- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
تونس: هل هي قصة نجاح؟
في 23 أيار/مايو، عندما بدأ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب جولته الأولى في الشرق الأوسط كانت تونس تشهد على الأرجح تطوراً أقلّ إثارة ولكن أكثر أهمية من ناحية التداعيات. فبعد أشهر من الاضطرابات الاجتماعية المتزايدة، والمأزق السياسي، والتهامس عن انتفاضة ثانية في مهد "الربيع العربي"، أعلنت حكومة رئيس الوزراء التونسي يوسف الشاهد عن "حرب شاملة على الفساد". وأشار بيان الشاهد الذي أعقب اعتقال ثلاثة رجال أعمال بارزين وموظف جمارك إلى بدء حملة أوسع نطاقاً ضد حالات الكسب غير المشروع التي يُنظر إليها بشكل متزايد داخل تونس بأنها التهديد الرئيسي لإرساء الديمقراطية في البلاد. ومنذ 23 أيار/مايو، اعتقلت الدولة واستولت على أصول نحو 12 شخصاً إضافياً كانوا قد تورّطوا في جرائم الكسب غير المشروع والتهريب والجرائم ذات الصلة.
وحقّقت تونس تقدماً ملحوظاً منذ الإطاحة بنظامها الدكتاتوري قبل ست سنوات. ومع ذلك، فإن الفساد المستشري منذ عام 2011 قد أرهق التونسيين لأنهم وُصفوا كقصة نجاح "الربيع العربي". وأظهر استطلاع أجرته المنظمة غير الحكومية، "المعهد الجمهوري الدولي" في نيسان/إبريل أنه على الرغم من اعتقاد أكثرية التونسيين أن الديمقراطية ما زالت أفضل شكل من أشكال الحكم الأخرى، إلّا أن ثلثي السكان لا يعتبرون حتى الآن أن تونس ديمقراطية كاملة. وبالفعل، ما زال هناك طريق طويل أمام المرحلة الانتقالية كما أن البلد الصغير يواجه عدداً من التحديات التي تستدعي الاهتمام الدولي.
عواقب غير مقصودة
بعد الإطاحة بزين العابدين بن علي في عام 2011، اختار المشرّعون المصالحة من خلال منح العفو لآلاف السجناء السياسيين الذين دخلوا في مواجهات مع نظام بن علي. كما أن الحكومة التي شُكلت بعد الانتفاضة قرّرت عدم استبعاد أعضاء حزب بن علي الحاكم عن النظام السياسي الناشئ. وشكّل ذلك قراراً محفوفاً بالمخاطر سياسياً ونفسياً، ولكنه أنقذ البلاد من نوع العنف الانتقامي الذي شهدته ليبيا وبلدان أخرى.
ومع زوال آثار الدولة البوليسية، أصبحت المساجد أماكن للعبادة المفتوحة ورحّب التونسيون بإمكانية ارتداء رموز الهوية الدينية علناً للمرة الأولى منذ عقود. وخلال الأوقات الأكثر خطورة في المرحلة الإنتقالية - بما في ذلك طوال عام 2013 عندما تصادم "حزب النهضة" الإسلامي المهيمن مع خصومه في المجلس التشريعي الوطني حول كيفية التعامل مع التهديد الإرهابي، وإيجاد التوازن الصحيح بين الدين والدولة، والاختيار بين النظام الرئاسي أو البرلماني - أطلقت جماعات رئيسية من المجتمع المدني حواراً وطنياً للمساعدة في الوساطة. وعلى مدى ثلاثة أشهر تقريباً عقدت النقابات العمالية ونقابات القطاع الخاص الرائدة في البلاد، ونقابة المحامين التونسية، و"الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان" مناقشات بين ممثلي الأحزاب الرئيسية لدفعهم نحو حلّ توافقي. ورغم أن هذه العملية شارفت على الانهيار في مراحل متعدّدة، إلّا أنّ الحوار ساعد الأطراف المتناحرة على التوصّل إلى تسوية في نهاية المطاف: فقد وافقت الحكومة التي يهيمن عليها "حزب النهضة" على التنحي عن السلطة، كما وافقت الكتل البرلمانية على دستور جديد، وتشكّلت حكومة تكنوقراطية في كانون الثاني/يناير 2014 لوضع الأساس للانتخابات الوطنية في وقت لاحق من ذلك العام. وعندما أسفرت تلك الانتخابات عن فوز مبين لحزب "نداء تونس" المناهض للإسلاميين - برئاسة الرئيس الحالي الباجي قائد السبسي - قَبِل حزبا "نداء تونس" و"النهضة" النتائج واختارا الحكم ضمن ائتلاف، بإشارتهما إلى ضرورة التوصل إلى توافق في هذه المرحلة الانتقالية الحساسة التي تمرّ بها البلاد.
ولكن حتى هذه القرارات الحسنة النيّة والجديرة بالثناء لم تسفر عن نتائج إيجابية بشكل واضح. فالإفراج عن آلاف السجناء السياسيين، على سبيل المثال، لم يعود فقط بالفائدة على عشرات المعارضين غير العنيفين لـ "بن علي"، بل إلى استفادة العديد من الجهاديين المتشددين الذين استمروا في التحريض على العنف في تونس أيضاً، وتوجيه ما يقدر بنحو 6000 تونسي متطرف إلى العراق وليبيا وسوريا للقتال في صفوف ما يسمى بـ تنظيم «الدولة الإسلامية» وغيره من الكيانات الإرهابية. وعلى نحو مماثل، إن التخفيف المرحَّب به لسيطرة الدولة على المؤسسات الدينية التونسية قد فتح المجال أمام الإسلاميين المتطرفين للتبشير بأيديولوجيات الكراهية التي يعتمدوها.
ومنذ عام 2011، تعيّن على تونس التعامل مع هجوم استهدف السفارة الأمريكية، وعمليتي اغتيال سياسيتين، وعشرات الاعتداءات المرتبطة بتنظيم «القاعدة» التي استهدفت منشآت عسكرية على طول الحدود الجزائرية، وهجومين إرهابيين كبيرين على سياح أسفرا عن إصابات جماعية ونفّذهما مسلّحان تابعان لتنظيم «الدولة الإسلامية»، فضلاً عن محاولة تمرّد. وكما هو الحال في الغرب، تكافح تونس جاهدة من أجل تحقيق التوازن بين الالتزام بالحرية الدينية وضرورة الحفاظ على الأمن، ولكن خلافاً للدول الغربية، يعود نظامها الديمقراطي إلى ست سنوات فقط. وعلى هذا النحو، لم يتم بعد إنشاء العديد من المؤسسات التي يمكن أن تساعد في هذه المهمة والتي ينص عليها الدستور الجديد. وبقيت ظروف المعيشة في المناطق الداخلية للبلاد راكدة أو ساءت منذ "الربيع العربي". وفي مراحل متعددة، من ضمنها الوقت الحاضر، عطّلت الإضرابات الإنتاج الكبير لمادة الفوسفات في البلاد، وقطاعي النفط والغاز الأقل أهمية. وتم تأجيل الانتخابات المحلية التي يفرضها الدستور الجديد مراراً وتكراراً. واحتجاجاً على ذلك استقال مؤخراً رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات في البلاد شفيق صرصار، الذي يكن له الجميع احتراماً كبيراً، مستشهداً بالضغط والتدخل من قبل الرئاسة.
كما أن السماح لرموز النظام السابق بالإفلات من العقاب - باستثناء البعض من أسوأ المجرمين المقربين من بن علي - قد خلق أيضاً صعوبات غير متوقعة. وفي الأشهر التي أعقبت انتفاضة عام 2011 غصّت المحاكم التونسية بحوالي 1500 قضية كسب غير مشروع ضد 5000 موظف حكومي تقريباً كانوا قد عملوا لخدمة بن علي وسُمح لهم بالاحتفاظ بوظائفهم بعد الانتفاضة. وينص قانون العقوبات في البلاد على السجن لمدة تتراوح بين ثلاث وست سنوات وإعادة الأموال المسروقة لموظفي الخدمة المدنية والأطراف الثالثة (مثل رجال الأعمال) التي ثبتت إدانتهم بإساءة استخدام السلطة. ولكن في العديد من هذه الحالات لم يتمكن المدّعون العامون من احتساب القيمة الدقيقة للأضرار أو إثبات النية الضارة للمتهمين، الذين نفّذ الكثيرون منهم ببساطة أوامر رؤسائهم. وشلّت هذه القضايا الحكومة لأن البيروقراطيين أصبحوا يخشون التوقيع على الوثائق واتخاذ القرارات خشية أن يصبحوا من دون قصد مسؤولين قانونياً عن الجرائم. كما توقف الاقتصاد بسبب استمرار تردد الشركات عن الاستثمار في سوق غير منظّم.
وأثار هذا المأزق فكرة مشروع قانون "المصالحة الاقتصادية" الذي سيسمح للأفراد المتورطين بتسديد قيمة بعض مكاسبهم غير المشروعة على الأقل مقابل التنازل عن المسؤولية والإعفاء من نطاق عملية محاكمة انتقالية موازية تستهدف مرتكبي المخالفات في عهد النظام السابق. وكان الأمل من هذا القانون إعادة البيروقراطية الخجولة إلى العمل وتحفيز رجال الأعمال المتردّدين على الاستثمار في الاقتصاد الهش. ولكن المجتمع المدني وبعض الأحزاب السياسية عارضوا بشدة حتى أبسط الخطوط العريضة للمشروع، لأنهم اعتبروه بمثابة عفو عن الأفراد الفاسدين. ولم يساعد سوء التواصل الحكومي، والأدلة المتزايدة على الفساد في حلّ الأمور. وعندما زرتُ في منتصف أيار/مايو مكتب المنذر بن عياد رجل الأعمال الناجح (والأخلاقي) في تونس الذي قدّم المشورة في مجال السياسة الاقتصادية لعدد من السياسيين في مرحلة ما بعد الانتفاضة وشارك في المحادثات الأولية المتعلقة بعملية المصالحة الاقتصادية، عبّر عن الأمر على النحو التالي، "إذا تسبب تنظيم «داعش» بقسم كبير من الضرر الأولي [للاقتصاد]، فإن الفساد يتسبّب حالياً بالباقي". وأوضح أن الاقتصاد سيحتاج إلى ضخّ مليار دولار في السنة لتسجيل النمو وإنتاج فرص عمل كافية.
وثمة نتيجة أخرى غير مقصودة تتعلق بالتركيز على توافق الآراء. ولطالما أفاد خبراء السياسة الذين يدرسون التحول الديمقراطي، أن التحوّلات من الأنظمة الاستبدادية هي أكثر عرضة للنجاح عندما تشمل مفاوضات توافقية بين نخب النظام السابق والمدافعين الجدد عن الديمقراطية. ولكن الإصرار على التوافق في التجربة التونسية أدّى إلى قيام شلل، وقوّض في بعض الحالات الآليات المصممة لتوجيه الخلافات السياسية. فعلى سبيل المثال، حلّ الحوار الوطني في عام 2013 من دون شك أزمة سياسية على المدى القصير، ولكنه أعفى أيضاً المجلس التشريعي المنتخب ديمقراطياً من المناقشة العلنية للأزمة والتصويت على طريقة الخروج منها، مما أدّى إلى تشكيل حكومة غير منتخبة تولّت السلطة في كانون الثاني/يناير 2014.
كما أن التركيز على توافق الآراء قد دفع الحكومة الحالية إلى تجنّب العمليات الديمقراطية. وامتنع أعضاء البرلمان المتخوفون من غضب الشعب عن التداول بشأن حيثيات التشريع في جلسات عامة مفتوحة، وأرسلوا بدلاً من ذلك مشاريع القوانين المقترحة إلى اجتماعات "لجنة التوافق" المغلقة حيث يقرّر ممثلو الأحزاب التعديلات من دون أي رقابة أو شفافية. وفي الواقع، أن الخوف من اهتزاز القارب [تعقّد الأمور] حال دون تقدّمه.
ولا توجد دلائل على أن هذه العقلية ستتغيّر في أي وقت قريب. ويشدّد السبسي بانتظام في خطاباته بمناسة ذكرى الانتفاضة على التوافق باعتباره عنصراً ضرورياً للمرحلة الانتقالية. وفي الشهر الماضي أخبرني رئيس المكتب السياسي لـ "حزب النهضة" نور الدين العرباوي الذي قضى 17 عاماً في أحد سجون بن علي لانتمائه للحركة الإسلامية في البلاد أن حزبه سيواصل الدعوة إلى التوافق في الانتخابات المحلية (بغض النظر عن المنطقة التي تجري فيها) حرصاً على الاستقرار. وقال العرباوي إن "التونسيين يتفقون بشكل عام على أن التحوّل الديمقراطي يستغرق وقتاً". وأضاف قائلاً إن "ست سنوات هي فترة قصيرة نسبياً للانتقال من نظام دكتاتوري إلى نظام ديمقراطي. وإن [توافق الآراء] ربما يكون ضرورياً لمدة عشرة إلى خمسة عشر عاماً". ويمكن لهذه الاستراتيجية أن تجذب بعض أفراد جيل العرباوي الذين لا يزال خوفهم من العودة إلى السجن شديداً، أو أولئك في المعسكر العلماني الذين يرون "التوافق" كوسيلة للحفاظ على السلطة السياسية. إلّا أنّ هذه الاستراتيجية بدأت تقوض شرعية الأحزاب السياسية وتقلل بشكل متزايد من ثقة الشعب بنظامهم الديمقراطي الناشئ.
وبعد يوم من لقائي مع العرباوي في مقر "حزب النهضة" تناولت الغداء مع مجموعة من الموظفين في منظمة "البوصلة" - الوكالة الحكومية الرقيبة والرائدة في تونس. وتركز نقاشنا في ذلك اليوم حول مسألة التوافق، وانبهر بعض الأشخاص حول الطاولة لاهثين عندما نقلت إليهم اعتقاد العرباوي بأن البلاد ستستمر بمنح الأولوية للتوافق لعقد آخر من الزمن. وذلك لأنه في في ظل الديمقراطية، ينبغي أن تتوفّر للأحزاب الخاسرة اليوم فرصة للفوز في انتخابات الغد، ولكن عشر سنوات إضافية من "التوافق" قد تعرقل هذا المتغيّر الدوري الصحي للسلطة السياسية. وعبّرت أميرة اليحياوي مؤسسة منظمة "البوصلة" عن الأمر على النحو الآتي: "نحن في تونس بحاجة إلى تجربة شعور بأن يكون لدينا فائزون وخاسرون". ويبقى أن نرى ما إذا كان اعتقال حكومة الشاهد لرجال الأعمال والمسؤولين الفاسدين، والذي حدث بعد بضعة أيام من تحدثي مع اليحياوي، سيحدث تغييراً.
عوائد على الاستثمار
في واشنطن، تميّز 23 أيار/ مايو بتطور آخر لم تشر إليه وسائل الإعلام في ظل حالة الهيجان التي أحاطت برحلة ترامب إلى الخارج، ألا وهو: كشْفْ وزارة الخارجية الأمريكية عن طلب ميزانيتها لعام 2018. وإذا ما تمت الموافقة عليها، فستخفّض إلى حدّ كبير تمويل برامج المساعدة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وستعيد توجيه المساعدات من البلدان ذات الوضع الجيد نسبياً إلى تلك التي تعاني من أشد الظروف سوءاً. أما تونس، التي تندرج ضمن الفئة الأولى فستشهد خفض مساعدتها بنسبة 67 في المائة، من 165 مليون دولار إلى 54 مليون دولار.
ويبدو أن عدم تعرّض تونس لحادث أمني كبير منذ مطلع عام 2016 قد أقنع البعض في الإدارة الأمريكية الحالية بأن البلاد قادرة على الاهتمام بنفسها. ولكن الأدلة تشير إلى أن هذا الافتراض خاطئ. فقد لعبت المساعدة الأمريكية دوراً هاماً في إخراج تونس من لحظاتها المظلمة وساعدتها في الحفاظ على عملية انتقال معقّدة. وفي عام 2013، أفادت التقارير أن جايكوب واليس، الذي كان آنذاك السفير الأمريكي في تونس، قد لعب دوراً أساسياً وراء الكواليس للتوسط في الخلاف بين الفصائل السياسية المتعارضة. وكان للتدريب الأمريكي للشرطة التونسية في العام التالي الفضل مباشرة في المساعدة على نزع فتيل وضع متفجّر في أوائل عام 2015 عندما اندلعت أعمال الشغب في الجنوب. ولم يؤدِ التمويل الأمريكي لبرنامج تدريبي تجريبي في البرلمان التونسي إلى مساعدة المسؤولين المنتخبين على المضي قدماً في التشريع فحسب، بل كان له الفضل أيضاً في إدخال مفهوم البحوث غير الحزبية في خدمة السياسة العامة. وقد مكّنت المعونة والمساعدة على بناء القدرات في وزارات الداخلية والعدل والدفاع التونسية هذه الوكالات من البدء في تحديث عملياتها وتبسيطها، ما جعل من الممكن منع المقاتلين المتطرفين من التوجه إلى العراق وسوريا.
وبالنسبة للبعض، قد تكون تونس صغيرة جداً لكي تستحق اهتماماً كبيراً. ولكن إذا كان الخيار الذي يواجه صانعي السياسة الخارجية غالباً ما يكون بين تخصيص موارد شحيحة للمشاكل الحادة التي تنطوي على عوائد مشكوك فيها أو دعم بيئات أقل خطورة ظاهرياً وتقدّم وعداً أكبر على المدى الطويل، فإن تونس هي أكثر من يستحق الاستثمار. وفي الوقت الذي تمر فيه بقية المنطقة في حالة من الاضطراب، تبقى تونس نقطة مضيئة في الشرق الأوسط مهما حاولت النفور من هذه التسمية. ويتطلّب الحفاظ على هذا الوضع دعم المجتمع الدولي وإدراكه بأن المكاسب الديمقراطية في تونس لم تتحقق بسهولة ولا هي قريبة من أن تكون مضمونة.
سارة فوير هي زميلة "سوريف" في معهد واشنطن.
"فورين آفيرز"