- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
طريق مسدود في ظلّ السيسي
قبل ستّة أعوام، في 24 كانون الثاني/يناير 2011، نزل الآلاف إلى "ميدان التحرير" في وسط القاهرة مطالبين بـ «العيش والحرية والعدالة الاجتماعية». وبعد 18 يوماً فقط، أنهت المظاهرات حكم الرئيس حسني مبارك الذي استمر ثلاثة عقود. إلّا أنّ أي تفاؤل لاحق حول "الربيع العربي" لم يدم طويلاً، وحتى أن المشاكل التي أشعلت الثورة تعدّ اليوم أكبر من السابق، وعلى كافة المستويات تقريباً. فقمع الحكومة المصرية الحالية لمعارضيها هو أوسع وأكثر قسوةً. وبطالة الشباب أعلى من السابق، والاقتصاد في حالة كئيبة، وهناك شعور متزايد بأن البلاد تسير على غير هدى. لكن على الرغم من هذا الاحباط المتزايد، قال لي مسؤول رفيع المستوى أن الرئيس عبد الفتاح السيسي "واثق جداً". وأضاف "أنه لديه علاقة جيدة مع الناس ويعرف أن الناس يثقون به".
ويتمتّع السيسي اليوم بثقة بسبب الهدوء النسبي الذي أعقب قرار "البنك المركزي" في أوائل تشرين الثاني/نوفمبر بتعويم العملة المصرية الذي خفض قيمة الجنيه المصري إلى النصف وحفّز حدوث زيادات حادة في الأسعار. وحذّر بعض المسؤولين المصريين من هذه الخطوة خوفاً من أن تشعل فتيل احتجاجات شعبية شبيهة بـ"انتفاضة الخبز" التي امتدّت على يومَين في كانون الثاني/يناير عام 1977 والتي زعزعت نظام الرئيس أنور السادات بعد أن قام برفع الدعم عن المواد الغذائية. إلّا أنّه لم يكن أمام السيسي الكثير من الخيارات. فبحلول خريف 2016، أدّى التراجع في احتياطات السيولة إلى حدوث نقص كبير في السلع الأساسية، وشعرت الحكومة بأنّه لا خيار أمامها سوى التصرّف. وقد علّق المسؤول قائلاً: "كان الخيار إمّا متابعة الأعمال على النحو المعتاد والتركيز على شعبية [السيسي] أو النظر إلى المستقبل ووضع البلاد على المسار الصحيح والتعامل مع العواقب".
يقيناً، إنّ خفض قيمة العملة، الذي تلته على الفور سلسلة أخرى من إجراءات قطع الدعم عن الطاقة والتوقيع على قرض بقيمة 12 مليار دولار من "صندوق النقد الدولي" ($2.75 مليار دولار منه حصلت عليه مصر على الفور)، قد حسّن مشهد الاقتصاد الكلّي في مصر. وسرعان ما نضبت السوق السوداء للعملات وارتفعت على الفور تدفّقات العملة إلى "البنك المركزي". أمّا احتياطات السيولة الأجنبية فقد زادت من 19 مليار دولار في نهاية تشرين الأول/أكتوبر إلى أكثر من 24 مليار بعد شهرين، في حين ارتفع مؤشر سعر صرف العملة المصرية بحوالي 50 في المائة. وكنتيجة لذلك، يعبّر البعض في المجتمع التجاري عن تفاؤلٍ حذر بأنّ مبالغ كبرى في «الاستثمار الأجنبي المباشر» سوف [يتم ضخها] في أعقاب هذه التطورات. وقد قال لي أحد رجال الأعمال: "تلقّينا العديد من الاستفسارات عن الاستثمار بسبب تخفيض قيمة العملة"، مضيفاً أنّ تخفيض قيمة الجنيه قد سهّلت عليه وعلى زملائه التخطيط لنفقاتهم للعام المقبل. ومع ذلك، لا تزال هناك العديد من العقبات التي تقف في وجه النمو المستدام، بما فيها البيروقراطية الكبيرة التي تصعّب على المستثمرين الأجانب دخول السوق والمخاوف الأمنية المستمرّة التي تسبّبت بتراجع السياحة. وقد قال لي مسؤول كبير آخر: "إنّ عدم الانفتاح الفعلي على «الاستثمار الأجنبي المباشر» والسياحة، سيشكّل تحدّياً كبيراً، لكن سنتمكّن من معرفة كيفية سير الأمور خلال ستة أشهر".
ومع ذلك، فبالنسبة إلى غالبية المصريين، كان تأثير تخفيض سعر العملة مؤلماً على المدى القصير. فقد ارتفعت أسعار السلع الرئيسية بشكل ملحوظ، ويعود ذلك جزئياً إلى اعتماد مصر بشكل كبير على المواد الغذائية المستوردة. ووفقاً لصحيفة "المصري اليوم"، ارتفعت أسعار الدواجن الحيّة والسكّر بمقدار النصف، في حين تضاعف سعر زيت الزيتون تقريباً. أمّا في الإسكندرية والفيوم اللتَين زرتهما خلال رحلة قمت بها في كانون الأوّل/ ديسمبر، فقد ذكر أصحاب المحلّات بشكل متكرّر تكبدهم خسائر في المبيعات بنسبة 40 في المائة أو أكثر، حتّى أنّه في المناطق الأكثر ازدحاماً، قلّ عدد الزبائن في المحلّات التجارية. وقال لي ناشط في الفيوم: "يعاني الناس أكثر مما يستطيعون التحمّل".
إلّا أنّ المصريين يتحمّلون الوضع في الوقت الحالي، ليس بفرح وليس بسهولة، ولكن بالتأكيد بمزيد من الصبر مما قد توقعه الكثيرون في بلد كان يشهد حركات تعبئة شعبية منتظمة قبل بضع سنوات فقط. وإلى حدّ ما، يعكس الهدوء النسبي (وربما المؤقت) في مصر السِمتان الأكثر بروزاً في السياسة المصرية منذ 3 تمّوز/ يوليو 2013 عندما ردّ السيسي، الذي كان آنذاك وزيراً للدفاع في مصر، على التظاهرات الشعبية بالإطاحة بأول رئيس منتخب للبلاد، وأحد قادة «الإخوان المسلمين» محمد مرسي.
أوّلاً، تستمر الكراهية الشديدة تجاه جماعة «الإخوان المسلمين» التي يؤدي ميلها إلى استخدام الاحتجاجات لمصالحها الضيّقة، إلى ردع الآخرين عن تنظيم المظاهرات أو الانضمام إليها. وقد أشار ناشطون، على سبيل المثال، إلى أنّ الدعوات إلى قيام "ثورة الفقراء" في 11 تشرين الثاني/نوفمبر قد تلاشت حالما أعلن «الإخوان» دعمهم لها. وبالرغم من مواجهة «الجماعة» قمعاً كبيراً منذ الإطاحة بمرسي وغيابها شبه الكلّي على الأرض، إلّا أنّها تبقى قوّة استقطاب هائلة داخل مصر بسبب رئاسة مرسي الفاشلة والتقسيمية التي دامت عاماً كاملاً. وقد قال لي أحد الناشطين: "لا تزال جماعة «الإخوان» سامّة. فأينما يبدو وكأنّه ستتمّ تعبئة الشعب، تقضي عليها تصريحات «الجماعة»".
ثانياً، على الرغم من أنّ "جنون السيسي" الذي أعقب الإطاحة بمرسي قد أصبح ذكرى بعيدة، لا يزال السيسي الشخصية السياسية الأكثر شعبية في مصر. وقد قال لي أحد أهمّ المناصرين السابقين له: "تراجعت شعبية السيسي من 90 إلى 60 في المائة. إنه تراجع كبير. لكنّه لا يزال يتمتّع بالأغلبية". وحتّى إن كانت هذه الأرقام مضخّمة (ومن المستحيل معرفة ذلك لأنّ وزارة الداخلية قد حذّرت الناس من الردّ على استطلاعات الرأي التي تجريها منظمات إعلامية أجنبية) لا تتمتع بكل بساطة أي شخصية سياسية أخرى في مصر بهذه الأهمّية. كما أنه ليس هناك تباعد ملموس بين السيسي والجيش الذي وسّع قوّته الاقتصادية بشكل كبير خلال رئاسة السيسي. (يوم الأحد، على سبيل المثال، أعلن الجيش أنّه يخوض غمار قطاع آخر عندما حصل على ترخيص لتأسيس شركة أدوية). كنتيجة لذلك، يعتقد الكثيرون أنّ الجيش سيدعم السيسي بشكل قوي في أي أزمة. وقد قال لي أحد رجال الأعمال: "لا يزال المشهد هو الجيش ضدّ جماعة «الإخوان المسلمين». ليس هناك خيار ثالث".
ولا شكّ أنّ غياب الخيار الثالث هو أمر مخطّط له؛ إذ تعمل الحكومة بدأب، وغالباً بوحشية، لمنع الاضطرابات السياسية. فشبكات التواصل الاجتماعي مراقبة بشكل محكم، ويخاطر أولئك الذين ينتقدون السيسي بكتاباتهم بأن يتم استجوابهم. كما يعتقد الكثيرون أنّ الحكومة تراقب هواتفهم الذكية لتسجيل محادثاتهم الشخصية، لذا فإن أولئك الذين قابلتهم كانوا يضعون هواتفهم الخلوية في علب أو حقائب لكتم مكبّر الصوت. فذات مرّة مثلاً، عمد أحد الذين قابلتهم على وضع جهاز لتشويش الصوت. كما تتصرف السلطات بسرعة لتوقيف كل من يبدو أنه ينظّم احتجاجات. وقد قال لي أحد البرلمانيين السابقين: "إنّ القمع كلّي لدرجة تذكّرني بحقبة عبد الناصر. في ظلّ حكم جماعة «الإخوان المسلمين» كنت أخاف من الأصولية ومن تغيّر طابع البلاد، لكن كنّا نتمتّع بحرية أكبر آنذاك. أمّا اليوم فتسود قاعدة «إخرس لتتمكّن من العيش والاستمرار». عدنا اليوم إلى الهمس في الغرف". وكنتيجة لذلك، تلتزم معظم الأحزاب السياسية الشرعية باتباع خطّ الحكومة، مما يصعّب تمييزها عن بعضها. وفي الوقت نفسه، تعمل الأجهزة الأمنية على توسيع مؤسسة "من أجل مصر" الموالية للسيسي، لتتمكّن من تعبئة الناس باسم السيسي خلال الانتخابات الرئاسية عام 2018.
كما تحاول الأجهزة الأمنية المصرية أيضاً إسكات الانتقادات من خلال توسيع سيطرتها على الإعلام. إذ يدّعي مطّلعون من داخل القطاع أنّ الاستخبارات قد أمّنت السيولة النقدية التي استُخدمت لشراء العديد من شبكات الأخبار التلفزيونية الخاصة، بالإضافة إلى مصالح في شركات علاقات عامّة تشتري الإعلانات التلفزيونية. بالإضافة إلى ذلك، قالت مصادر إعلامية متعددة أنّ الأجهزة الأمنية غالباً ما تقرّر ما يمكن وما لا يمكن تغطيته، ومِن قِبَل مَن. ولعلّ ذلك يفسّر سبب تعليق المنتقد العلني الأخير للسيسي على الهواء، الصحافي إبراهيم عيسى، لبرنامجه في وقت سابق من هذا الشهر بسبب "ضغوط" غير محدّدة. كما يفسّر على الأرجح العرض الغريب الأسبوع الماضي لمذيع الأخبار صاحب الخبرة الواسعة عمرو أديب إذ خصص حوالي نصف برنامجه للترويج لثلاجة "حلوان 360" التي تنتجها شركة عسكرية، كما لو كان بائعاً يفسّر بإسهاب.
لكن عوضاً عن طمأنة الجمهور، لم تخلق التغطية الإخبارية المقيّدة سوى قلقاً أكبر، بما في ذلك وسط الذين كانوا يدعمون السيسي بحماس كبير في الماضي. وقد قال لي أحد رجال الأعمال: "لا تعلم من يدير الدفّة" مشيراً إلى أنّ مشاريع القوانين حول الجمعيات والاستثمارات غير الحكومية بدت وكأنّها صيغت من قبل أجهزة المخابرات دون معرفة مسبقة من الوزراء المعنيين، لأن مشاريع القوانين هذه تقتضي رقابة أمنية أكبر بكثير من تلك التي سعى إليها الوزراء في الأصل. "ثمة انقطاع في التواصل بين السلطات".
ويبرز أحياناً هذا الانقطاع في التواصل إلى العلن. ففي وقت سابق من هذا الشهر، قضت "المحكمة الإدارية العليا" في مصر ضد اقتراح السيسي نقل ملكية جزيرتين في البحر الأحمر، صنافير وتيران، إلى المملكة العربية السعودية، ورفضت ادعاء الحكومة أن مصر كانت تدير الجزر نيابة عن السعودية. وكان ثمن القضية بكاملها باهظاً بالنسبة للسيسي على الصعيد الداخلي؛ فقد اعتبرت البلاد أن صنافير وتيران هي أراضي مصرية كما جاء في الكتب المدرسية لعدة عقود، وهكذا، اعتقد الكثيرون أنّ السيسي كان يبيع أرضهم مقابل الحصول على المساعدة السعودية. كما أن هذا الحدث قد كلّف السيسي الكثير في الخارج أيضاً: ففي تشرين الثاني/نوفمبر، أعلنت الرياض أنّها ستحجب المساعدات النفطية التي وعدت بها خلال زيارة الملك سلمان إلى القاهرة في نيسان/أبريل، وقال لي مسؤولون مصريون أنهم لا يتوقعون استعادة هذه المساعدات.
وبالفعل، بعد مرور ستّ سنوات على ثورة "ميدان التحرير" في مصر وأحلام "الربيع العربي" التي ألهمتها، وصلت البلاد إلى طريق مسدود. فقلّة تعتقد أنّ المعاناة الاقتصادية ستنحسر قريباً، وليس هناك مجال للمضي قدماً سياسياً. وقد قال لي أحد المناصرين السابقين: "أحياناً عليك أن تسأل: "من إذاً؟ من هو البديل؟ لكن ليس هناك أحد. ويتمّ تطبيق كافّة السياسات بشكل يضمن عدم وجود أحد. لذلك، إمّا تتعايش مع هذا الواقع أو تتركه وشأنه". وهكذا فإن المصريين يعيشون معه، كما عاشوا معه غالباً، لأنه لا يبدو أن هناك أي خيار آخر.
إريك تراجر هو زميل "استير ك. واغنر" في معهد واشنطن، ومؤلف الكتاب "الخريف العربي: كيف ربح «الإخوان المسلمون» مصر وخسروها في 891 يوماً".
"فورين آفيرز"