غالباً ما يقول القادة العسكريون في الإمارات العربية المتحدة إن شعارهم هو "إصلاح المشكلة أو الخروج منها". فمن وجهة نظرهم، إن الخيار الأسوا هو التريّث والمجازفة في دخول مأزق من دون مخرج حين تردع الظروف إمكانية إيجاد حلٍ عسكري. فمنذ أن تم طرد المتمردين الحوثيين إلى حد كبير من جنوب اليمن قبل عاميْن، دارت المعركة الأساسية للإمارات مع المجموعة المدعومة من إيران في الحديدة، وهي محافظة غربية تمتد على طول البحر الأحمر. ومع توقّف المعارك الكبيرة هناك في الوقت الذي تركّز فيه "الأمم المتحدة" على المفاوضات، يرى الإماراتيون أن استمرار تواجدهم في اليمن لا يشكّل سوى ذلك النوع من التريث الذي يريدون تجنبه. وهكذا، بدأوا عمداً بسحب قواتهم من معظم أنحاء البلاد، مستثنين قواتهم الخاصة بمكافحة الإرهاب.
ومن غير المرجح أن تُعلن أبوظبي عن هذا الرحيل بأي عبارات رسميّة نظراً إلى الحساسيات مع جارتها وشريكتها في التحالف السعودية، بعد أن اشتدّت هذه الحساسيات بعد الهجمات الأخيرة على البنية التحتية الأساسية للمملكة، بما فيها خطوط الأنابيب وأحد المطارات. لكن عدة مسؤولين إماراتيين أقدمَوا على الإعلان عن هذا الرحيل بصورة خاصة واستباقية.
أين يحدث تخفيض التواجد العسكري؟
تزعم مصادر الإمارات أن الوحدات الإماراتية أصبحت 100 في المائة تقريباً خارج مأرب، و 80 في المائة تقريباً خارج الحديدة، وهي تبدأ بالانسحاب من عدن، تاركةً الرقابة المحلّيّة إلى القوّات اليمنيّة التي درّبتها (أي "الحزام الأمني" و "قوات النخبة"). وتؤكّد المصادر اليمنية على الأقل جزءاً من تخفيض التواجد العسكري من عدن. كذلك، تراجعت نسبة [ضباط] الأركان الإماراتيين في قاعدة العمليات الأمامية الرئيسية في مدينة عصب الإريترية بحوالي 75 في المائة في الشهرين الماضيين، من بينهم جنوداً قاموا بتدريب القوات اليمنية.
ولا يتّضح تخفيض التواجد العسكري في بعض المناطق؛ على سبيل المثال، تزعم المصادر اليمنية أنه لا يوجد انسحاب واضح في محافظة شبوة، حيث يتواصل القتال على المقاطعات النفطية في بيحان. علاوة على ذلك، ستبقى قوات المرتزقة التي تموّلها الإمارات، والتي تشمل ما لا يقل عن 10000 مقاتل سوداني مدعومين من قاعدة عصب، متوافرة لدعم الجيش اليمني. وربما الأهم من ذلك، ستستمر قوات الإمارات في تنفيذ عمليات لمكافحة الإرهاب من قاعدتها في المكلا، المدينة التي حررتها من «تنظيم القاعدة في جزيرة العرب» في عام 2016.
التحول الاستراتيجي
كان تخفيض التواجد العسكري يحدث بهدوء منذ شهور ولم يكن نتيجة الازدياد الصغير الأخير في الهجمات التي يقودها الإيرانيون والحوثيون في منطقة الخليج، والتي استهدفت بعضها المصالح الإماراتية. وبالأحرى، يبدو أن ما أثار هذا التخفيض على الأقل جزئيّاً هو "اتفاقية استوكهولم" في كانون الأول/ديسمبر 2018، التي حوّلت التركيز في محافظة الحديدة من الحل العسكري إلى الحل عن طريق التفاوض.
إن التخلي عن القتال [ضد] الحوثيين والتركيز على مهمة مكافحة الإرهاب يتلاءم مع مغزى دور الإمارات الأكثر محدودية في اليمن. فقد كانت أهداف أبوظبي هي دفع المتمردين إلى خارج الجنوب، ومكافحة النشاط الإرهابي لـ «تنظيم القاعدة في جزيرة العرب» والجهات الفاعلة الأخرى، وتدريب القوات المحلية على تولّي كلا الدورين. وبالفعل، تم دفع الحوثيين إلى خارج الجنوب بحلول عام 2017 وبقوا إلى حدٍ كبير خارج [المنطقة]. كما اشتركت الإمارات مع الولايات المتحدة واليمن لإنشاء بيئة عمليات صعبة لـ «تنظيم القاعدة في جزيرة العرب»، فأبقت هذه المجموعة ضعيفة من خلال مواصلة عمليات مكافحة الإرهاب في محافظات مثل البيضاء وأبيَن. وتؤكد السلطات الإماراتية الآن أن القوات المحلية التي درّبتها قادرة على توفير الأمن بنفسها، ربما باستثناء في مجال مكافحة الإرهاب، حيث تقول أبوظبي إنها ستبقى منخرطة.
باختصار، تَعتبر الإمارات أن تخفيض تواجدها العسكري هو ليس فقط بسبب الإرهاق من الحرب، ولكن أيضاً بسبب اكتمال مهمتها إلى حدٍ كبير في الجنوب، وتولّي مفاوضي "الأمم المتحدة" مسألة النزاع مع الحوثيين بدلاً من القوات العسكرية للتحالف. إلا أن المراقبين الخارجيين غالباً ما يكونون أقل سخاءً في نظرتهم لقرارات الإمارات وجهودها. فقد أشار أحد الدبلوماسيين الأمريكيين السابقين ممن لديهم خبرة في المنطقة إلى أن تخفيض التواجد العسكري هو على الأرجح "إدراكاً ممانعاً بل عملياً بشكلٍ قاسٍ حول عدم قدرتهم على التحمل أكثر بعد - عسكريّاً وماليّاً والأهم سياسيّاً - في ظل الوضع الراهن من هذا المأزق الدموي". وفي غضون ذلك، لا يُبدي المختصون العسكريون الأمريكيون الذين يتمتعون بخبرة ميدانية في اليمن تفاؤلاً من ناحية قدرات القوات المحلية. ويشعر الكثيرون أيضاً بالقلق من أن يكون المدرّبون العسكريون الإماراتيون قد أنشأوا أساساً قوة عسكرية موالية لاستقلال الجنوب لا تخضع لسيطرة الحكومة اليمنية، وهو وضعٌ قد يؤدّي إلى نزاع مستقبلي في الجنوب.
الاحتكاك مع السعوديين
من شبه المؤكد أن قرار الإمارات يتسبب في توترات مع الرياض، التي يتعيّن عليها الآن إعادة التفكير في نهجها الخاص المعتمَد في الحرب. فسابقاً، كبَتَ الإماراتيون شعورهم بالإرهاق من الحرب وواظبوا على الحفاظ على جبهة موحّدة مع السعوديين. وكانت تلك الذهنية تتماشى مع النزعات الثقافية النموذجية حول إبداء الولاء، لكن يبدو أنها تغيّرت لسببٍ أو لآخر، مهددةً بكشف الانشقاقات وإحداث المزيد من التوترات خلال فترة من الحساسية المتنامية في الخليج. يجب على المسؤولين الأميركيين التواصل بنشاط مع كلا الطرفين والحكومة اليمنية للمساعدة في صياغة طريقٍ متفق عليه للمضي قدماً ودرء أي خلافات محتملة على المدى الطويل بين الإماراتيين والسعوديين.
وسيكون أي انشقاق مشابه بين الشريكيْن الخليجييْن مثار قلق، إنما غير مفاجئ. فعلى الرغم من الحفاظ علناً على وجهٍ مشترك، إلّا أن قوّاتهما في اليمن لا تعمل عموماً جنباً إلى جنب، بل تتقاسم المسؤوليات. وعادةً ما ينفّذ السعوديون العمليات في شمال [البلاد] بينما ينفّذها الإماراتيون في جنوبها، وعندما يدخل أحدهما المنطقة المقابِلة، يغادر الآخر. على سبيل المثال، عندما سيطر الإماراتيون على العمليات في محافظة الحديدة، تراجع تواجد السعوديين ليصبح رمزيّاً؛ وعندما دخل السعوديون إلى محافظة المهرة، غادر الإماراتيون. حتى أن تواجد ضبّاط اتصال في وحدات بعضهما البعض غالباً ما يبدو رمزيّاً. ويبدو أن واقع عدم تلاقي القوتين في معظم الأحيان أمرٌ متعمد، مما يثير تساؤلات حول الآراء الإماراتية بشأن الكفاءة العسكرية السعودية.
وبالمثل، في حين تتشارك أبوظبي والرياض وجهة النظر العامة نفسها إزاء التهديدات الإقليمية، إلّا أن هذه التهديدات لا تحتل المراتب نفسها على سلّم أولوياتهما، بما في ذلك في اليمن. على سبيل المثال، تشدد الإمارات على محاربة «الإخوان المسلمين» أكثر من السعودية، ويبدو أنها أقل قلقاً بشأن تمكين الانفصاليين الجنوبيين. كما تعاملت مع التهديد الإيراني بشكلٍ مختلف خارج اليمن، حيث ألقت الرياض باللوم على طهران بشكلٍ مباشر على الهجمات الأخيرة على السفينتين بينما امتنعت الإمارات عن توجيه الاتهامات المباشرة.
وإذا بدأ وجههما العلني الموحَّد في التلاشي، قد تتفاقم الاختلافات القديمة بين الحكومتين. لذلك يتعيّن على الولايات المتحدة العمل مع حلفائها الخليجيين بنشاطٍ أكبر لضمان عدم تسبب هذه الاختلافات بمشاكل إضافية، سواء في حل النزاع اليمني أو مقاومة نشاط إيران المزعزع للاستقرار في أماكن أخرى من المنطقة.
ماذا بعْدْ لليمن؟
لطالما كان واضحاً أن الحل في اليمن يتم التوصل إليه على الأرجح من خلال عملية سياسية أكثر من كونها عسكرية، لا سيما مع تكثيف الكونغرس الأمريكي الضغط في ذلك الاتجاه وتخفيض الإمارات لتواجدها العسكري. وتعني القيود العسكرية الخاصة بالرياض أن الحل السياسي قد يكون الآن الخيار الوحيد. ولا يمكن للسعوديين أن يدّعوا إحراز نجاحٍ ملحوظ في تحقيق أهدافهم العسكرية. فتبقى حدودهم معرّضة للخطر من قِبَل الحوثيين، بينما فشلت قوّاتهم في استرداد العاصمة نيابة عن الرئيس عبد ربه منصور هادي والحكومة اليمنية المعترَف بها دوليّاً. وفي المرحلة اللاحقة، من غير الواضح ما إذا كانت الإمارات مستعدة للاستمرار في دعم الغارات الجوية التي تقودها السعودية وغيرها من الأنشطة العسكرية في شمال [البلاد].
وإذا لم يسعَ السعوديون إلى إيجاد حل سياسي بصورة أكثر استباقية، سيوشكون على البقاء وحدهم لخوض حربٍ لا يمكنهم الفوز بها. فقد يشكّل تخفيض التواجد العسكري للإمارات وسط استمرار الغارات الجوّيّة السعودية الخيار الأسوأ، بما أن الحوثيين قد يرون هذا التخفيض بمثابة فرصة لاختبار استعداد القوات اليمنية في الجنوب. وفي المقابل، فإن تخفيض التواجد العسكري السعودي-الإماراتي المشترك قد يفسح المجال للمحادثات الثنائية بين السعوديين والحوثيين لوقف التصعيد، وربما قد يُزيل أي سبب كامن يدفع االمتمردين إلى مهاجمة الأراضي السعودية على المدى الطويل، بغض النظر عمّا إذا كانت إيران تستمر في حثّهم على ذلك أم لا.
وعلى هذا النحو، على الولايات المتحدة أن تدفع الرياض إلى النظر في إعادة افتتاح المحادثات المباشرة مع الحوثيين على غرار تلك التي جرت في عام 2016، وأن تجد في الوقت نفسه سبلاً لجعل مثل هذه المفاوضات مقبولة بالنسبة إلى حكومة هادي. كما على واشنطن تشجيع العملية التي تقوم بها "الأمم المتحدة" وتعزيز المحادثات المباشرة بين هادي والحوثيين، بهدف إيجاد حلٍ للبلد بأكمله، وليس للحديدة فحسب. وسيبقى المبعوث الخاص لـ "الأمم المتحدة" عاجزاً إذا لم تتواصل الأطراف مع بعضها البعض بقوة أكبر. ولا تشكّل المحادثات الثنائية علامةً على الاستسلام للحوثيين، بل بالأحرى فرصةً تتراجع بسرعة للحد من النفوذ الإيراني في اليمن وإرساء الاستقرار في البلاد. ومع تنامي الشعور بالإرهاق من الحرب، يشكّل الانخراط الفعال الذي يسعى إلى القيام بترتيبات تعود بالمنفعة المتبادلة لجميع الأطراف سبيلاً للخروج من النزاع مع حفظ ماء الوجه.
إلينا ديلوجر، هي زميلة أبحاث في "برنامج برنستاين لشؤون الخليج وسياسة الطاقة" في معهد واشنطن.