- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 2849
ترامب يحيل مسألة سياسة ليبيا إلى أوروبا
في الوقت الذي يسعى فيه الممثل الخاص الخامس للأمين العام للأمم المتحدة لدى ليبيا غسان سلامة إلى دفع عملية السلام في ليبيا قدماً، فإن العديد من الديناميات الدولية الجديدة ستؤثر على جهوده. ففي أواخر تموز/يوليو، على سبيل المثال، استضاف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكْرون، الذي يطمح بالاضطلاع بدور دبلوماسي رائد في مسألة ليبيا، قمةً جمعت رئيس الوزراء الليبي فايز السراج واللواء خليفة حفتر. وفي إيطاليا، ووسط موسم الانتخابات، تستحوذ الآن أزمة المهاجرين من ليبيا على كافة المسائل المرتبطة بالسياسة الخارجية والمحلية. وفي غضون ذلك، أثار الخلاف مع قطر في الخليج قلق عدد كبير من أبرز داعمي الفصائل الليبية المتناحرة. ويهدد تنظيم «الدولة الإسلامية في ليبيا» بالتجمع من جديد، خاصة وأن المقاتلين المغاربة يعودون إلى بلادهم من سوريا والعراق.
وإذا استمر الوضع على ما هو عليه، لن يتمكن سلامة من التعويل على دعم واشنطن الفعال، على الرغم من أن الدبلوماسيين الأمريكيين لا يزالون منخرطين مع الجهات الفاعلة الليبية الرئيسية. وبالفعل، لم يعالج البيت الأبيض ولا وزارة الخارجية الأمريكية قضية ليبيا بطريقة هادفة. وقد لا تكون تنحية الولايات المتحدة لليبيا من سلّم أولوياتها بالمفاجئة نظراً للتحديات الأمنية الداخلية والوطنية الكثيرة التي تواجهها إدارة ترامب - ولكن إذا احتاج سلامة إلى الدعم في عملية الوساطة للتوصل إلى إبرام اتفاق دائم بين الفصائل الليبية، فلن يأتي ذلك بدون ثمن. وعلى أقل تقدير، بإمكان الولايات المتحدة أن تساعد في الحد من دور المفسدين، بما في ذلك دول وجماعات إرهابية. بالإضافة إلى ذلك، فإن معظم الليبيين يعتبرون الجهات الفاعلة الأوروبية والعربية الأساسية بمثابة محكّمين غير جديرين بالثقة. ويشكّل دعم سلامة والانخراط مباشرة على مستوى رفيع في ليبيا خلال الدورة القادمة للجمعية العامة للأمم المتحدة، المقرر عقدها في منتصف أيلولِ/سبتمبر، أفضل وسيلة لإدارة ترامب للمساهمة في إرساء الاستقرار في ليبيا الذي تشتد الحاجة إليه اليوم في تلك البلاد.
ماكْرون يغتنم الفرصة
انعقدت القمة التي استضافها الرئيس الفرنسي، وجمعت رئيس الوزراء السراج واللواء حفتر الذي يقود "الجيش الوطني الليبي"، خارج باريس في 25 تموز/يوليو. وكان ماكْرون قد استعرض الاجتماع بعد استضافته للرئيس الأمريكى دونالد ترامب قبل ذلك باسبوعين، واعداً "بعدد من المبادرات الدبلوماسية التي لها آثار كبيرة". ومع ذلك، باغتت خطة ماكْرون، وشَكْل الاجتماعات، والثناء الذي أغدقه على حفتر الذي رحب به ماكْرون بقبلات - كما نُشر على موقع الرئيس الفرنسي على نظام تويتر - الكثيرين من أعضاء المجتمع الدولي. وهذه هي المرة الأولى التى يتم فيها الترحيب بحفتر فى عاصمة غربية ومعاملته على قدم المساواة مع "حكومة الوفاق الوطني" المعترف بها دولياً والتي يرفض الانضمام اليها. وكان حفتر وسراج قد اجتمعا سابقاً في أبو ظبي في أيار/مايو، حيث نفى كل طرف سريعاً ما تم الاتفاق عليه. وبالمثل، فشل المصريون في التوسط في اتفاق بين الاثنين في شباط/فبراير. ويبقى المصريون مؤيدين قويّين لحفتر، ولم يبدوا حتى الآن التزاماً بحل سياسي شامل لقضية ليبيا.
وسيضطلع وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان، الذي شغل منصب وزير الدفاع في الحكومة الفرنسية الأخيرة، بدور أساسي في سياسة ليبيا. فخلال فترة ولايته في وزارة الدفاع، فقدت فرنسا ثلاثة جنود من "القوات الخاصة" في شرق ليبيا تردّد أنهم كانوا يعملون مع حفتر. وصرّح لودريان، الذي هو صقر في وجهات نظره السياسية فيما يتعلق بالجهود العسكرية الفرنسية فى شمال أفريقيا ومنطقة الساحل، لصحيفة "لا ماتينال دو موند" قبل شهر من انعقاد قمة باريس، قائلاً: "إن حفتر هو جزء من الحل، مثله مثل رئيس الوزراء السراج". وقد رفعت هذه العبارة من شأن اللواء حفتر من لعب "دور" في اتفاق سياسي إلى [زعيم] أصبح بأهمية رئيس "حكومة الوفاق الوطني" في تحقيق الاستقرار في ليبيا.
وفي أعقاب القمة، أصدر الفرنسيون بياناً يتألف من عشر نقاط كان قد اتفق عليها الطرفان. وكانت افتتاحيته مشجعة جاء فيها، "إن الحل السياسي هو الحل الوحيد حل للأزمة الليبية ويتطلب عملية مصالحة وطنية تضم جميع الليبيين". غير أن حفتر ما لبث أن تراجع عن اتفاق مهم لتنفيذ وقف إطلاق النار، موضحاً أن هذا الوقف لن يسري على المعركة الدائرة ضد «المتطرفين»"، وهو المصطلح الذي يستخدمه لتحديد معظم منافسيه المحتملين.
وحتى أن النقطة التاسعة من البيان المشترك قد تكون أكثر تعقيداً، إذ تتعلق بالالتزام بإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية "في اقرب وقت ممكن". ومن غير المحتمل أن تحقق أي انتخابات استقراراً فعلياً - دون وجود خطة أمنية واتفاق سياسي أكثر جدوى. وعلى وجه الخصوص، يرى عدد كبير من المحللين أن الخلافات على شرعية الانتخابات البرلمانية الليبية في عامي 2012 و 2014 لم تؤد إلا إلى زيادة عدم الاستقرار - ولا سيما الانتخابات الأخيرة، مما ساعد على إشعال فتيل الحرب الأهلية في ليبيا. فضلاً عن ذلك، لم تجر انتخابات رئاسية مباشرة منذ سقوط القذافي، ويمكن أن تكون وسيلةً لحكم الزعيم القوي المتكرر، مما يعكس على الأرجح طموح حفتر. وعلى الرغم من أن "المفوضية الوطنية العليا للانتخابات"، بمساعدة من الأمم المتحدة، قادرة تقنياً على الإشراف على عملية الاقتراع، إلّا أن التحديات الرئيسية التي يواجهها سلامة أثناء محاولته استخدام بيان باريس كأساس لإحياء الاتفاق السياسي الليبي لعام 2015 ستنطوي على التعاقب. فهل يمكن إيجاد صيغة لإضفاء طابع الشرعية على "المجلس الرئاسي" في طرابلس، وإشراك "مجلس النواب" الذي يتخذ من الجانب الشرقي للبلاد مقراً له وإجراء حوار دستوري قبل إجراء الانتخابات؟
أزمة المهاجرين التي تواجهها إيطاليا
نظراً لقربها الجغرافي، وارتباطها الطاقوي وعلاقاتها التاريخية مع ليبيا، لطالما اعتبرت إيطاليا أن البلد الواقع في شمال أفريقيا هو محور سياستها الخارجية. وفي أعقاب مساعي ماكْرون العلنية ورفعه شأن حفتر، عبّر الإيطاليون عن ارتيابهم. وحين قام سلامة، الذي شارك في القمة الفرنسية، بزيارته الأولى إلى روما بعد قمة باريس، شدّد وزير الخارجية الإيطالي أنجلينو ألفانو قائلاً، "كان هناك الكثير من المفاوضات والكثير من المفاوضين حتى الآن. وعلى كل بلد أن يعوّل على خطوة [سلامة]".
وتركز إيطاليا أيضاً على قضية الهجرة. ففي 2 آب/أغسطس، وافق البرلمان الإيطالي على خطة لنشر البحرية الإيطالية لمساعدة الليبيين في مكافحة المتاجرين بالبشر المسؤولين عن الهجرة غير القانونية. وقال وزير الدفاع الإيطالي روبرتا بينوتي إن بلاده "ستوفر الدعم اللوجستي والفني والعملياتي للسفن البحرية الليبية وتساعدها وتدعمها فى الأعمال المشتركة والمنسقة". وقد أثارت البعثة الإيطالية بعض الاحتجاجات المحلية في ليبيا - وهو ليس بالأمر المستغرب نظراً إلى الطريقة التي دائماً ما ينظر فيها القوميون الليبيون إلى القوة الاستعمارية السابقة. غير أن السراج نفى لاحقاً المطالبة بالعملية الإيطالية، كما هدّد حفتر بإطلاق النار على السفن الحربية التي تنتهك سيادة ليبيا. وبالإضافة إلى ذلك، انتقدت المنظمات غير الحكومية الدولية الظروف المروّعة في مرافق الاحتجاز الليبية، التي لا تملك "حكومة الوفاق الوطني" النفوذ لتحسينها. وعلى الرغم من أن إجمالي عدد المهاجرين الذين عبروا إلى إيطاليا في 2017 يعادل المستويات المسجلة خلال هذه الفترة من العام الماضي - حوالي 100,000 مهاجر - إلّا أن الأسابيع الستة الماضية شهدت انخفاضاً ملحوظاً، ربما نتيجة لجهود اعتراض ليبية أكثر فعالية. وقد سجلت "المنظمة الدولية للهجرة" أكثر من2,400 حالة وفاة في البحر المتوسط هذا العام حتى الآن. ولا يزال التوصل إلى حل طويل الأجل لأزمة المهاجرين بعيد المنال بالنظر إلى المصاعب التي يفر منها المهاجرون من جنوب الصحراء الكبرى، وعدم قدرة الليبيين على مراقبة حدودهم بفعالية.
أين السياسة الأمريكية؟
لا يزال يتعين على إدارة ترامب صياغة سياسة بشأن ليبيا، كما هو الحال مع العديد من القضايا الأخرى من الدرجة الثانية. ففي نيسان/أبريل، قال الرئيس الأمريكي "لا أرى أي دور للولايات المتحدة في ليبيا"، على الرغم من أنه شدّد على أن التخلص من تنظيم «الدولة الإسلامية» لا يزال يحتل الأولوية. كما لم يتناول وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون مسألة ليبيا بشكل موضوعي. فبعد ثلاثة أيام من قمة باريس، أصدر المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية تأييداً فاتراً، مما يشير إلى أن البيت الأبيض لم ينسق مع الحكومة الفرنسية بشأن مبادرة ماكْرون. وجاء في البيان، "على الرغم من ان الشعب الليبي يجب ان يقود عملية تحقيق المصالحة السياسية في بلاده، إلّا أن المجتمع الدولي يلعب دوراً هاماً في دعم هذه الجهود". وبالمثل، أشارت السفارة الأمريكية في ليبيا، التي تعمل من تونس، إلى أنه في 10 آب/أغسطس تواصل السفير بيتر بودي مع السراج وحفتر واجتمع مع كليهما خلال الأسبوع الذي سبق في تونس وعمّان على التوالي. وتجدر الاشارة الى ان السفارة الأمريكية قد أكدت أن قائد "القيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا" اللواء توماس والدهاوسر لم يجتمع مع حفتر، وهذه محاولة لانكار الشائعات بان الجيش الأمريكي يعمل مع حفتر وقواته.
فرصة في أيلول/سبتمبر
يوفر الاجتماع السنوي للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك فرصة لدفع عملية السلام في ليبيا قدماً وتأكيد سياسة الولايات المتحدة الواضحة تجاه ليبيا. أولاً، يجب ألا يضمّ أي اجتماع متعدد الأطراف بشأن ليبيا اللواء حفتر ما لم يوافق بوضوح على وضع قواته تحت السيطرة المدنية. ويجب ألا تتمّ معاملته كرئيس دولة، كما حصل في باريس، من دون أن يتنازل عن شيء مهم في المقابل خلال المفاوضات. ثانياً، يجب أن يحضر وزير الخارجية تيلرسون - وليس نائباً له - أي اجتماع بشأن ليبيا ويوضح رؤية أمريكية لمستقبل البلاد. وما دامت واشنطن لا تعبّر عن سياسة محددة تجاه ليبيا، فسوف تفسر الفصائل الليبية المختلفة الصمت الأمريكي على نحو يعود بالفائدة على مصالحها الضيقة. وأخيراً، ينبغي على الإدارة الأمريكية أن تستضيف السراج في واشنطن وأن تركّز على تطبيق بعض المشاريع الأساسية التي لا تزال "حكومة الوفاق الوطني" عاجزة عن معالجتها، من بينها توفير إمدادات الكهرباء والمياه بصورة ثابتة والتخفيف من الأزمة المصرفية والسيولة. ومن شأن هذه الزيارة التي لم يقم بها السراج خلال فترة إدارة أوباما أن تعزّز موقف سلامة في ظل سعيه إلى إعداد صيغة ستساعد على إرساء الاستقرار في ليبيا.
بين فيشمان، هو زميل مشارك في معهد واشنطن، وقدعمل مديراً لشؤون شمال أفريقيا في "مجلس الأمن القومي" الأمريكي في الفترة 2011-2013.