علناً تارة وسراً تارة أخرى. وقد برز مثال على التدخل العلني في خطابه في 21 تشرين الثاني/نوفمبر2012، عندما حثّ البرلمان على عدم استجواب الرئيس في ذلك الحين أحمدي نجاد "لأنّها رغبة العدوّ". [وفي أعقاب ذلك] أصدر رئيس «مجلس الشورى» علي لاريجاني على الفور بياناً يعكس الاحترام والمراعاة جاء فيه: "إنّ الوصي على العالم الإسلامي [خامنئي] يدرك تماماً منفعة المسلمين جميعاً، وبالتأكيد ستجلب نصيحته السعادة للمجتمع الإسلامي. إنّ إطاعة أوامر معاليكم هو واجب و مصدر فخر واعتزاز، لي ولأعضاء «مجلس الشورى»". كذلك، أصدر باقي أعضاء «مجلس الشورى» بياناً مشتركاً خاصاً بهم أعلنوا فيه: "إنّ توجيهات المرشد الأعلى وأوامره إلزامية للنواب وهي بمثابة الكلمة الفصل". أمّا فيما يتعلّق بالتدخلات السرية، فقد أعلن لاريجاني، في 30 كانون الثاني/يناير 2015، أنّ خامنئي نصح «مجلس الشورى» بالتعاون مع الحكومة بشأن الزيادة في موازنة "صندوق التنمية الوطنية" التي وصلت إلى 3 في المائة. وقال: "لم يُرِد المرشد الأعلى أن يردّ على «مجلس الشورى» برسالة خطية، ولذا أبلغني نصيحته شفهياً". وقبل أن يعرب خامنئي سراً عن رأيه، كانت هناك معارضة شديدة لهذا القانون في «مجلس الشورى»، ولكن تمّت الموافقة عليه فيما بعد.
لقد تم تحليل الأمور في المرصد السياسي 2460 ("مخاوف إيران الأمنية والجدل القانوني حول الاتفاق النووي")، ووفقاً لذلك كان خامنئي حذراً بشأن موقفه من الاتفاق النووي. ففي 9 نيسان/أبريل، على سبيل المثال، قلّل من أهمية اتفاق جنيف وردّ على ادّعاء فريق روحاني بأنّه كان قد وافق على تفاصيل المفاوضات بقوله: "لستُ غير مبالٍ بالمفاوضات لكنّني لم ولن أتدخل فيها، لا في الماضي ولا في المستقبل".
سردية جديدة حول المحادثات مع الولايات المتحدة
يحاول فريق روحاني جاهداً إظهار أنّ المرشد الأعلى يتحمّل مسؤولية كاملة عن المفاوضات ونتائجها، وذلك كوسيلة لإجبار خامنئي على التعبير عن موقفه علانية. وقد أدّى ذلك إلى حالة من التناقض، إذ يشير فريق روحاني إلى أنّ المبادرة من أجل إطلاق المفاوضات النووية مع الولايات المتحدة لم تصدر عن الرئيس الإيراني، بل عن المرشد الأعلى.
حتى الآن، كانت السردية السائدة تقول إنّ روحاني كان أكثر المرشحين اعتدالاً ومهارةً من الناحية الدبلوماسية في الانتخابات الرئاسية عام 2013، وإنّ فوزه غيّر موقف البلاد تجاه المسألة النووية والمفاوضات مع واشنطن. وفي هذه السردية، صُوِّر روحاني على أنّه [شخصية] معتدلة تقدّر النتائج الاقتصادية والأمنية التي تمخّضت عنها السياسة النووية الإيرانية إبّان حكم أحمدي نجاد. وعلى الجانب المقابل، تمّ تصوير خامنئي بوصفه شخصاً متعنّتاً في موقفه من المفاوضات مع الولايات المتحدة والسياسة النووية على حدٍ سواء. لكن في الآونة الأخيرة، قرّر فريق روحاني تغيير هذه السردية من أجل أن يردّ على منتقدي الاتفاق النووي، الذين يلومون أعضاء الفريق على سذاجتهم في الوثوق بواشنطن بما يكفي للدخول في محادثات معها.
ومن المفارقة أنّ مفاوضَيْن بارزَيْن، كانا قد تولّيا مهمة تغيير السردية، كانا قد شاركا في المفاوضات إبّان حكم أحمدي نجاد أيضاً، الأمر الذي يتم تجاهله من قبل معظم الذين يشيرون إلى أنّ انتخاب روحاني شكّل نقطة تحوّل في سياسة إيران الخارجية. أوّلاً، اجتمع عباس عراقجي، وهو مفاوض نووي بارزٌ في عهد الحكومتين، سرياً مع مسؤولين في الإذاعة والتلفزيون الرسميين لإطلاعهم على المحادثات حتى لا ينخدعوا بانتقادات المتشددين ويبثّوا في المقابل مضموناً إيجابياً عن الاتفاق. وقد نشرت الإذاعة الرسمية ووكالة الأخبار التلفزيونية على الإنترنت تقريراً عن الاجتماع مع عراقجي، مما أثار سخطه. ومعروفٌ عن عراقجي أنّه الأقرب إلى خامنئي من بين المفاوضين وقد كلّفه المرشد الأعلى بإحاطته بتفاصيل المحادثات ونقل نصيحته إلى الفريق العامل معه، وذلك في عهد كلّ من سعيد جليلي ومحمد جواد ظريف.
وفي هذا الاجتماع، ذكرت بعض التقارير أنّ عراقجي ادّعى أن إيران مُهدَّدةٌ عسكرياً حتى بعد تولي الرئيس الأمريكي باراك أوباما منصبه بقوله: "قد يجهل الناس التفاصيل، لكنّ أصدقاءنا في الجيش و «الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني يعلمون بها... كنّا قلقين كل ليلة من أنّهم قد يركّبون المعدات اللازمة لشنّ هجوم يطال جميع أنحاء إيران في صباح اليوم التالي... وفي اجتماعاتٍ مع أصدقائنا العسكريين، بيّنوا لنا القواعد العسكرية على الخريطة وشرحوا لنا أيّ طائرات كانت على أهبة الاستعداد وفي أيّ قواعد، ومهاجمة إيران لم تتطلب سوى الإرادة السياسية للسيد أوباما". ثمّ كشف عن أنّ "هذه المفاوضات بدأت في عهد حكومة [أحمدي نجاد] السابقة؛ وعندما كان السيد كيري عضواً في مجلس الشيوخ، كان يبعث لنا برسائل عن طريق عُمان. وفي ذلك الوقت [حوالي عام 2011]، أمر قائد الثورة [خامنئي] بإطلاق المفاوضات... وإذا استمعتم إلى خطابه في عيد نوروز عام 2013 في مدينة مشهد، [فستجدون] أنّه أعلن أنّه لا يعارض المفاوضات مع الولايات المتحدة. وقد جاء [هذا الخطاب] قبل ثلاثة أو أربعة أشهر من انتخاب روحاني". وزعم عراقجي أيضاً أنّ المفاوضات كانت تجري في السرّ إلى أن علمت بأمرها بعض العناصر داخل النظام وبدأت تضغط على المفاوضين، وأضاف: "ثم قرّر [آية الله خامنئي] التوجّه إلى الجمهور، لذا فنحن نظلمه إذا ما اعتقدنا أنّه لم يكن على علمٍ بـ [تفاصيل] المفاوضات أو أنّه لم يطّلع على الاتفاق".
وفي الاجتماع نفسه أصرّ عراقجي مراراً وتكراراً على أنّ خامنئي كان على علمٍ كامل بالتفاصيل قائلاً: "كان هناك أمر واضح أصدره المرشد الأعلى، وهو أنّ 1000 جهاز طرد مركزي ينبغي أن تبقى قيد التشغيل في فوردو... ووافقت [«مجموعة الخمسة زائد واحد»] على إبقاء 1014 جهاز طرد مركزي، تكون كلّها جاهزةً لحقن الغاز مع المنشأة بأكملها في فوردو". وكرّر أيضاً موقف إيران الرسمي من أنّ المفاوضات استبعدت جميع القضايا غير النووية. ومع ذلك، فقد أكّد في الوقت نفسه على موقف «حزب الله» في السياسة الإقليمية للجمهورية الإسلامية بقوله: "أعلن جون كيري مراراً وتكراراً أنّه 'فيما يتعلّق بالعقوبات على الأسلحة، أصبحتم ضحية إنجازاتكم في المنطقة، وهذه الإنجازات التي تحققت في اليمن وبيروت وبغداد ودمشق جعلت المنطقةَ حساسةً للغاية تجاهكم، إلى درجة أنّنا، لو حاولنا أن نرفع العقوبات على الأسلحة، فلن نتمكّن من إقناع إسرائيل أو المملكة العربية السعودية'... وأخبرْنا [كيري ومفاوضي «مجموعة الخمسة زائد واحد»] أنّنا لا يمكن أن نتوقف عن تزويد «حزب الله» بالأسلحة، ولن نجعل منه ضحية لبرنامجنا النووي. ولذلك، سنستمرّ بفعل الأمور نفسها. إذا أردتم أن تجعلوا من العقوبات على الأسلحة جزءاً من الاتفاق، فليكن. تفاوضنا لفترة طويلة حول هذا الموضوع... أخيراً، قالوا بأنفسهم 'سنفصل الاتفاق النووي عن قرار [مجلس الأمن الدولي] ونشمل العقوبات على الأسلحة في القرار، وليس في الاتفاق. لذلك، إذا انتهكتم [بنوده]، فإنّكم بالتالي لا تنتهكون الاتفاق' ".
وبعد بضعة أيام، أجرت الصحيفة الرسمية التابعة للحكومة مقابلةً مع رئيس "منظمة الطاقة الذرية الإيرانية" علي أكبر صالحي، الذي شغل مناصب في عهد حكومتي أحمدي نجاد وروحاني، بما في ذلك عضواً في فريق التفاوض الحالي وممثّل إيران السابق لدى «الوكالة الدولية للطاقة الذرية». وفي المقابلة، دافع صالحي عن سجلّ جليلي في المفاوضات، موضحاً سبب بقاء المحادثات عقيمةً في عهد جليلي.
وجاء عن صالحي قوله: "توصّلنا إلى استنتاج مفاده أنّ التفاوض في آنٍ واحد مع «مجموعة الخمسة زائد واحد» أمرٌ صعب لأنّ هذه «السداسية الدولية» لم تكن تتفاوض تحت قيادة بلد واحد. صحيحٌ أنّ السيدة كاترين آشتون كانت ممثّلة الاتحاد الأوروبي، ولكنّ ثلاثة بلدان متفاوضة - أمريكا والصين وروسيا - لا تنتمي إلى الاتحاد الأوروبي... ولم يُعرف من الذي يجب أن يترأس المفاوضات نيابةً عنهم... وفي الفجوات بين الاجتماعات، لم نخفق في التوصّل إلى نتيجة فحسب، بل كنّا نواجه أيضاً مطالب جديدة... لهذا السبب اعتقدتُ أنّه ينبغي علينا أن نجرّب عملية تفاوض جديدة. وفي عامي 2010 و2011، عندما كنت وزيراً للخارجية، توجّه السيد [حسن] قشقاي، نائب الوزير [المعني بالشؤون البرلمانية والقنصلية]، إلى عُمان لمتابعة قضية الإيرانيين المسجونين في الخارج، لأنّنا طلبنا مساعدة عُمان في تأمين الإفراج عن الإيرانيين المسجونين في بريطانيا والولايات المتحدة... وقد سلّمه مسؤول [عُماني] رسالةً أشار فيها مسؤول آخر إلى أنّ 'الأمريكيين مستعدون لإجراء مفاوضات نووية مع إيران ومهتمّون بإيجاد حلّ للتوتّر القائم بين طهران وواشنطن، وأنّ [المسؤولين العُمانيين] على استعداد للمساعدة في تسهيل العملية'. بدا لنا ذلك فرصةً جيدة. فقد سبق الانتخابات الرئاسية الأمريكية، لكنّ أوباما كان قد بدأ بالفعل بحملته للدخول إلى البيت الأبيض لولاية ثانية".
وأضاف صالحي قائلاً: "لم آخذ في البداية [هذه الرسالة] على محمل الجدّ لأننا لم نكن نعرفه". وفي وقت لاحق حمل شخص آخر الرسالة نفسها إلى صالحي، وعلى الرغم من أنّ الأخير أعرب عن شكوكه حول جدية الأمريكيين، إلا أنه أعطى المبعوث بدوره رسالة تحمل مطالب إيران الأساسية لكي ينقلها إلى المسؤول العُماني، وقال: "ذكرتُ أربع قضايا محدّدة، كانت إحداها الاعتراف بتخصيب اليورانيوم. اعتقدتُ أنّه إذا كان الأمريكيون صادقين في هذا العرض من أجل التفاوض، فعليهم أن يقبلوا بهذه المطالب الأربعة... وكانت جميع المطالب ذات صلة بالبرنامج النووي... وبعد تلقي الرسالة، أجاب الأمريكيون بقولهم ' نحن على أهبة الاستعداد بجدية تامة ويمكننا بسهولة أن نحلّ المشاكل التي ذكرَتْها إيران' ".
ورداً على سؤال المحاور حول هوية المسؤول الأمريكي على الجانب الآخر، أفاد صالحي قائلاً: "كان [المسؤول العُماني] صديقاً لـ [جون كيري]. ولم يكن السيد كيري وزير الخارجية الأمريكي في ذلك الحين، بل رئيس "لجنة العلاقات الخارجية" في مجلس الشيوخ". وبعد تبادل رسائل عديدة، طلب صالحي من العُمانيين إرسال رسالة إليه وجعل العرض رسمياً". نقلتُ الرسالة الرسمية [الموقعة من قبل سلطان عمان] إلى المسؤولين الحكوميين [الإيرانيين]، ثمّ التقيت بالمرشد الأعلى لإطلاعه على العملية... وأخيراً قال [خامنئي] 'هذا الإنذار هو الأمر الصحيح الذي ينبغي فعله ولا أعارضه، ولكن لديّ بعض الشروط: أولاً، يجب أن تتمحور المفاوضات حول المسألة النووية فقط؛ [إذ] لا تفاوض حول العلاقات الثنائية. ثانياً، يجب الحرص على عدم السماح للمفاوضات بأن تصبح 'مفاوضات لمجرّد الدخول في مفاوضات' كما حصل في المفاوضات مع «مجموعة الخمسة زائد واحد». حاول إذاً أن تصل إلى نتيجة في الاجتماع الأول أو الثاني بالذات' ".
وأضاف صالحي أنّ بعض أقطاب الحكومة آنذاك كانوا يعارضون المفاوضات مع الولايات المتحدة وأنّ "المرشد الأعلى كان الوحيد الذي أيّدنا". وبدأت الاجتماعات تنعقد وتابع صالحي موضحاً: "من جهتنا، أُرسل نائب وزير الخارجية للشؤون الأوروبية والأمريكية [علي اصغرخاجي]، مع بعض المدراء العامين [العاملين في الوزارة]، إلى سلطنة عُمان للتفاوض [مع الأمريكيين]. وفي الاجتماع الأول، فوجئ الأمريكيون إلى حدّ كبير بحيث قالوا 'لا نصدّق أنّ هذا قد حدث فعلاً. اعتقدنا أنّ العُمانيين ربما كانوا يمزحون. لسنا على استعداد للتفاوض معكم على الإطلاق'... وكان المرشد الأعلى يصرّ على ضرورة الحصول على اعتراف بحقّنا في تخصيب اليورانيوم منذ الاجتماع الأول".
ووفقاً لصالحي، أوقف الأمريكيون المفاوضات بسبب الانتخابات الأمريكية، "ولكن خلال ذلك الوقت، كنا نتبادل مختلف المعلومات مع الأمريكيين عن طريق وسيط، وإنّ وثائق ذلك التبادل موجودة في أرشيف وزارة الخارجية. لم نكن نتبادل الرسائل الرسمية بل أن تبادل جميع المعلومات كان يتم من دون أوراق...وصلتنا رسالة من حاكم عُمان تفيد أن الأمريكيين ملتزمون بالاعتراف بحق إيران في تخصيب اليورانيوم."
واستؤنفت المفاوضات بعد الانتخابات الأمريكية ثمّ توقفت مرة أخرى مع اقتراب الانتخابات الإيرانية عام 2013. وشرح صالحي ما جرى بعد انتخاب روحاني بقوله: "كتبتُ رسالة إلى السيد روحاني ثمّ التقيت به وأخبرته أنّنا ' أجرينا هذه المفاوضات وعلّقناها حالياً بسبب الانتخابات، والآن حان دورك بالمضي قدماً في هذا المسار '. وعندما أصبح السيد روحاني على بينة من تفاصيل المفاوضات، لم يكن يصدّق ذلك. قلت له بعد حفل التنصيب ' سرّع هذه المسألة. يجب ألّا تتخلّى، لا سمح الله، عن هذه الفرصة حتى لا تصبح الفجوة بين انعقاد اجتماعين أكثر من ثمانية أشهر '... ثمّ أصبحت عملية المفاوضات تسير بسرعة أكبر وبدأت مرحلة جديدة في البحث عن حلّ للمشكلة النووية". وفي هذه المقابلة، أصرّ صالحي أيضاً على أنّ "بعض الأشخاص يظنّون أنّ فريق التفاوض يتّخذ القرارات بنفسه. هذا ليس صحيحاً... فالمرشد الأعلى على علم تام بالخطوط العريضة والتفاصيل، [بينما] يناقش السيد روحاني التفاصيل. وبهذه الطريقة، يصبح إطار السلطة التي يتمتّع بها فريق التفاوض واضحاً".
خامنئي بكلماته الخاصة
الأهم من ذلك كلّه أنّ خامنئي نفسه كشف علناً كيف بدأت المحادثات مع الأمريكيين في خطاب رئيسي أمام موظفي الحكومة في 23 حزيران/يونيو، ألقاه بالذات أثناء إنطلاق الجولة الأخيرة من المحادثات النووية في فيينا. وقال فيه: "أودّ أن أستعرض تاريخاً قصيراً عن هذه المفاوضات... في الواقع إنّ مفاوضاتنا مع الأمريكيين مختلفة عن المفاوضات مع «مجموعة الخمسة زائد واحد». فقد كان الأمريكيون أنفسهم هم الذين طلبوا إجراء هذه المفاوضات، ويعود تاريخ مقترحاتهم إلى عهد إدارة [أحمدي نجاد]".
وتابع المرشد الأعلى قائلاً: "إذاً، بدأت المفاوضات مع الأمريكيين قبل استلام الإدارة الحالية زمام الأمور. لقد قدّموا طلباً واختاروا وسيطاً. ثمّ جاءت إحدى الشخصيات المُحتَرمة في المنطقة [سلطان عمان قابوس بن سعيد] إلى إيران والتقت بي. وأخبرني [السلطان] أنّ الرئيس الأمريكي كان قد اتصل به وطلب مساعدته. وقال له الرئيس الأمريكي إنّهم يودّون حلّ المسألة النووية مع إيران وإنّهم سيرفعون العقوبات... وعن طريق هذا الوسيط، طلب منا [الرئيس أوباما] التفاوض معهم وحل المسألة. فأجبت الوسيط المُحتَرم أنّنا لا نثق بالأمريكيين وببياناتهم، فقال ' حاول مرة أخرى '، فأجبناه، ' حسناً جداً، سوف نحاول هذه المرة أيضاً '. وهكذا بدأت المفاوضات مع الأمريكيين".
المحصلة
خلافاً لتصريح عراقجي، الذي جاء في اجتماع سري، كان تصريح صالحي في مقابلة مخطَّطٍ لها مع الصحيفة الرسمية التابعة لحكومة روحاني. ولم يكن روحاني قد صادق عليه ضمنياً فحسب، بل أنّ مكتب المرشد الأعلى لم يبدِ أيضاً أيّ ردّ فعل عليه عبر إنكار أيّ من مزاعم صالحي. ويكشف تصريحا عراقجي وصالحي على السواء حقائق جديدة عن المفاوضات ويحوّلا التصوّر السائد حول المفاوضين الإيرانيين. ولم تكن وسائل الأعلام وحدها من جعلت من هذا التصوّر السردية المقبولة الوحيدة، فقد أدّى الرئيسان الإيراني والأمريكي دوراً كذلك عبر الإيحاء بفكرة أنّ انتخاب روحاني كان بمثابة العامل الذي شكّل فرصةً للتفاوض مع إيران، وأنّه إذا فشلت المفاوضات معه، سيهزمه المتشددون في الانتخابات المقبلة ويغلقون أبواب التفاوض. وتُضعف السردية الجديدة التي طرحها صالحي وعراقجي التقارير عن الشخصية الاستثنائية والعقلية "المعتدلة" اللتين يتّسم بهما روحاني أو ظريف في وسائل الإعلام الغربية.
تجدر الإشارة إلى أنّه لا صالحي ولا عراقجي يقدّمان تفسيراً واضحاً عن السبب الذي دفع بخامنئي بأن يأمر بإجراء تغيير في السياسة. وتؤرّخ سرديّتهما التغييرات الأساسية في المرحلة التي سبقت تشديد العقوبات الأمريكية وتلك التي فرضها الاتحاد الأوروبي في أواخر عام 2011. ولكن، من يقرأ تصريحاتهما قد يحصل على انطباع بأن الجمع بين العقوبات الاقتصادية الصارمة والتهديد العسكري الذي استخدمه أوباما أثّر في قرار خامنئي.
وليست سرديّتهما إلّا دليلاً إضافياً على أنّ تغيير الرئيس قد يؤشر على تغيير في السياسة، لكنّه ليس بالضرورة السبب الذي تغيّرت بفعله السياسة، فالسلطة الفعلية لا تزال في قبضة خامنئي. وتطمّس السردية الجديدة الخط الواضح السابق الذي رسمه كثيرون ليظهروا الشرخ بين حكومتي أحمدي نجاد وروحاني. أمّا الدليل الآخر على الاستمرارية بين هاتين الحكومتين، فهو حقيقة أنّ صالحي وعراقجي شاركا في المفاوضات في عهد الرئيسين. وعلاوةً على ذلك، لم يكن ظريف المهندس الحقيقي للمفاوضات بين إيران والولايات المتحدة في السردية الجديدة، بل صالحي، وهذا ما يتعارض أيضاً مع الوصف الكامل لظريف كلاعب رئيسي في تخطيط المفاوضات وإجرائها.
بيد، لا يزال الخطر الأساسي قائماً، فصانع القرار النهائي في إيران ليس هو الشخص نفسه الذي يتولّى المسؤولية بما يتناسب وسلطته وقدرته على التدخل. وعلى الرغم من التصريحات الرسمية المتكررة التي أدلى بها المفاوضون، ينفي خامنئي علمه بتفاصيل المحادثات أو تدخلّه فيها. ولن تكون هذه القضية الأخيرة التي ينكر فيها أيّ مسؤولية تقع على عاتقه. ومن شأن عدم إبداء المرشد الأعلى موافقته الرسمية على الاتفاق النووي أن يهدّد استدامة هذا الاتفاق على المدى الطويل.
مهدي خلجي هو زميل "ليبيتزكي فاميلي" في معهد واشنطن.