- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 3166
هل ستصبح تركيا والصين صديقتيْن؟
في حزيران/يونيو المنصرم، أفادت بعض التقارير بأن البنك المركزي الصيني حوّل مليار دولار إلى تركيا كجزء من اتفاقية لتبادل العملات يعود تاريخها إلى عام 2012. وفي حين يشكّل هذا التدفق النقدي أكبر تحويل للأموال وفّرته بكين إلى أنقرة، إلّا أن أقصى ما يمكن أن يسفر عنه هو إقراض مبلغ بسيط قصير الأجل لاحتياطيات النقد الأجنبي المتناقصة في تركيا. ولكي ترعى الصين بالكامل اقتصاد تركيا المتعثر، سيتعين على الحكومتيْن التغلب على الخلافات السياسية التاريخية الرئيسية بينهما، لا سيّما فيما يتعلق بالأويغوريين الأتراك في منطقة شينجيانغ المضطربة في الصين.
العلاقات الاقتصادية تحت اردوغان
نظراً لقلة الموارد الطبيعية الخاصة بتركيا، تعتمد البلاد على عمليات ضخ رأس المال الأجنبي والعلاقات القوية مع الأسواق الدولية لتحقيق النمو. وكان النجاح الانتخابي الذي حققه الرئيس رجب طيب أردوغان منذ عام 2003 مدفوعاً إلى حد كبير بالمبالغ القياسية للاستثمار الأجنبي المباشر الذي اجتذبته البلاد خلال فترة ولايته، ومعظمه من أوروبا. وقد أدى النمو الاقتصادي الناتج عن ذلك إلى تعزيز قاعدة ناخبيه - فالكثير من معجبيه المتعصبين ينجذبون إليه لأنه ساعد على انتشالهم من الفقر.
ومع ذلك، تقلص الاقتصاد التركي في الآونة الأخيرة وسط التقلبات المالية وعدم اليقين السياسي وارتفاع معدلات البطالة (15 في المائة حالياً) والتضخم المتفشي (17 في المائة). لذلك يحتاج أردوغان إلى المزيد من الاستثمار الأجنبي المباشر لتمويل النمو الذي يعتمد عليه من الناحية السياسية.
وبالنظر إلى حجم الاقتصاد التركي - أقل بقليل من تريليون دولار - فإن صندوق النقد الدولي الذي مقره في الولايات المتحدة، هو وحده الذي سيكون لديه الأموال اللازمة لإنقاذه في حال حدوث انهيار مالي، وهذا ما يدركه أردوغان جيداً. بالإضافة إلى ذلك يدرك الرئيس التركي أيضاً أن روسيا لا تستطيع الاضطلاع بهذا الدور بمفردها. ومن الناحية النظرية، تستطيع الصين القيام بذلك، ولكن الأمر سيتطلب قيام كلا البلدين بتجاوز خلافاتهما بشأن قضية الأويغور.
وفي حزيران/يونيو 2018، أرسل أردوغان وزير خارجيته ميفلوت جاويش أوغلو لطلب المساعدة الاقتصادية من بكين وسط حاجة ماسة إليها - فقد كانت الليرة في طور الانهيار ولاحت في الأفق أزمة مالية أوسع نطاقاً، وكانت العلاقات مع واشنطن في أزمة بسبب قضية القس أندرو برونسون والعقوبات الأمريكية ذات الصلة. ومع ذلك، عاد جاويش أوغلو إلى بلاده دون وعد من الصينيين بإنقاذ [الوضع الاقتصادي لتركيا].
وقد بدت هذه النتيجة مفاجِئة بالنظر إلى أن بكين كانت تتودد إلى تركيا من خلال "مبادرة الحزام والطريق" المُغرية، التي تهدف إلى تطوير طرق تجارية واسعة النطاق إلى أوروبا وغيرها من المناطق. وفي حالة أنقرة، كان ذلك يعني تقديم قروض ميسّرة لبناء خطوط مترو جديدة وبنية تحتية أخرى. وتقع هذه الاستثمارات في صلب سياسة الصين تجاه تركيا، فقد أعربت أنقرة مراراً وتكراراً عن رغبتها في الاستفادة من "مبادرة الحزام والطريق". ووضعت جميع الوزارات التركية تقريباً خططاً لتعزيز العلاقات مع الصين، وتم دمج "مبادرة الحزام والطريق" في أوراق السياسة الخاصة بالبيروقراطية التركية.
النظر في دور الأويغور
على الرغم من هذا الزخم، لا تزال بكين تشعر بقلق عميق حيال علاقات أنقرة التاريخية الوثيقة مع مجتمع الأويغور الأتراك في شينجيانغ. وهذه الأخيرة، التي كانت تُعرف سابقاً باسم تركستان الشرقية، كانت جزءاً رمزياً وأحياناً دولة تابعة لأسرة تشينغ الصينية في القرن التاسع عشر. ويعود تدخّل تركيا في شؤون الأويغور إلى الحقبة التي قام فيها السلاطين العثمانيون باستخدام الإسلام لتوسيع نفوذهم.
على سبيل المثال، في عام 1873، أرسل السلطان عبد العزيز شحنة أسلحة إلى الأويغوريين لاستخدامها ضد سلالة تشينغ مقابل الاعتراف بحكم سلطنته. وفي ذلك الوقت، كانت سلاسلة تشينغ تحاول مرة أخرى التوغل في عمق شينجيانغ، ووضع الأسس للهيمنة الصينية التي اكتسبت طابعاً رسمياً وترسخت بشدة في القرن التالي.
وبعد اندماج المنطقة التركية بصورة عميقة في الصين في أعقاب الثورة الشيوعية عام 1949، بدأ ماو تسي تونغ حملة قمع ضد القوميين الأويغور، مما أرغم الكثيرين على الفرار بحثاً عن لجوء سياسي. ورحّبت تركيا بأقاربها العرقيين بصدر رحب، في الوقت الذي كانت فيه حليفة جديدة للولايات المتحدة وملتزمة لها في الحرب الباردة. وبذلك، عززت علاقاتها مع واشنطن وقوّضت [مكانة] بكين قبل الحرب الكورية. وطوال خمسينات وستينات القرن الماضي، أعادت أنقرة توطين آلاف الأويغوريين بدعم من الولايات المتحدة. وفي أواخر السبعينيات، وصلت موجة أخرى منهم في أعقاب إصلاحات ماو.
وفي عهد أردوغان، حافظت أنقرة على دعمها القوي للأويغور؛ ففي عام 2009 وصف السياسات الصينية في شينجيانغ بأنها "إبادة جماعية". وفي الوقت نفسه، برزت القضية كأخطر تحد سياسي للزعيم الصيني شي جين بينغ، مما دفعه للرد على الأويغور باتخاذه إجراءات صارمة ضدهم. فبالإضافة إلى إرساله مئات آلاف الأشخاص من هذه الأقلية إلى "معسكرات إعادة التعليم"، فقد بدأ أيضاً بمراقبة جماعية لمجتمعاتهم عبر أنظمة كاميرات الدائرة المغلقة والتنصت عالي التقنية لهواتفهم الذكية ومتابعتهم على وسائل التواصل الاجتماعي.
وفي الآونة الأخيرة، قلل أردوغان من أهمية القضية في وسائل الإعلام التركية التي تهيمن عليها الدولة، والتي أصبحت تنقل الآن قصصاً قليلة جداً عن معاناة الأويغور. ويبدو أن هذه الاستراتيجية تهدف إلى التملّق إلى بكين. ومع ذلك، لا يزال كبار نشطاء الأويغور يجتمعون بانتظام مع المسؤولين الأتراك، ويظل مجتمعهم في تركيا مركز الشتات الأويغوري العالمي. ولا تتوفر بيانات رسمية عن أعدادهم، لكن يُقدر أن عشرات آلاف الأويغوريين يعيشون في تركيا، وهم محبوبين من قبل النخبة السياسية التركية. وإدراكاً منها لهذه العلاقات العميقة، ابتعدت بكين عن توفير مئات مليارات الدولارات اللازمة لدرء انهيار الاقتصاد التركي بصورة قاطعة.
القليل من التجارة أو الاستثمار
هناك عقبة أخرى أمام قيام بكين بتوفير شريان حياة اقتصادي لأنقرة يتمثّل بعلاقاتهما التجارية والمالية الحالية المحدودة نسبياً. فعلى الرغم من قيام أردوغان بتنويع شركاء تركيا التجاريين، إلا أنّه لم يظهر أحد منهم، بما في ذلك الصين، كبديل قوي لأسواق البلاد التقليدية في الغرب. فصادرات تركيا إلى الصين لا تشكّل سوى جزءاً صغيراً من صادراتها إلى أوروبا وأمريكا، كما أن عجزها التجاري كبير - في عام 2018، بلغت استيراداتها من الصين 19.4 مليار دولار، بينما بلغت صادراتها إليها 2.7 مليار دولار فقط. وعلى الرغم من ارتفاع الحصة التجارية التركية مع الدول غير الغربية إلى حوالي 30 في المائة، إلّا أن الاتحاد الأوروبي وحده ظل يمثل 42 في المائة من تجارة البلاد في العام الماضي، مقارنة بـ 6 في المائة فقط مع الصين.
وبالمثل، بينما تَنوّع شركاء الاستثمار مع تركيا في ظل [رئاسة] أردوغان، إلّا أن الحصة الأمريكية والأوروبية من التدفقات الداخلة للاستثمار الأجنبي المباشر زادت هي الأخرى أيضاً. ففي عام 2005، كان الاتحاد الأوروبي أكبر مستثمر في تركيا، حيث مثلت حصته 58 في المائة من صافي التدفقات الداخلة للاستثمار الأجنبي المباشر؛ وبحلول عام 2018، ارتفعت النسبة إلى 61 في المائة. وفي المقابل، ظلت تدفقات الاستثمار الصيني أقل من 1 في المائة.
وتحمل بعض التطورات الحديثة وعداً بالنمو في المستقبل - على سبيل المثال، تمتلك شركة صينية مملوكة للدولة حصة أغلبية في أرصفة حاويات كومبورت (Kumport) في إسطنبول؛ وأفادت بعض التقارير أن شركات صينية عرضت تولّيها إدارة جسر البوسفور "الثالث" في إسطنبول. ومع ذلك، لا يزال الحيز المالي الشامل لبكين في تركيا صغير جداً مقارنة بنظيره الغربي.
الخاتمة
بما أن تركيا هي دولة شحيحة الموارد مع فاتورة استيرادٍ طاقة سنوية تبلغ حوالي 30 مليار دولار، لذلك تحتاج إلى عشرات مليارات الدولارات من الاستثمار الأجنبي المباشر أو التدفقات النقدية السنوية الضخمة للحفاظ على نموها الاقتصادي وعلى رضى قاعدة أردوغان. إن اجتذاب مثل هذه المكاسب غير المرتقبة من الصين قد يتطلب قيام أنقرة بتغيير سياستها تجاه الأويغور بشكل جوهري، وهذه مهمة صعبة في ضوء الأنماط التاريخية. ومع ذلك، واجهت الشركات التركية مؤخراً صعوبات في الحصول على ائتمانات من مستثمرين أوروبيين وأمريكيين، مما خلق فراغاً قد يقرر المستثمرون الصينيون ملأه من خلال توفيرهم مبالغ إئتمان أكبر من تلك التي يوفرها المستثمرون الغربيون. وإذا تحقق هذا السيناريو، فقد يزداد التأثير السياسي لبكين على أنقرة بدرجة كبيرة، مما يُقرّب تركيا من المحور الصيني - الروسي الناشئ في السياسة العالمية.
سونر چاغاپتاي هو زميل "باير فاميلي" في معهد واشنطن ومؤلف الكتاب المرتقب "إمبراطورية أردوغان: تركيا وسياسة الشرق الأوسط". دنيز يوكسل هي مساعدة باحثة في المعهد.