غالباً ما أشارك في ما يُعرَف بـ"دبلوماسية المسار الثاني" - وهي محادثات لتبادل الأفكار مع أكاديميين ومسؤولين سابقين ينظرون في خيارات تجاوز العوائق الدولية الرئيسية أو إنهاء النزاعات. وفي إحدى هذه المحادثات التي اختُتمت للتو، حيّاني شخصان من الشرق الأوسط أعرفهما منذ فترة طويلة قائليْن: "حسناً، لم تُجدِ كلمة أمريكا مرة أخرى. كيف بإمكانكم التخلّي عن الأكراد؟"
كان زملائي من الشرق الأوسط يلفتون الانتباه إلى ما جرى مؤخّراً في شمال العراق. ففي تدخّلٍ واضح للإيرانيين والميليشيات الشيعية، طرد الجيش العراقي هناك القوات الكردية من كركوك، بما في ذلك من حقول النفط، معيداً إياها إلى المواقع التي كانت تشغلها قبل سيطرة تنظيم «الدولة الإسلامية» على الموصل في عام 2014. فضلاً عن ذلك، انتُزعت نقاط العبور إلى سوريا من الأكراد.
لم يلق ردّي إلى الجماعة أذناً صاغية - وهو أن الزعيم الكردي مسعود بارزاني ارتكب خطأً استراتيجيّاً فادحاً عندما أجرى استفتاءً غير حكيم حول الاستقلال وكان مسؤولاً عمّا حدث. وفي نظر زملائي العرب، حتى لو حاولت إدارة ترامب إقناع بارزاني بعدم اتّخاذ هذه الخطوة وفشلت في ذلك، لم يكن باستطاعة الولايات المتحدة السماح بهزيمة الأكراد بهذه الطريقة، لا سيّما في ظل الدور المباشر الذي يضطلع به الإيرانيون في إعادة بناء مكانة الحكومة المركزية في كركوك.
فبالنسبة لهم، كان الأكراد شركاءً أمريكيين - شركاء كانت الولايات المتحدة تحميهم منذ عام 1991 مع إنشاء منطقة "حظر جوي" بعد وقتٍ قصير من انتهاء "حرب الخليج". إنهم شركاء سارعت واشنطن إلى دعمهم في القتال ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» عندما انهار الجيش العراقي ببساطة في عام 2014 وكانت قوات البشمركة الوحيدة المستعدّة لمقاومة التنظيم.
والآن وقفت الولايات المتحدة كمتفرّجة. وأشار رفاقي إلى الوضع المعاكس للروس الذين وقفوا إلى جانب نظام الأسد وأمّنوا حمايته. وكما قيل لي، ليس من المفاجئ أن يزور الملك السعودي مؤخراً موسكو للمرة الأولى في تاريخ السعودية. فلا شك في أنه ذهب "لتأمين نفسه من الجهتين آخذاً في الحسبان الدور الروسي الجديد في المنطقة".
لقد أصبح الجميع في المنطقة يعلمون الآن أنه إذا بات أمنهم مهدّداً، ستشكّل موسكو الملجأ المناسب للبحث عن العون. حتى أن الإسرائيليين يفهمون ذلك. فقد قيل لي: "أنظر كم مرّة توجه نتنياهو إلى موسكو".
وخلال يومين من النقاش، سمعت مراراً أحاديث تدور حور الهوّة بين أقوال أمريكا وأفعالها في المنطقة. حتّى أنّ أحد المشاركين قال: "على الأقل أعلمَنا أوباما أنّه لن يُقدِم على فعل أي شيء".
ليس على واشنطن أن تقبل بهذه الحجج. لكن لا يمكنها أن تتجاهل هذه النظرة المتنامية في المنطقة أو تصرف النظر عنها.
لا شكّ أن كلمات ترامب قاسية، فقد هدّد بالانسحاب من الاتفاق النووي وأعلن أن الولايات المتحدة ستواجه أنشطة إيران المزعزعة للاستقرار في المنطقة. كما كرّر مدير "وكالة المخابرات المركزية" مايك بومبيو أقوال رئيسه، قائلاً "التهديدات القادمة من إيران... والميليشيات الشيعية، بما فيها ما نراه في شمال العراق... علينا أن نجابه «قوة القدس» و «فيلق الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني بشكلٍ أوسع، بالإضافة إلى النظام الإيراني نفسه".
غير أن أعمال الولايات المتحدة تناقض موقفها هذا. فقد قال مستشار الأمن القومي الأمريكي هربرت رايموند مكماستر مؤخراً إن 80% من القوات التي تحارب إلى جانب الرئيس السوري بشار الأسد ترعاها إيران. إلّا أن وزير الدفاع جيمس ماتيس قال إن الولايات المتحدة تملك "استراتيجية ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» في سوريا، ولكن ليس استراتيجية ضد إيران"، معترفاً بالتهديد الذي تشكّله إيران والدور الذي تؤدّيه في سوريا.
وفي الواقع، في الوقت الذي يخلق فيه الإيرانيون وقائع ملموسة على الأرض في العراق وسوريا، تبقى الولايات المتحدة متشبّثة بهزيمة تنظيم «الدولة الإسلامية». فالإيرانيون يستعدون لليوم التالي - أما الولايات المتحدة فهي ليست كذلك.
إن الدرس المستخلص هو الآتي: لا بدّ من أن تكون العدائيّة الخطابية ضد إيران مسترشدة بسياسة ذكية. فإذا أرادت الولايات المتحدة أن ينضم إليها الأوروبيون في معالجة نقاط الضعف في الاتفاق النووي الإيراني، يجب أن يروا خطّةً دبلوماسيّةً واضحةً - خطّة لا تشكل تهديداً فحسب، بل تعترف بالأمور التي تخصهم حول عدم إعادة التفاوض بشأن الاتفاق.
كذلك، إذا أرادت واشنطن أن يعمل السعوديون والإماراتيون وغيرهم معها في المنطقة وأن يساعدوا في تحمّل عبء سدّ الفراغ بعد هزيمة تنظيم «الدولة الإسلامية»، يجب أن يروا أنها تتّخذ خطواتٍ تهدف على الأقل إلى احتواء الإيرانيين في سوريا والمنطقة. وإذا كان الروس قادرين على تحويل ميزان القوى في سوريا بواسطة مجرّد جزءٍ من القوة الجوية التي تمتلكها الولايات المتحدة في المنطقة، فالسؤال الذي يطرح نفسه هو: ألا تستطيع واشنطن أن تقول إنها لن تقبل بانتشار المزيد من الوجود الإيراني والميليشيات الشيعية هناك؟
لقد كان وقوف الولايات المتحدة مكتوفة الأيدي إزاء إرغام الأكراد على التراجع بمثابة رسالة أشد وطأةً بكثير من أقوال الإدارة الأمريكية حول إيران. وبعد يومين كانت تتواتر فيهما على مسمعي عبارات الشرق أوسطيين وهُم يتأسفون على الهوّة التي تفصل الخطاب المتعلّق بسياسات إدارة ترامب وحقيقة هذه السياسات، غادرتُ وينتابني شعورٌ بأنه قد حان الوقت إمّا أن تخفض الإدارة مما تدّعي أنّها ستقوم به، وإمّا أن تبدأ بجعل أقوالها مقترنة بالأفعال.
دينيس روس هو مستشار وزميل "ويليام ديفيدسون" المتميز في معهد واشنطن.
"نيويورك ديلي نيوز"