- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 3044
تأجج الغضب في غزّة (الجزء الثاني): فكّ العقدة الغورديّة بليونة
"هذا المرصد السياسي هو الثاني في سلسلة من جزئين حول آخر الأعمال العدائية بين إسرائيل و«حماس». وناقش الجزء الأول التداعيات السياسية الداخلية على إسرائيل".
بعد سبعة أشهرٍ من الاشتباكات المستمرة، وقبل بدء التصعيد الأخير في غزّة، كانت إسرائيل وحركة «حماس» تُحرزان تقدّماً ملحوظاً في المحادثات التي رعتها مصر بهدف التوصّل إلى تفاهمات محدودة لوقف إطلاق النار. ويبدو أن استئناف هذه المناقشات وتنفيذ اتفاقات التفاهم يشكّلان أفضل مسار عمل متاح اليوم، على الرغم من التقلبات الراهنة.
وأصبحت المحادثات تجني ثمارها عندما قسّمت أخيراً المطالب المتعددة جدّاً التي قدّمها كلا الطرفيْن، باعتماد مقاربة تدريجية بدلاً من التجميع. ويتمثّل الهدف الأساسي في إنتاج مجموعة محدودة ولكن ملموسة من الترتيبات تلتزم بموجبها «حماس» بإنهاء العنف ضد إسرائيل (بما في ذلك المواجهات على طول الحاجز الأمني في غزة خلال "مسيرات العودة" الأسبوعية، بالإضافة إلى الهجمات الحارقة بالطائرات الورقية والبالونات)، بينما تسمح إسرائيل بوصول المساعدات الأجنبية إلى غزّة من أجل تخفيف وطأة الوضع الاقتصادي والإنساني الملح في هذه الأراضي.
وقبل التصعيد الأخير، اتّخذ كلا الطرفين خطواتٍ للدلالة على جدّيّتهما وحسن نواياهما. فقد سمحت إسرائيل التحويل الفوري المباشر لـ 15 مليون دولار لدفع رواتب موظّفي «حماس» في غزّة كجزءٍ من منحة قطر التي تبلغ 90 مليون دولار. كما سمحت بدخول شاحنات الوقود. وتكفّلت «حماس» من جهتها بتجنب الاحتكاك مع القوّات الإسرائيلية في مسيرتيْ الحدود في 2 و9 تشرين الثاني/نوفمبر، مما أدّى إلى مرور اثنين من أهدأ أيام الجمعة منذ بداية المسيرات في آذار/مارس.
نكسة تكتيكية
نجم التصعيد الأخير عن تطوّرٍ تكتيكي، وليس عن نوايا استراتيجية لأيٍ من الطرفين. ففي 11 تشرين الثاني/نوفمبر، تم كشف فريقٍ سرّي لـ"جيش الدفاع الإسرائيلي" يعمل في أعماق خان يونس، وجرى تبادل إطلاق النار مع قوّات «حماس»، مما أسفر عن مقتل أحد كبار ضبّاط "الجيش الإسرائيلي" وسبعة عملاء تابعين لـ «حماس». وتلا ذلك تجدد معارك عنيفة عبر الحدود، كانت الأسوأ منذ عام 2014. فاستُهدِفت البلدات الإسرائيلية بما يقارب 500 صاروخٍ وقذيفة "هاون"، نجحت في أداء بعض الضربات المباشرة على المنازل والمباني الأخرى، بينما أدّت إلى اعتراض ما يقرب من 100 صاروخ وقذيفة من قبل بطّاريات دفاع "القبة الحديدية". وقُتِل مدني واحد وأصيب عدد آخر بجروح في إسرائيل. وفي غزّة، ضرب "الجيش الإسرائيلي" 160 هدفاً؛ وتم الإبلاغ عن مقتل خمسة فلسطينيين.
لكن بعد ذلك بوقتٍ قصير، قرر كلا الطرفيْن الابتعاد عن حافة الهاوية، حيث وافق مجلس الوزراء الإسرائيلي على توصية مؤسسة الدفاع ووافق على وقف إطلاق نار آخر اقترحته مصر، إذ لم يرَ أي مكاسب ناتجة عن أي تصعيدٍ إضافي. وأعلنت «حماس» انتصارها إلا أنها لم تسمح لمسيرتها الحدودية في 16 تشرين الثاني/نوفمبر ببلوغ حدّ العنف.
التقسيم، وليس التجميع
كان تقسيم بنود جدول الأعمال مفتاح الجولة الأخيرة من المحادثات لأن تجميع العديد منها كان قد علق الجهود السابقة. فمن خلال محاولة معالجة مجموعة واسعة من القضايا في آن واحد - كالسلوك الأمني، والأجور، والوقود، والحركة التجارية، والمصالحة الداخلية بين الفلسطسنيين، والسجناء، ونزع السلاح، ومشاريع البنى التحتية الكبيرة - زاد المتفاوضون من تعقيد كلّ بندٍ وأفسحوا المجال للمزيد من الجهات الفاعلة لعرقلة العملية.
وعلى الصعيد الفلسطيني، سعت مصر في البداية إلى تحقيق المصالحة بين "السلطة الوطنية الفلسطينية" وحركة «حماس». وتمثّلت الفكرة في إعادة "السلطة الفلسطينية" إلى غزة قبل السعي إلى تحقيق هدنة مع إسرائيل، وذلك لتعزيز مكانة "السلطة الفلسطينية" ورفض المصداقية السياسية لـ «حماس». ودعمت الجهات المانحة الدولية هذه المقاربة من حيث الأفضلية الدبلوماسية والعملية. وبما أن عدة حكومات قد صنّفت «حماس» رسميّاً كمنظّمة إرهابية، فإن التوصل إلى هدنة في غزّة من دون "السلطة الفلسطينية" من شأنه أن يعقّد جهود المساعدة لهذا القطاع الذي يعاني من صعوبات جمّة. سيتعيّن على الجهات المانحة تكبّد إجراءات مضنية لضمان تجنّب عبور المساعدات عن طريق «حماس» بشكل كامل وعدم استخدامها لأهداف إرهابية أو عسكرية.
غير أن محادثات المصالحة لم تعُد تتقدّم بعد أن طلب رئيس "السلطة الفلسطينية" محمود عبّاس نزع سلاح «حماس» على الفور، وبدأ الوضع في التدهور بشكل حاد بسبب العقوبات التي فرضها على غزّة. ويعتقد البعض أن تكتيكات الضغط هذه كانت جزءاً من جهدٍ متعمَّد بذله عبّاس للتسبب في صراع بين «حماس» وإسرائيل. وعلى أي حال، في حين أن مخاوفه المتعلّقة بأسلحة «حماس» كانت شرعية ومشتركة بين مصر وإسرائيل كهدف نهائي، إلّا أن إصراره قد جعله بمثابة مخرّب في إطار السياق الملح لإرساء الاستقرار في غزّة وتجنّب التصعيد.
ونتيجة لذلك، اختارت مصر - بدعمٍ من الجهات المانحة الدولية وإسرائيل - متابعة العمل على تحقيق هدنة في غزّة بغض النظر عن محادثات الوحدة الفلسطينية المتعلقة بالقطاع. ولم يكن الهدف هو السعي للتوصل إلى اتفاقٍ مباشر بين «حماس» وإسرائيل، بل التوسط في مجموعة من التفاهمات بينهما، مع تحييد "السلطة الفلسطينية" خلال المفاوضات والتنفيذ الأوّلي. ومن خلال العمل مع "الأمم المتحدة"، بدأت الجهات المانحة الدولية تعمل بالفعل على إنشاء آليّة تمويل تتجاوز "السلطة الفلسطينية" و«حماس». وفي الوقت نفسه، يتم العمل تدريجياً على إدخال المكوّنات المختلفة لاتفاقات التفاهم الأوسع نطاقاً لإنشاء قوّة دفع متواصلة.
ولتحقيق هذه النتيجة، اضطرت مصر أيضاً إلى إجراء بعض التعديلات الخاصة بها، لا سيّما فيما يتعلّق بدور قطر. فالتوتّرات بين القاهرة والدوحة قائمة منذ مدة طويلة، وغزّة هي إحدى الميادين التي وقعت حولها مثل هذه الخلافات. وكان الزعيم السياسي لـ «حماس» خالد مشعل ومضيفوه القطريون عائقاً جدّيّاً أمام التوصل إلى وقف إطلاق النار خلال حرب غزّة عام 2014، مما ساهم في إطالة أمد النزاع إلى حدٍ غير مسبوق. ولكن بما أنه أصبح واضحاً أن قطر - على الأقل في الوقت الراهن - هي البلد الوحيد الذي يريد تخصيص الأموال على الفور لخطة إرساء الاستقرار في غزّة، فقد اتّخذت مصر المسار العملي المتمثّل في السماح للدوحة بالمشاركة.
نقاط الضعف
في الوقت الذي أدى فيه تقسيم بنود جدول الأعمال إلى إحراز تقدم، إلّا أنه أدّى إلى شعور بعض الجهات بعدم تلبية مصالحها، مما حفزها بالتالي على تأدية دور المخرّب. فعلى سبيل المثال، ربّما تمّ الضغط على عبّاس من أجل الإذعان للمقاربة التي اتبعتها مصر، لكن إذا كانت التجربة الماضية أي دليل، فإن تعاونه المستمر بعيداً عن أن يكون مضموناً. ففي حين يزداد تهميش "السلطة الفلسطينية"، فقد يختار الرئيس عباس التصرّف وفق تهديده المتمثل بقطع جميع مدفوعات "السلطة الفلسطينية" إلى غزّة، مما يُقحِم القطاع في أزمة إنسانية أعمق قد تزيد بسرعة من حدّة تهديداته الأمنية.
وستختبر مثل هذه الخطوة عزيمة إسرائيل والجهات المانحة الدولية. فقد تختار إسرائيل تحويل بعض من إيرادات ضريبة القيمة المضافة التي تجمعها نيابةً عن "السلطة الفلسطينية" إلى غزّة، وقد تتصرّف الجهات المانحة الدولية بالطريقة نفسها فيما يتعلق بمساعدتها. إلّا أن مثل هذا المسار قد تكون له تبعات على استقرار الضفة الغربية، ربّما تشمل التعاون الأمني لـ "السلطة الفلسطينية" مع إسرائيل.
ويمكن لبعض الجهات الفاعلة المحلية في غزة أن تُعرقل العملية أيضاً. ففي ظل القيادة الجديدة لـ «حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين» تعمل هذه الحركة على إعادة تنشيط علاقاتها مع إيران وإعادة إثبات وجودها، من خلال إطلاقها الصواريخ على إسرائيل في 26 تشرين الأول/أكتوبر في ضربة لم يتم تنسيقها مع «حماس». بالإضافة إلى ذلك، هناك بعض العناصر داخل «حماس» غير راضية عن ترتيبات وقف إطلاق النار، حيث يعتبرها بعض المتشددين تنازلاً غير مقبولٍ لإسرائيل، في حين يستاء البعض الآخر من إعادة توجيه «حماس» ضمنيّاً نحو مصر بعيداً عن فلك «الإخوان المسلمين» في قطر وتركيا. وسيشكّل إبقاء «حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين» وعناصر «حماس» المارقة تحت السيطرة اختباراً لحدود قيادة «حماس» في الوقت الذي تحاول هذه الوفاء بمسؤوليتها المتعلقة بتنفيذ الصفقة في غزّة.
وإلى جانب أصحاب نوايا التخريب، قد تُملي التطورات التكتيكية منطقها التصعيدي الخاص بها، كما حدث في الجولة الأخيرة من القتال. فبينما روّجت «حماس» للاعتداءات المعتمدة على حدود إسرائيل وفي البحر على مدى الأشهر السبعة الماضية، عملت بعض العناصر الفردية في غزّة على القيام بعدة هجمات غير خاضعة للسيطرة، وتم إطلاق صاروخين عن غير قصدٍ، ربّما بسبب عطلٍ فني. ويمكن أن تحتدم هذه الشرارات التكتيكية وتؤدي إلى تصعيد غير مقصود.
وبدلاً من ذلك، قد تحاول «حماس» السير على حبل العنف الخاضع للسيطرة من أجل تحقيق مكاسب محلّيّة، مما يسمح لإحساسها الحالي بالنصر على تحفيز قيام أزمة سياسية إسرائيلية تأخذ في التضخم والتحول إلى غطرسة ومغامرات تكتيكية. وبالمثل، قد تجد إسرائيل صعوبةً أكبر في التراجع عن حافة الهاوية إذا استمر الاضطراب السياسي الحالي. فعلى الرغم من زوال احتمال إجراء انتخابات مبكرة في الوقت الراهن، إلا أن رد الفعل العام السلبي للغاية إزاء تعاطي الحكومة مع الاشتباكات الأخيرة يمكن أن يضعف ضبط النفس الإسرائيلي إذا ما تأجج الغضب في المستقبل.
الخاتمة
يبدو أن مواصلة عملية الهدنة وتنفيذ اتفاقات التفاهم الخاصة بها هما الوسيلة الأفضل لتفادي المواجهة غير المجدية في غزّة وتحقيق استقرار الوضع الإنساني على هذه الأراضي. ووفقاً لذلك، يجب على الولايات المتحدة تشجيع الطرفيْن في سعيهما للوصول إلى تفاهمات عملية وتعزيز الهدوء. كما على واشنطن الإشارة إلى دعم الجهود التي تبذلها مصر لتحقيق الاستقرار في غزّة وتشجيع اضطلاع "السلطة الفلسطينية" بدورٍ إيجابي في إطار هذه الجهود، بالقدر الذي ترغب الاضطلاع به. وفي الوقت نفسه، بإمكان واشنطن الاستعداد للعقبات المستقبلية، من خلال [تأهيل] الجهات المانحة للاستعداد للتدخّل إذا قام عبّاس مجدداً بتقليص ميزانية غزّة، [ومساعدتها] لاحقاً على البناء على الزخم المتاح من خلال الاستفادة من خطة السلام الخاصة بالإدارة الأمريكية من أجل تحقيق المزيد من الاستقرار في مسرح الأحداث عبر التحسينات الاقتصادية وإصلاح البنى التحتية.
غيث العمري هو زميل أقدم في معهد واشنطن، وشارك في تأليف الدراسة الحديثة للمعهد بعنوان، "منع انفجار برميل البارود في غزة". أساف أوريون، عميد إسرائيلي متقاعد واستراتيجي للشؤون الدفاعية، وزميل عسكري زائر في المعهد.