- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 3971
واشنطن تعود إلى دمشق وسط رهانات عالية على العملية الانتقالية في سوريا
سيكون للنتائج التي توصل إليها الوفد الأمريكي بشأن القضايا السياسية والأمنية الرئيسية تأثير كبير على مستقبل تواصل الولايات المتحدة مع القادة الجدد في سوريا، بما في ذلك قرار رفع العقوبات أو الإبقاء عليها.
للمرة الأولى منذ تشرين الأول/أكتوبر 2011، عندما تم سحب السفير الأمريكي روبرت فورد من سوريا بسبب مخاوف أمريكية من قمع نظام الأسد للمتظاهرين، تعود واشنطن إلى دمشق - وهذه المرة للتواصل مع الحكومة الانتقالية الجديدة بقيادة جماعة المتمردين "هيئة تحرير الشام". وفي العشرين من كانون الأول/ديسمبر الحالي، التقى مسؤولون أمريكيون مع زعيم "هيئة تحرير الشام" أبو محمد الجولاني (المعروف أيضاً باسم أحمد الشرع) للبحث عن معلومات حول الأمريكيين المفقودين أوستن تايس، مجد كمالماز، وآخرين. كما كان من المقرر أن يلتقوا بشخصيات من المجتمع المدني ونشطاء وممثلين عن مختلف مجتمعات الأقلية. ويضم الوفد باربرا ليف، مساعدة وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأدنى؛ وروجر كارستنز، المبعوث الرئاسي الأمريكي الخاص لشؤون الرهائن؛ ودانيال روبنستين (روبنشتاين)، وهو مستعرب منذ فترة طويلة وسفير أمريكي متقاعد الذي استُدعي حديثاً للخدمة. وتأتي زيارتهم في أعقاب إعلان وزارة الدفاع الأمريكية عن زيادة قواتها العسكرية في سوريا من 900 إلى 2,000 جندي، مما يعكس المخاوف من احتمال استغلال تنظيم "الدولة الإسلامية" ("داعش") للوضع الجديد.
وتأتي زيارة الوفد في وقت حاسم من عملية الانتقال في سوريا، والتي من المقرر أن تستمر رسمياً حتى 1 آذار/مارس. وتشير مصادر محلية إلى أن المرحلة الثانية من العملية الانتقالية ستبدأ خلال الأيام المقبلة، حيث من المفترض أن تقوم "هيئة تحرير الشام" بفتح العملية أمام ممثلين أكثر تنوعاً من جميع أطياف المجتمع السوري، وليس فقط للموالين لها الذين أشرفوا على المرحلة الأولى. وبالتالي، فإن الكثير على المحك بالنسبة للوفد الأمريكي الحالي والجهود الأوسع نطاقاً لواشنطن لإعادة تطوير سياسة تجاه سوريا.
"هيئة تحرير الشام" تعزز سيطرتها
في كثير من النواحي، يعكس قرار زيارة دمشق والتواصل مباشرة مع "هيئة تحرير الشام" إقراراً ضمنياً بالمرحلة الأولى من العملية الانتقالية. ولا تزال الجماعة مصنفة كمنظمة إرهابية أجنبية بموجب القانون الأمريكي، مما يخلق بعض الحرج السياسي، ولكنه لا يمنع المسؤولين الأمريكيين من العمل مع الحكومة الانتقالية الجديدة. وعلى الرغم من أن واشنطن وحلفاها فرضوا العديد من الشروط على "هيئة تحرير الشام"، إلا أن الإدارة الانتقالية في سوريا اكتسبت شرعية دولية كبيرة خلال فترة قصيرة جداً، جزئياً من خلال اجتماعات مع مسؤولين من العراق، والبحرين، وعُمان، ومصر، والإمارات، والأردن، والسعودية، وإيطاليا، وتركيا، وقطر، والأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وبريطانيا، وفرنسا، وألمانيا. ومن الجدير بالذكر أن هذا التفاعل حدث بسرعة وعلى نطاق أوسع بكثير مما حدث مع حركة طالبان في أفغانستان، وهي جماعة إرهابية أخرى تمكنت من السيطرة فجأة على دولة بأكملها.
وركز أحد أهداف "هيئة تحرير الشام" للمرحلة الأولى على التواصل مع الأمم المتحدة والمسؤولين الغربيين والدول العربية وتركيا لضمان دعمهم الأولي لعملية انتقالية بقيادة سورية. كما سارعت الجماعة إلى تعزيز سيطرتها على المؤسسات الحكومية والبدء في تنفيذ هيكلها الإداري في معظم أنحاء البلاد. وبطبيعة الحال، لا تزال "هيئة تحرير الشام" غير مسيطرة على عدة مناطق رئيسية، وهي:
- المناطق الشمالية والوسطى من محافظتي حلب والرقة، والتي تسيطر عليها مجموعة مظلة ميليشيات "الجيش الوطني السوري" المدعومة من تركيا.
- المنطقة الجنوبية من محافظة الرقة، والمنطقة الشرقية من محافظة دير الزور، ومحافظة الحسكة بأكملها، والتي تسيطر عليها "قوات سوريا الديمقراطية" ("قسد") التي يقودها الأكراد والمدعومة من الولايات المتحدة.
ومع ذلك، فقد وضعت "هيئة تحرير الشام" بالفعل بقية سوريا تحت سيطرة أجهزتها الحاكمة، مؤمنةً دعماً كافياً من الوجهاء المحليين ومجتمعات الأقليات. كما بدأت عملية واسعة النطاق لتقصي الحقائق داخل وزارات النظام السابق، ومديرياته، ومكاتبه، والنقابات المهنية، واتحادات العمال، وما إلى ذلك. والهدف المعلن لهذه العملية هو تحديد ما يجب الاستغناء عنه، ومن يجب إقالته، وما الذي يمكن أن تفعله القيادة الجديدة لتحويل نظام الامتيازات الفاسد للنظام السابق إلى نظام أكثر استحقاقاً، على غرار دولة حكومة الإنقاذ التي أنشأتها "هيئة تحرير الشام" في محافظة إدلب قبل سقوط الأسد. كما أعلنت الجماعة عن تعيين محافظين جدد لكل من المحافظات الواقعة تحت سيطرتها.
مطلوب المزيد من التفاصيل بشأن المرحلة الثانية
وفقاً لـ "هيئة تحرير الشام"، تم الآن الانتهاء من الاستعدادات لإطلاق حوار وطني شامل خلال الأيام المقبلة. ومن المفترض أن يشمل الاجتماع الأول في هذا الحوار جميع الهيئات والمجتمعات (الطوائف) السورية، بدءاً من ممثلي الجماعات السياسية وإلى شخصيات المجتمع المدني والأكاديميين والعلماء والمستقلين. وستحضر الفصائل العسكرية المتمردة أيضاً - وهو ما قد يثير القلق نظراً لأن العديد من المشاركين قد يفضلون على الأرجح ضم المدنيين فقط، ما لم يحضر الممثلين العسكريين لمناقشة إصلاح الجيش ووزارة الدفاع فقط. وأشارت "هيئة تحرير الشام" أيضاً إلى أن الحوار سيضع الأسس للمراحل اللاحقة من العملية الانتقالية وآلية إدارة شؤون الدولة بعد الأول من آذار/مارس.
وكما هو الحال مع البيانات الأخرى التي أصدرتها الجماعة خلال الأسابيع القليلة الماضية، يبدو كل هذا جيداً من حيث المبدأ. ومع ذلك، وكما هو معتاد، يكمن الشيطان في التفاصيل، التي لم يتم الكشف عن الكثير منها بعد.
وفي الواقع، ستختبر المرحلة الثانية مدى استعداد "هيئة تحرير الشام" لمشاركة سلطتها المكتسبة حديثاً مع شريحة أوسع من المجتمع. وقد كانت المرحلة الأولى إلى حد كبير بمثابة شهر عسل - وهو أمر مفهوم بالنظر إلى الدور القيادي الذي لعبته الجماعة في الإطاحة بالأسد. علاوة على ذلك، فإن توقع حصول "هيئة تحرير الشام" على جميع الإجابات على الفور هو أمر غير واقعي - فحتى قادة الجماعة أنفسهم ربما لم يصدقوا على الأرجح أنهم سيسقطون النظام في غضون عشرة أيام، مما أجبرهم على التماسك بسرعة. ومع ذلك، فإن الحوار الوطني والمناقشات المتعلقة بالمرحلة الثالثة من العملية الانتقالية سيجبران قادة "هيئة تحرير الشام" على الكشف عن نواياهم بوضوح، مما يمنح واشنطن رؤية أفضل لمعرفة ما إذا كانوا سيلتزمون بالتصريحات الأخيرة بشأن الشمولية أو سيطبقون نموذج الحكم الذي أنشأوه في إدلب، حيث احتكرت "هيئة تحرير الشام" السلطة إلى حد كبير من خلال نظام نخبوي يهيمن عليه الذكور. وقد شهدت المرحلة الأولى استمرار هذا التوجه الاحتكاري؛ أما كيفية تعامل "هيئة تحرير الشام" مع المرحلة الثانية، فستحدد ما إذا كانت "الهيئة" ستضع أسس انتقال ناجح أو ستثير ردود فعل محلية عنيفة.
أول زيارة لواشنطن وأولويات الولايات المتحدة
نظراً لقصر مدة هذه الرحلة، بإمكان المسؤولين الأمريكيين التركيز على أولويات محدودة الآن والعمل على القضايا الأكبر لاحقاً. والأولويات الأولى واضحة: يجب أن تحصل البعثة على مزيد من التفاصيل حول أماكن وجود الأمريكيين الذين اختطفهم النظام السابق وعذّبهم وسجنهم، وتقييم الوضع العام على الأرض من خلال التحدث مع جهات فاعلة أخرى فيما يتخطى "هيئة تحرير الشام". وتشير المصادر إلى أن المهمة الأولى هي الهدف الرئيسي للمبعوث الخاص خلال هذه الرحلة.
والأولوية الثانية هي توضيح مستقبل مهمة مكافحة الإرهاب الأمريكية في سوريا. ويتطلب ذلك مناقشات حول حماية القوات الأمريكية، وهي الحملة ضد تنظيم "الدولة الإسلامية"، ومصير السجون والمخيمات السورية التي تحتجز الآلاف من الأفراد المرتبطين بـ "داعش"، ودور "قوات سوريا الديمقراطية"، الشريك الرئيسي للولايات المتحدة على الأرض في مواجهة تنظيم "الدولة الإسلامية"، والقوة التي أشرفت على جميع هذه المنشآت الاحتجازية لسنوات. وكانت واشنطن تجري بالفعل محادثات مع تركيا بشأن الهجمات المستمرة "للجيش الوطني السوري" على مواقع "قوات سوريا الديمقراطية" ونوايا تركيا الأوسع نطاقاً في مرحلة بعد الأسد؛ وقد تساعد زيارة دمشق المسؤولين (الأمريكيين) على تقييم كيفية انسجام "هيئة تحرير الشام" بشكل أفضل في هذا السياق. وعلى وجه التحديد، هل ستتخذ الجماعة موقفاً مختلفاً تجاه "قوات سوريا الديمقراطية" وشمال شرق سوريا بشكل عام؟ وهل ستلعب "هيئة تحرير الشام" دوراً بناءً في محاربة تنظيم "الدولة الإسلامية"؟ على سبيل المثال، من خلال التحدث مع قادة "قوات سوريا الديمقراطية" حول دمج قواتهم التي أثبتت جدارتها في مكافحة الإرهاب في الجيش الوطني المستقبلي لسوريا؟
والأولوية الثالثة هي توضيح المعايير التي ستعتمدها واشنطن عند "تقييم" «هيئة تحرير الشام» في الأسابيع المقبلة. يجب أن يركز هذا التقييم على مدى استعداد الجماعة وقدرتها على تنفيذ عدة مهام رئيسية، وهي: الحفاظ على القانون والنظام، والحكم الشامل، والعمل مع المجتمع الدولي للتخلص من الأسلحة الكيميائية المتبقية في سوريا، ومنع الجهات الإرهابية من استخدام البلاد كمنصة لشن هجمات ضد شركاء الولايات المتحدة في المنطقة. وتشير التقارير الأولية من الاجتماع مع الجولاني إلى أنه طمأن الوفد الأمريكي بشأن قضية الإرهاب؛ وفي المقابل، أخبره المسؤولون الأمريكيون أن واشنطن لن تتابع بعد الآن المكافأة البالغة 10 ملايين دولار لمن يقتله.
وفي الوقت نفسه، يناقش أعضاء الكونغرس الأمريكي بشكل متزايد سبل تخفيف العقوبات المختلفة المفروضة على سوريا والمتعلقة بالنظام السابق. ومع ذلك، إذا استمرت "هيئة تحرير الشام" في احتكار السلطة كما فعلت في إدلب - على سبيل المثال، من خلال استخدامها قائمة محددة مسبقاً لتقييد من يشارك في عملية الحوار الوطني الوشيك - فمن المرجح أن يعتبر المشرعون الأمريكيون ذلك إشارة سلبية وسيبقون العقوبات سارية في الوقت الحالي. وحالما يعود الوفد الأمريكي من سوريا، سيكون لدى المسؤولين في الولايات المتحدة فكرة أوضح بكثير عن كيفية تطور العملية الانتقالية وما إذا كانت ستوفر فرصاً أكبر لواشنطن ودمشق للعمل معاً، ربما مع تقليل العقوبات التي تعيق هذا التعاون.
هارون واي. زيلين هو "زميل ليفي الأقدم" في معهد واشنطن ومؤلف دراسته "عصر الجهاد السياسي: دراسة «هيئة تحرير الشام»".