- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 2942
مستقبل الطاقة العراقي يكمن في الشمال
على الرغم من الأزمة الأمنية في العراق التي دامت خمسة عشر عاماً والتي كان من شأنها أن تغرق معظم المجتمعات، تسجل البلاد زيادات سنوية في إنتاج النفط، مما جعل قطاع الطاقة العراقي قصة نجاح عالمية. وفي المرحلة القادمة، قد تستغل إيران وحلفاؤها الغاز والنفط العراقي أو سيتم استخدامهما لصالح العراق، مما سيحوّل البلاد إلى مركز لتصدير الطاقة بين دول الخليج وتركيا وأوروبا. لدى الولايات المتحدة مصلحة استراتيجية قوية في تعزيز الاحتمال الأخير.
قطاع سريع النمو
في مؤتمر "نفط العراق" الذي عقدته «مجموعة "سي دبليو سي"» (CWC Group) في برلين في أواخر الشهر الماضي، تم إبلاغ المسؤولين وممثلي الشركات والمحللين بأن العراق قد أصبح دولةً قوية تحتل المركز الثاني في إنتاج النفط في "منظمة الدول المصدرة للنفط" ("أوبك")، مقترباً من إنتاج 5 ملايين برميل يومياً في العام الماضي، مع تصدير ما يقرب من 4 ملايين برميل. بالإضافة إلى ذلك، تخطط بغداد لإنشاء برنامج ضخم لضخ مياه البحر بهدف زيادة الإنتاج أولاً إلى 7 ملايين برميل يومياً، ولاحقاً إلى 9 ملايين برميل. وتجدر الإشارة إلى أن الهدف الأخير سيضع العراق على مستوى المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة وروسيا.
كما إن إمكانات العراق في إنتاج الغاز هائلة هي الأخرى ـ إذ تهدر البلاد كمية غير عادية قدرها 16 مليار متر مكعب سنوياً من إحراق الغاز وحده، أو 0.5 بالمائة من الإنتاج العالمي. وسيكون المشروع المشترك بين شركتي "شل" و"ميتسوبيشي" والحكومة العراقية أكبر جهد يبذل لتجميع الغاز في العالم، مما يوفر 2 مليار متر مكعب سنوياً لتوليد الكهرباء التي تشتد الحاجة إليها. وتتمثل خطة العراق الطموحة في تجميع كل إنتاجه من الغاز واستخدامه دون إحداث أي تسرب بحلول عام 2021. أما الهدف الأول فهو استبدال المنتجات النفطية الأكثر تكلفةً، والأقل فعاليةً، والأكثر تلويثاً، لكن إذا وصل العراق إلى هدفه في تجميع الغاز، فقد لا يصبح مُصدّراً للغاز فحسب، بل محوراً أيضاً لعبور الغاز يربط تركيا وإيران وسوريا والأردن والمملكة العربية السعودية، وغيرها من الاقتصادات الرئيسية.
نفط كردستان وكركوك
إن العقبة الأكثر إلحاحاً لهذه الخطط هي صراع بغداد المستمر مع "حكومة إقليم كردستان" على النفط من شمال العراق. فحقول كركوك شائكة بشكل خاص، حيث أدت إلى نشوب نزاع تورّطت فيه كل من تركيا وإيران، مع قيام واشنطن بدور الوسيط في بعض الأحيان.
وقد بدأت المشكلة عندما منح دستور عام 2005 دوراً مهماً لـ «حكومة إقليم كردستان» في تطوير الحقول "الجديدة"، وهو ما فعلته برغبة الانتقام من خلال مراودة شركات النفط العالمية وتوقيع عقود تقضي بمشاركة الإنتاج. غير أن الدستور تطلب أيضاً من الحكومة الاتحادية - عبر "شركة تسويق النفط العراقية" (SOMO) - تسويق الإنتاج من كل مكان في البلاد، بما في ذلك من «إقليم كردستان»، وفي المقابل، خصصت الميزانية الاتحادية حوالي 17 في المائة من عائدات النفط لـ «حكومة إقليم كردستان» (ما يقرب من 12 في المائة عندما تم الاستغناء عن بعض النفقات الوطنية، رغم أن الأرقام والتعريفات المرتبطة بها كانت غامضة منذ فترة طويلة). وعادةً لم تسمح «حكومة إقليم كردستان» لـ "شركة تسويق النفط العراقية" بتسويق نفطها، لذلك لم يتم دفع الإيرادات الاتحادية في كثير من الأحيان. أما اليوم، فإن الميزانية العراقية الأخيرة لا تمنح الأكراد سوى ما يقرب من 12.5 في المائة من الدخل النفطي المتوقع. وقد سعى الطرفان مراراً وتكراراً إلى مناقشة خلافاتهما بمساعدة الولايات المتحدة، لكن دائماً ما انتهى بهما الأمر في الإخلال في اتفاقاتهما وتجديد النزاع.
وعندما اجتاح تنظيم «الدولة الإسلامية» شمال البلاد في عام 2014، لم يدافع الجيش العراقي عن مدينة كركوك وحقولها النفطية، بل كانت قوات البيشمركة الكردية هي التي قامت بذلك، واستولت على الحقول وبدأت بتصدير النفط من كركوك عبر خط أنابيب «إقليم كردستان» إلى الحدود التركية ومن ثم إلى ميناء جيهان. وفي معظم الأحيان، قامت بتسويق النفط نفسه بدلاً من المنتجات الثانوية. فلم يروق الأمر لبغداد ولكن لم يكن لديها خيار في ذلك الوقت.
ومع هزيمة تنظيم «الدولة الإسلامية»، رأت الحكومة المركزية فرصتها، وخاصةً بعد الخطأ الاستراتيجي الذي ارتكبته «حكومة إقليم كردستان» في إجراء استفتاء حول الاستقلال في أيلول/سبتمبر الماضي. فوسط ضغوط إقليمية كبيرة على الأكراد، سحقت بغداد محاولة تحقيق استقلالهم واستعادت كركوك.
ويتمحور الخلاف الآن حول كيفية تصدير نفط كركوك وتسويقه، ومن سيسوّق نفط «حكومة إقليم كردستان» الذي لا يزال يتدفق إلى ميناء جيهان. وفي غضون ذلك، يتم حصر ما يقدّر بنحو 300,000 برميل في اليوم [من نفط] كركوك.
شركاء الطاقة في العراق
عندما تنظر الجهات الفاعلة الدولية الرئيسية إلى العراق، فإنها لا ترى فقط إمدادات طاقة مستقبلية وسوقاً ثرياً لصادراتها، بل ترى أيضاً مكاسب جغرافية -استراتيجية محتملة وهي مهتمة بشكل خاص بنفط كركوك العالق.
روسيا. استثمرت شركة النفط الحكومية الرئيسية "روسنفت" (Rosneft) في موسكو، نحو 3 مليارات دولار في قطاع النفط والغاز في «إقليم كردستان». ويشمل ذلك ملكية جزئية لخط الأنابيب الممتد من كركوك عبر «إقليم كردستان» إلى الحدود التركية، الذي يتصل بخط جيهان (تجدر الإشارة إلى أن تنظيم «الدولة الإسلامية» قد دمر أجزاءً من خط أنابيب كركوك - جيهان الأصلي في العراق الذي يمر عبر الأراضي غير الكردية إلى الحدود التركية).
تركيا. ما زالت أنقرة تسمح لـ«حكومة إقليم كردستان» بتسويق نفطها الخاص (حوالي 300,000 برميل يومياً) في جيهان، مدّعيةً أنها لا تستطيع تحويل هذا التدفق إلى "شركة تسويق النفط العراقية" إلا إذا التزمت بغداد بدفع ديون «حكومة إقليم كردستان» المتعلقة بالنفط إلى تركيا. فلدى أنقرة مصالح استراتيجية وتجارية واضحة في الحفاظ على منطقة كردية ودّية، تتمتع بحكم ذاتي في شمال العراق. وتأمل تركيا أيضاً في الحصول على صادرات كبيرة من الغاز من «إقليم كردستان»، قد يتم توفيرها بأسعار تقل عن أسعار السوق وبدون قيود على الأماكن المقصودة.
وفي الوقت نفسه، تريد أنقرة أن تتخلى بغداد عن [إجراءاتها] التحكيمية ضد تركيا على خلفية سماح هذه الأخيرة لـ«حكومة إقليم كردستان» بتصدير النفط عبر خط الأنابيب العراقي -التركي ذو الملكية المشتركة. وتطمح أنقرة أيضاً بالفرص التجارية في السوق العراقي للسلع والخدمات المستوردة الأوسع نطاقاً. وبالفعل، قادت تركيا الجهات المانحة الدولية بتعهد قدره 5 مليارات دولار في مؤتمر إعادة إعمار العراق الذي عُقد الشهر الماضي في الكويت.
إيران. تقوم الجمهورية الإسلامية بالفعل بتصدير كميات كبيرة من الكهرباء والغاز إلى العراق بأسعار باهظة للغاية، وتسعى إلى تضييق قبضتها الخانقة على سوق توليد الطاقة في البلاد. كما تأمل في إنشاء خط أنابيب من كركوك إلى إيران من أجل إبعاد النفط الآتي من شمال العراق عن الطريق التقليدي الذي يُصدّر منه عادة عبر تركيا، مما يؤدي في النهاية إلى تسليم الخام الإيراني عبر موانئ الخليج بدلاً من تكرير النفط الخام العراقي. وفي حين أن بغداد ضالعة في نزاعات مع «حكومة إقليم كردستان»، إلّا أنّها حاولت تصدير بعض النفط إلى إيران عن طريق الشاحنات، رغم أنه قد تمت عرقلة هذا الجهد عبر عمليات الاجتياح ضد بقايا تنظيم «الدولة الإسلامية» في المنطقة. كما هددت السلطات العراقية بتحويل جزء كبير من نفط كركوك عبر بناء خط أنابيب جديد يصل إلى إيران.
كما أن الرهانات الجغرافية - الاستراتيجية الأكبر مهمة هي الأخرى أيضاً. فإذا قررت الحكومة ذات الأغلبية الشيعية في بغداد تفضيل طريق التصدير الذي يمر عبر إيران الشيعية بدلاً من المناطق الكردية أو العربية السنية في العراق، فعندئذ ستضع نفسها بقوة في معسكر المنبوذين الإقليميين في طهران وتُصنِّف أساساً 40 في المائة من سكانها كأشخاص غير جديرين بالثقة، ومن الدرجة الثانية. وبالمثل، سيكون اختيارها لإيران بدلاً من تركيا بمثابة ضربة قوية لهيبة أنقرة نظراً لقوتها الاقتصادية والتزامها بإعادة إعمار العراق - ناهيك عن الضرر الذي قد يلحقه ذلك بفرص العراق في التعافي الكامل.
التداعيات على السياسة الأمريكية
في ظل هذه الظروف، تُعتبر الوساطة الدولية بقيادة الولايات المتحدة ضروريةً لتجنب تحقيق إيران فوز آخر. وقد تراجع رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي مؤخراً عن الخيار الإيراني فيما يخص نفط كركوك، الأمر الذي يشير إلى أنه يمكن شحن الإنتاج المحلي عبر خط أنابيب «إقليم كردستان». غير أنه لم يتابع ذلك، ويعود السبب على الأرجح لأن [اقتراح] مثل هذا الحل الوسط قد يضعفه قبل الانتخابات الوطنية في أيار/مايو.
وفي حين قد تحتاج الولايات المتحدة وشركاؤها في التحالف إلى الانتظار إلى ما بعد إجراء الانتخابات في أيار/مايو لإضفاء الطابع الرسمي على أي اتفاق، إلّا أنّه في غضون ذلك ينبغي عليهم إعطاء الأولوية للجهود الرامية إلى التوصل إلى تفاصيل اتفاقية تصدير وتقاسم العائدات بين بغداد و«حكومة إقليم كردستان». وتحاول إيران أن تجعل العراق يعتمد على غازها الباهظ الثمن، وسوف تسعى على الأرجح إلى إيصال هذا الغاز إلى سوريا في المستقبل القريب. وبالتالي، لن يؤدي الترابط الأكبر في مجال الطاقة بين إيران والعراق - والذي يشمل مقايضات النفط واستخدام شركات بناء إيرانية معتمَدة في مشاريع أنابيب النفط العراقية - إلّا إلى إضعاف روابط بغداد بالأسواق الحرة ورأس المال الدولي.
ولتجنّب هذه النتيجة، يجب أن تلقي الولايات المتحدة بثقلها وراء إنشاء ممر للطاقة بين شمال [البلاد] وجنوبها يكون فيه العراق بمثابة مركز للطاقة بين دول الخليج الأكثر ودية وتركيا، مما يشكل في النهاية جسر تصدير إلى أوروبا. يتعين على واشنطن أيضاً دعم مشروع خط أنابيب البصرة - حديثة- العقبة لنقل النفط والغاز العراقي إلى الأردن. ومن شأن هذا المشروع - إلى جانب إعادة تأهيل خط الأنابيب الاستراتيجي الانعكاسي بين الشمال والجنوب الذي يربط جنوب العراق الغني بالنفط والغاز بتركيا - أن يقلل من اعتماد بغداد المفرط على تصدير النفط عبر الخليج العربي، حيث يمكن لإيران أن تأخذ المحطات العراقية ومضيق هرمز كرهينة. وأخيراً، بإمكان بغداد أن تلعب دوراً مهماً كمحور عبور للغاز بين [منطقة] الخليج وأوروبا والشرق الأوسط.
جيمس إف. جيفري هو زميل متميز في زمالة "فيليب سولوندز" في معهد واشنطن، والسفير الأمريكي السابق في العراق وتركيا. مايكل نايتس هو زميل "ليفر" في المعهد وقد عمل على نطاق واسع في مشاريع الطاقة داخل العراق.