- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 2806
صعود الجهاد في أوروبا: وجهات نظر من فرنسا
"في 15 أيار/ مايو، خاطب جيل كيبيل، تمارا كوفمان ويتس، وماثيو ليفيت منتدى سياسي في معهد واشنطن. وكيبيل هو أستاذ في "معهد بو للدراسات السياسية" في باريس ومؤلف أكثر الكتب الفرنسية رواجاً ومبيعاً بعنوان: "الإرهاب في فرنسا: أصل الجهاد الفرنسي". وويتس هي زميلة أقدم في "مركز سياسة الشرق الأوسط" في مؤسسة بروكينغز. وليفيت هو زميل "فرومر-ويكسلر" في المعهد، ومدير برنامج "ستاين" للاستخبارات ومكافحة الإرهاب، ومحرر المذكرة السياسية لمجموعة الدراسة من الحزبين الجمهوري والديمقراطي، التي صدرت مؤخراً بعنوان "هزيمة التطرف العنيف المستلهم من العقيدة: استراتيجية لبناء مجتمعات قوية وحماية الوطن الأمريكي". وفيما يلي موجز المقررة لملاحظاتهم".
جيل كيبيل
دخلت فرنسا حقبة جديدة مع تنصيب الرئيس الجديد إيمانويل ماكرون. وكانت منافسته مارين لوبان قد هاجمته مراراً وتكراراً واصفةً إياه بأنه متهاون مع الإرهاب، وهي اتهامات ردّ عليها ماكرون قائلاً إن هدف الجهاديين هو تقديم الفوز إلى اليمين المتطرف. وبالفعل، أشار المفكر الإيديولوجي الجهادي أبو مصعب السوري في كتابه الصادر عام 2005 تحت عنوان "دعوة المقاومة الإسلامية العالمية" إلى أن شنّ هجمات في الأراضي الأوروبية التي تعتبر "نقطة ضعف الغرب" قد يعزّز سياسات اليمين المتطرف هناك، كما يسمح للجهاديين بإقناع المسلمين الأوروبيين بأنه لا سبيل للتعايش في قارة عنصرية مصابة بكراهية ورهاب الأجانب.
ولكي تصبح هذه النقاشات محط الأنظار، من المهم إظهار التناقض بين المراحل الثلاث من الجهاد المعاصر. فبين عامي 1979 و 1997، حدّد الجهاد الذي شهدته كل من أفغانستان والجزائر ومصر مرحلة "الإثبات" الافتتاحية لهذه الحركة. وبدا أن الجهود الممولة من قبل الدول السنية والمدعومة من "وكالة الاستخبارات الأمريكية" ضد السوفيت في أفغانستان ضربت عصفورين بحجر واحد هما الروس والشيعة. وفي ذلك الوقت، شعرت الدول الخليجية السنية بأنها مهددة من آية الله الخميني الإيراني ورأت في الجهاد السني ثقلاً موازناً لوصفه المتطرفين الشيعة على أنهم أبطال المسلمين المضطهدين.
وبعد انسحاب القوات السوفيتية من كابول عام 1989، سعى المقاتلون الجهاديون إلى إعادة تشكيل الجهاد الأفغاني في بلادهم. لكن من دون الأموال السعودية في الجزائر ومصر، لم يتمكنوا من استقطاب عدد كبير من الأتباع. وبحلول عام 1997، كان زعيما تنظيم «القاعدة» أسامة بن لادن وأيمن الظواهري قد نجحا في الاستفادة من العبر المستخلصة من الإخفاقات في مرحلة ما بعد أفغانستان. وأعاد الظواهري تركيز جهوده على مكافحة "العدو البعيد"، أي الولايات المتحدة، استناداً إلى مفهوم أن توجيه ضربة لأمريكا سيُظهرها بمظهر العملاق الضعيف. وفي رأيه، قد يبدد هذا الأمر المخاوف التي كانت تمنع الجماهير من التحرك والتعبئة تحت راية الجهاد.
أما المرحلة الثانية، وهي "الرفض"، فقد بدأت مع تفجير السفارات الأمريكية في أفريقيا وبلغت ذروتها مع اعتداءات 11 أيلول/سبتمبر. ولكن في حين نجح تنظيم «القاعدة» في تنفيذ هجمات معقدة وعابرة للحدود الوطنية، إلّا أنّه لم يتمكن من التغلغل في أوساط الشعوب المسلمة. كما أن هدف التنظيم المتمثل في إشراك الغرب في حرب استنزاف في أفغانستان والعراق لم يؤتِ ثماره. ففي العراق ذي الأغلبية الشيعية، تُرك الجهاديون السنّة محاصرين في معاقلهم الطائفية.
ومن هنا نصل إلى المرحلة الثالثة، وهي "التجاوز"، حين انتقل التركيز من أمريكا إلى أوروبا. إن قتل المسلمين على أيدي جهاديين قد جعل من الصعب جذب الأتباع، وكانت الأراضي الأمريكية بعيدة للغاية بحيث يصعب إشعال فتيل تحرك جماعي. أما أوروبا، بشعوبها المسلمة الكبيرة والمحافظة والمستاءة عموماً، فقد كانت هدف الحقبة الجديدة من الجهاد القائم على الشبكات. وقد أَسست هذه التغييرات الإستراتيجية، المترافقة مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، ثقافة يمكن فيها للهجمات الأصغر حجماً جذب الانتباه والمجندين من دون اللجوء إلى وسائل الإعلام التقليدية.
وأصبحت السجون الأوروبية بيئة خصبة على وجه الخصوص لزرع الفكر الجهادي. فخلال المرحلة الثانية، كانت وكالات الاستخبارات الفرنسية قد سجنت العديد من المتطرفين البارزين، ولكن أولئك اللاعبين وجدوا فرصة جديدة للإرشاد المسهب في نظام السجون المكتظة، مما أدى إلى وقوع حوادث مرتبطة بالجهاد "من القاع إلى القمة" على غرار إطلاق النار الكثيف الذي نفذه محمد مراح في تولوز عام 2012. وبدا أن مراح، الفرنسي من أصل جزائري، يعيد إشعال فتيل حرب مكافحة الاستعمار ضد فرنسا؛ وقد تزامن اعتداؤه الأخير مع الذكرى السنوية الخمسين على انتهاء الثورة الجزائرية. وأصبح هذا النوع من ردود الفعل الساخطة الرجعية للاستعمار الوقود لإطلاق الجهاد المعاصر في أوروبا، في وقت وفرت فيه ساحات المعارك المشتعلة في الشرق الأوسط المحفزات البشرية للانضمام إلى المعركة في الخارج.
ومنذ كانون الثاني/يناير 2015، أودى الإرهاب الجهادي بحياة 239 شخصاً في فرنسا. لكن موجة العنف تباطأت في أيلول/سبتمبر 2016، ومنذ ذلك الحين تمّ إحباط كافة المخططات تقريباً. ونظراً إلى الضغوط التي مورست على تنظيم «الدولة الإسلامية» خلال الأشهر القليلة الماضية، لم يكن أمام التنظيم الوقت الكافي أو الموارد للتخطيط لهجمات في الخارج، كما أن إغلاق الحدود التركية مؤخراً قد ساهم في تقييد تنقلات المسلحين. وقد أصبح الجيل الثالث من الجهاد تحت ضغط شديد، ولم يبرز أبو مصعب سوري ثانٍ ليطلق العنان للجيل الرابع.
تمارا كوفمان ويتس
يوفر كتاب "جيل" الجديد صورة مفصلة عن التهديد الإرهابي المتصاعد في فرنسا، واصفاً الأثر المتبادل بين القوى الداخلية والخارجية. فعلى الصعيد الداخلي، تركت التغييرات المرتبطة بالمجتمع والجيل القائم أثراً كبيراً تماماً كالنجاحات والإخفاقات الناتجة عن المحاولات المختلفة الرامية إلى استيعاب المهاجرين ودمجهم في المجتمع الفرنسي. وعلى الصعيد الخارجي، رسم تطور الجماعات المتطرفة فضلاً عن انهيار قوات الدول الإقليمية واندلاع الحروب معالم الخطر المحدق. والنتيجة هي ما يصفه "جيل" كخطابين منفصلين في فرنسا - "الساحة الفاشية" و"الساحة الجهادية" - يتغذيان من بعضهما البعض بطرق مدمرة للغاية. وتعتبر الإصلاحات الاقتصادية والسياسية مهمة جداً لتخطي البرامج الإقصائية التي تروّج لها شخصيات مثل لوبان والسلفيين الأوروبيين. ولا يمكن مساواة مؤيدي لوبان بأفراد عرضةً لأن يصبحوا مجندين جهاديين، لكنهم يشكلون إحدى القوتين النافذتين اللتين تشكلان اليوم المعارضة في فرنسا.
وعلى نطاق أوسع، اجتاح أوروبا نقاش حول الدمج والعولمة. فالقوى الاجتماعية التي أنتجتها هذه العمليات (بما فيها الأمثلة البارزة على إخفاقاتها) قد حفزت الجماعات التي تعتمد النهج الصفري [الحالة المتعادلة] في السياسة وتتحدى بشكل كبير الديمقراطية الليبرالية. وقد حركت هذه الديناميكيات دفة العديد من الانتخابات في الأشهر القليلة الماضية. ويُعتبر فوز ماكرون أحدث انتصار على هذه الإقصائية؛ فهو مصمم على التمسك بالانفتاح. ويمنح نجاحه الأوروبيين فرصة لتنحية مقاربة "تأييد أو رفض" الدمج وعوضاً عن ذلك مناقشة الإصلاحات العملية لإنهاء ما أصبح سياقاً اجتماعياً يعمّق الانقسام بشكل خطير.
ماتيو ليفيت
في كتابه، يقود "جيل" القارئ عبر الأحداث التي وفرت البيئة اللازمة للمرحلة الثالثة، من خلال تحليل القوى التي كانت غير مرئية وقت ظهورها. ويعتبر رابط التهديد اليوم أكبر بكثير من الجهاد الأفغاني بطرق عديدة؛ فقد انضم 100 مجند فرنسي إلى تلك المعركة، وسافر نحو 2000 شخص للقتال في سوريا والعراق، ناهيك عن الكثير غيرهم الذين مكّنهم تنظيم «الدولة الإسلامية» أو ألهمهم أو وجههم وهم في ديارهم، الأمر الذي مارس ضغوطاً هائلة على السلطات الفرنسية وحول العالم.
ولتوهها، بدأت قوات إنفاذ القانون بملاحظة الروابط بين القضايا الراهنة والشبكات التي كانت قائمة في السابق. على سبيل المثال، يوثّق "جيل" اليوم قصة "حديقة بوت شومون" في باريس، حيث كان الجهاديون يلتقون في منتصف العقد الماضي من أجل تعزيز الفكر التطرفي وتجنيد وتسهيل سفر رفاقهم للقتال في العراق. ورغم إغلاق هذه الشبكة في عام 2005، عادت وانبثقت بعد عقد من الزمان من خلال سلسلة من الهجمات انطلقت في كانون الثاني/يناير 2015 بحادثة إطلاق النار على صحيفة "شارلي إبدو". وأظهرت التقارير الأولية ارتباكاً حيث أفادت عن تعاون ظاهر في خطوط العدو بين الأخوين كواشي (مؤيدا تنظيم «القاعدة» وراء حادث "إبدو") وأميدي كوليبالي (المقاتل الذي أعلن أنه ينتمي إلى تنظيم «الدولة الإسلامية» والذي هاجم في وقت لاحق متجر للكوشر - أكل الحلال اليهودي). وكانت علاقتهم ودعمهم المتبادل قد وُلدت من "حديقة بوت شومون" حيث كانوا قد التقوا قبل عشر سنوات؛ واستمرت هذه الروابط على الرغم من ولائهم المعلن لجماعات متنافسة.
وانتشرت الشبكات الجهادية في السجون حتى على نطاق أوسع. فالأحكام التي تصدر في أوروبا في قضايا الإرهاب عادةً ما تنحصر على بضع سنوات فقط، ونادراً ما كانت ترتبط سابقاً ببرامج إعادة التأهيل في السجون أو مساعي إعادة الإدماج في المجتمع بعد الإفراج. وقبل عقد من الزمن، كانت مكافحة الإرهاب محظورة في السياسة الفرنسية. وفي عام 2008، قاد خبراء من "معهد واشنطن" رحلة إلى أوروبا استعداداً لتقرير للحزبين الديمقراطي والجمهوري الأمريكيين حول مكافحة التطرف العنيف خلال عام الانتخابات. وهناك، رتبوا اجتماع إحاطة مع مسؤولين من مختلف [وكالات] الحكومة الفرنسية - رغم أن هذه الأطراف المعنية الفرنسية لم تجتمع يوماً مع بعضها البعض من قبل، لذلك أصبح اجتماع الإحاطة وعن غير قصد أوّل اجتماع مشترك بين الوكالات في البلاد حول مكافحة التطرف. وفي إحدى رحلات العودة عام 2012، كان من الواضح أنه لم يتحقق سوى القليل في أربع سنوات. غير أن الهجمات المتصاعدة دفعت الأوروبيين حالياً إلى تجاوز الولايات المتحدة في خطوات مكافحة التطرف، في حين تنهمك الوكالات الأمريكية في مخاوفها حيال كيفية التخفيف من المخاطر وتحقيق الإنجازات في هذا المجال المثير للجدل.
وخلال الفترة المقبلة، من المهم أن تستوعب واشنطن الدروس التي اكتسبتها أوروبا بعناء كبير وتجري إصلاحات في الداخل. على سبيل المثال، كانت إدارة أوباما مترددة إلى حدّ كبير في استخدام عبارة "إسلامي"، لذلك يجب على الإدارة الحالية أن تميّز بين "إسلامي" و"مسلم" - حيث أن الأولى تشير إلى إيديولوجية سياسية متطرفة، وليس إلى ديانة أو مؤسساتها. فضلاً عن ذلك، لا بدّ من تعزيز المبادرات الرامية إلى مكافحة التطرف العنيف. ويمكن اللجوء إلى بعض الأدوات المستخدمة في مكافحة التطرف الإسلامي في مجال الإيديولوجيات العنيفة، غير أن أدوات أخرى ليست مرنة بما يكفي. كما يجب على الولايات المتحدة وحلفائها الحذر من عدم الوقوع في الفخ الذي نصبه الجهاديون الذين يسعون إلى تعزيز التطرف والانقسامات الاجتماعية في الغرب. ومع ذلك، على الرغم من أنه يجب على الحكومات ألا تبالغ في ردود فعلها إزاء التطرف الإسلامي غير العنيف، إلا أنه لا يمكن ترك تلك الأفكار دون جدل.
أعدت هذا الملخص ماكسين ريتش.