- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
خيارات مصر المُرة في مواجهه كورونا
في مطلع نيسان /أبريل الجاري اندلعت مظاهرات في "قرية الهياتم" بدلتا مصر اعتراضا على قرار فرض الحظر على القرية في أعقاب ظهور حالات كورونا بها، المشهد بدا مرتبكا وعبثيا، بين رغبة الأمن في التصرف بطبيعته وتفريق المظاهرة، وبين خوف الجنود من التقاط العدوى، فحدث شلل تام ووقفت القوات لا تدري ماذا تفعل. هذا المشهد العبثي هو الشبح المرعب للدولة المصرية اليوم، التي اعتادت لعقود طويلة اللجوء إلى الحلول الأمنية لمواجهة الأزمات السياسية والاجتماعية، لكن معضلة هذه الأزمة أنها ازمه "صحية" بالأساس وعليه فالتعامل الأمني المعتاد حال انفجار الوضع (لا قدر الله) غير مجدي، فضلا عن كونه شبه مستحيل.
منذ تولي مصطفي مدبولي منصب رئيس الوزراء في يونيو 2018. وهو مثله مثل أغلب رؤساء الحكومات الذين تعاقبوا على مصر بعد تحولها للنظام الجمهوري على يد جمال عبد الناصر ورفاقه في 1952، نظريا هم رؤساء حكومات، عمليا هم منفذي توجهات الرئيس (أي رئيس). لكن النقلة الدراماتيكية في رئاسة مدبولي للحكومة أتت في أذار/مارس الماضي، عندما ضربت مصر عاصفة ممطرة، تزامنت مع اختفاء رئيس الجمهورية عن المشهد تماما، مفسحا المجال لـ “مدبولي" لتصدر الصورة وإدارة الأزمة في مسلك غير معتاد من الرؤساء المصريين، وسط بحر من الشائعات عن سبب اختفاء السيسي.
إدارة رئيس الوزراء لأزمة السيول كانت جيدة وعاقلة لدرجة دفعت كثير من معارضي النظام للثناء عليه، بالطبع ظلت هناك اعتراضات وتحفظات هنا وهناك، لكن بشكل عام خلق أداء حكومته انطباع جيد إلى حد كبير، اكسب الرجل شعبية مقبولة. ومع هبوب رياح وباء كورونا على مصر، استمر "مدبولي" لفترة متصدرا المشهد، وبدأت الشائعات تكثر حول سبب اختفاء السيسي، ليظهر في 22 أذار/مارس بمناسبة الاحتفال بعيد المرأة المصرية، معلنا حزمة قرارات اقتصادية لمواجهة أزمة كورونا.
ومع الإقرار أن الوضع المصري بشكل عام سيء ولا يمكن مقارنته بالدول المتقدمة أو بالممالك الغنية، ومع التقدير التام لكون الحكومة مكبلة بإمكانياتها المحدودة، إلا أن هناك إشكاليتين أساسيتين على منحى إدارة الأزمة الذي بدأ يتجلى يوما بعد يوم، طاغيا على الصورة الأولى التي رسمت لحكومة مدبولي.
- الإشكالية الأولى: الشفافية
دأبت الأنظمة المتعاقبة في مصر على إخفاء الحقائق والمعلومات عن الشعب، لذا فقد الكثيرون ثقتهم في البيانات الحكومية. ومن ثم، وفى مواجهة تفشى هذا الوباء، يصبح من المهم جدا أن تكون هناك مصداقية للبيانات الرسمية عن الوضع الصحي والاقتصادي، وهو ما يتطلب مكاشفة تامة تتنافى مع تجاهل أسئلة بسيطة ومنطقية مثل: لماذا اختفى الرئيس كل تلك المدة؟ هل الثلاثة جنرالات الذين توفوا هم فقط المصابين بكورونا أم أن هناك إصابات أخرى داخل قيادات الجيش؟ كم جهاز تنفس صناعي تمتلكه مصر؟ ما عدد الأسرة المجهزة المتاحة؟
تكمن مشكلة انعدام الشفافية في أن أزمة كورونا هي أزمة مجتمعية، مواجهتها مستحيلة بدون الانصياع التام من المواطنين للتعليمات الوقائية الصادرة من الدولة، وهذا الانصياع لن يتم إلا بتوافر حد مقبول من الثقة في الحكومة، وغياب الشفافية أو الالتباس فيها يخلق انطباع عام أن الدولة تخفي الحقائق وتكذب علينا.
يعزز ذلك الانطباع مواقف متفرقة تحدث هنا وهناك، كتصريح المتحدث الرسمي لوزارة الصحة في مطلع أذار/مارس انه "لا توجد حالات إصابة أو اشتباه بكورونا في مصر" في الوقت الذي غزا فيها الفيروس اغلب البلدان المحيطة. أو ما حدث في "مستشفى الأورام" بالقاهرة فى مطلع أبريل الماضى، حين نفى مدير المستشفى في البداية وجود إصابات بين طاقمه، ثم عاد بعد ذلك وأقر بها. بالطبع قد يكون تصرف المدير هذا تصرف فردي، أو نابع من قناعته الشخصية وليس تعليمات عامة، لكن المؤكد أن تصرفه هذا عزز الشعور لدى المواطنين أن الدولة تخفى الحقائق عنهم.
- الإشكالية الثانية: الأولويات.
بالنظر إلى حزمة قرارات الرئيس السيسي لمواجه أزمة كورونا تكشف لنا أن الاقتصاد هو الشغل الشاغل للدولة المصرية بالمقام الأول حاليا، وهو ما يفسر لماذا استثنت الحكومة عمال المصانع وشركات المقاولات وتصوير الأعمال الفنية من قرار حظر التجوال المفروض في مصر. ومع ذلك، يبدوا أن الدولة تدعم فقط الكيانات الضخمة، وليس المشروعات المتناهية في الصغر، فمثلا حين قرر الرئيس تأجيل أقساط القروض البنكية، استثنى البنك المركزي أصحاب المشروعات المتناهية في الصغر من القرار! ليترسخ أكثر تصور تجاهل الدولة للطبقات الأفقر والأشد احتياجا للدعم الآن.
لا يمكن التهوين من مخاطر الأزمة الاقتصادية أو وضع (الاقتصاد في مقابل الإنسان) كما يطرح البعض المعادلة، لكن في نفس الوقت حين يتحدث الرئيس بعد غياب طويل عن خطة الدولة لمواجهة الأزمة التي هي بالأساس صحية، وينصب حديثه وقراراته كلها على الاقتصاد دون الإشارة ولو بجملة واحدة لخطة المواجهة الصحية، فهذا يشير إلى خلل في أولويات الدولة، خصوصا أننا إزاء نظام صحي متهالك وعجز لا يمكن إغفاله في أجهزة التنفس الصناعي، وعليه فدعم البورصة المصرية بـ 20 مليار جنيه في هذا التوقيت بدلا من توجيه تلك الأموال لشراء أجهزة طبية، يبدو تصرف غير مفهوم قد تندم عليه مصر كثيرا أن تفشى المرض بها. وقد أثار هذا غضب البعض متهمين الحكومة بالاهتمام بالاقتصاد أكثر من المواطن.
حتى الآن يبدو الوضع في مصر أقل خطورة من بلدان عدة، لكن لا يمكن اعتبار أنها بمأمن أو أن الوباء لن ينتشر بها، خاصة بالنظر إلى سلوك الجهاز الحكومي الذي لا يثق فيه المصريين بسهولة ولا يعتمدون عليه في الحصول على الدعم. وعليه يجب الاستعداد بخطة صحية واضحة - تتناسب مع إمكانياتها المحدودة بالطبع- لمواجه الفيروس حال تفشيه، وهو ما يبدو غير واضح بصورة مطمئنة حتى الآن، لذلك دعا البعض لبدء حملة شعبية لتصنيع "أجهزة تنفس صناعي" وهي محاولة تحترم بالقطع، لكن يظل الدور الأعظم في تلك المواجهة منوط بالحكومة.
المؤكد أن موقف الحكومة شديد الصعوبة، وخيراتها كلها محفوفة بالمخاطر، فمن جانب لا تستطيع تطبيق حظر كامل وخنق السوق أكثر من ذلك في دولة يعاني أغلب قاطنيها من شظف العيش، ووقف الحال لو استمر كثيرا فقد ينفجر الجميع. ومن جانب أخر لو سمحت بالتجمعات فقد يتفشى المرض وتكثر الوفيات، وفي ظل شارع محتقن (من قبل ظهور ذلك الفيروس) بفعل الأزمة الاقتصادية الخانقة، فإذا انفجر الوضع الصحي واختلط الخوف من الفيروس بالغضب من الحكومة فقد ينفلت الموقف ويتكرر ما حدث في "قرية هياتم" بطول البلاد وعرضها، مجاميع من الغاضبون وأمن لا يدري ماذا يفعل معهم.
الخيارات كلها مره، والوضع شديد الحساسية والتعقيد، الشارع المصري لا يحتمل وقف الحال لمدة طويله، ولن يحتمل أيضا وباء يحصد الأرواح، لذا فليس أمام الحكومة سوى السير بحذر وتوازن على الحبل المشدود بين النارين. وهذا يتطلب الحد الأقصى من الشفافية والوضوح، وترتيب منطقي للأولويات.