- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
رغم الحصار، تتزايد الفرص المتاحة لقطر لتطوير علاقات إقليمية أوسع
بعد مواجهات دامت نحو عامين، استمرت أزمة الخليج بين "دول الرباعية" - المملكة العربية السعودية والإمارات والبحرين ومصر – ودولة قطر في تشكيل السياسة الخارجية الخليجية. ففي أعقاب الإعلان عن مقاطعة الدوحة، حاولت دول الرباعية منذ ذلك الحين فرض "أطواق" برية وبحرية تحيط بقطر تهدف إلى قطع طرقها التجارية، وممارسة السيطرة على مياه الخليج على كلا الجانبين. وفي حين أن هذا الحصار لا يزال غير مكتمل، حاولت "دول الرباعية" فرض طوقاً جوياً على قطر إلا أن محاولاتهم باءت بالفشل بعد أن حالت منظمة الطيران المدني الدولية دون حدوث ذلك. ;كما واصل الطرفان العمل على فرض "أطواق" برية وبحرية حول الطرف الآخر ما أدى إلى إحداث تغيرات واسعة النطاق في التحالفات الإقليمية.
وفى خليج عُمان، عملت المملكة العربية السعودية على زيادة استثماراتها في ميناء "جوادر" الباكستاني، الذي أصبح يمثل محور تعاون طويل الأمد بين البلدين بين البلديين على المستويين الاقتصادي والأمني. وعلى الجانب الآخر من الخليج في مضيق باب المندب، اتجهت المملكة العربية السعودية أيضًا لإبرام اتفاقية لإنشاء قاعدة عسكرية على الأراضي الجيبوتية، وركزت الأمارات على زيادة نفوذها في اليمن مع منع قطر من استخدام موانئها، وسعت لجعل موانئ دبي الأكثر أهمية في المنطقة. وعلى الرغم من المحاولات التي تقوم بها السعودية والإمارات العربية المتحدة لتعزيز نفوذهما الاقتصادي والأمني والتجاري في المنطقة، إلا أن تلك المحاولات قد تؤثر سلبيا على سيرورة التجارة ونفوذهما السياسي والدبلوماسي في المنطقة، وقد تؤدى إلى توتر العلاقات مع جيرانها في آسيا الوسطى والقرن الأفريقي.
وحتى يتسنى لقطر مواجهة تلك الجهود التي تهدف لعزلها واستعادة توازن القوى في جميع أنحاء الخليج والمناطق المحيطة به، فمن مصلحتها أن تعمل على رفع مستوى التعاون لأعلى مستوى مع باكستان وعمان والصومال وجيبوتي. والآن وبعد أن بدى الاقتصاد القطري مستقرًا، وتم إنشاء طرق تجارية جديدة لتجنب الحصار، أصبحت قطر في وضع يتيح لها توفير بدائل أخرى لمواجهة النفوذ السعودي الإماراتي في المنطقة.
ومن ثم، فان وجود استراتيجية فعالة تساعد قطر في زيادة مشاركاتها في منطقة الخليج وتكفل لها بناء نفوذٍ تجاريٍ واقتصاديٍ وأمنيٍ وسياسيٍ بصورةٍ ضمنيةٍ لا تُثير امتعاض دول الإقليم والدول الكبرى، يمثل أولوية قصوى. وبالفعل، تشير الاستثمارات القطرية الكبيرة في الدول المذكورة أعلاه إلى مدى اهتمام قطر بتلك المناطق الإقليمية الهامة. وعلى الرغم من الجهود السعودية والإماراتية، فإن سعيهما لموازنة نفوذها قد يدفع حتى الحلفاء التقليديين مثل باكستان إلى زيادة علاقتها مع قطر. وفي ظل تصاعد التوترات بين إيران والعديد من دول الخليج، قد ترى الدول المجاورة أن الدخول في علاقات أوثق مع قطر يعتبر الوسيلة الأمثل لضمان عدم جرهم إلى بؤرة النزاع.
ربما تُعدّ باكستان الحلقة الأقوى والأهم في هذا الطوق. فهي تمتلك قوةً عسكريةً وأهميةً دبلوماسيةً هامةً في محيطها. وعلى الرغم من حجم ومتانة العلاقات بين الرياض وإسلام أباد، إلا أن الآونة الأخيرة شهدت تراجع نسبي في مستوى العلاقات السعودية ـ الباكستانية، نتيجة تغيّر الدور السعودي فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، وجراء الرغبة الباكستانية في عدم الانجرار في القطبية المذهبية السعودية ـ الإيرانية. وفي ضوء ذلك، يمكن أن تلجأ قطر لمنافسة الرياض من خلال المساهمة في تطوير مينائي "جوادر" و"كراجي"، وهو ما قد يكون موضع ترحيب أكبر مما هو متوقع. ويبدو أن مقاربة قطر قد تركز على تقديم الاستثمارات التشغيلية المديدة لباكستان وتزويدها بهبات نفطية وأسعار تفضيلية أقل من السعر السعودي. ومع ذلك، يجب أن تتجنب قطر أي تحرك قد يُفسر من قبل الحكومة الباكستانية على أنه تحركٌ معادٍ ضد علاقاتها مع دول الإقليم الأخرى، ولا بُد من رفع تركيز الخطاب الإعلامي والسياسي في إطار التعاون الاقتصادي الذي يُطوّر العلاقات مع الزمن. وفى هذا الصدد، صرح وزير التجارة القطري علي بن أحمد الكواري أن العلاقات التجارية الثنائية مع باكستان قد زادت بنسبة 230 في المئة خلال عام 2018، مما يدل على آثار التوجه نحو محور باكستان. وقد صاحب النمو الاقتصادي هذا تقديم الدعم الاقتصادي والطاقوي وزيادة المشاريع التجارية والاستثمارية متبادلة الفائدة بين قطر وباكستان فضلا عن التعاون في مجال الصناعات العسكرية.
يُمكن أيضا اعتبار عُمان شريكاً هاماً في هذا الطوق الذي يهدف إلى مواجهة الحصار السعودي الإماراتي، فخلافها التاريخي والحدودي مع الإمارات، والرهبة الأمنية العُمانية من السعودية والإمارات قد يجعلها أكثر تقبلاً للمبادرات المطروحة من جانب قطر. ومن الجدير بالذكر أن البضائع التجارية التي تصل إلى قطر يجب أن تمر عبر سلطنة عمان أولا وذلك نتيجة المقاطعة، ففي يونيو/حزيران 2017، دشنت شركة الموانئ القطرية خطا ملاحيا يربط ميناء حمد بميناء صحار في سلطنة عمان. كما يؤكد حرص سلطنة عمان الشديد الحفاظ على التوازن في علاقاتها الخارجية دون الانجرار وراء أي دولة بعينها أنها حليف فعال بالنسبة لقطر. وهناك عدة مجالات مفتوحة أمام قطر لإبرام المزيد من اتفاقيات التعاون الاقتصادي مع عُمان، وذلك من خلال توفير آليات لمنح دولة الموانئ العُمانية أهمية إقليمية ودولية من خلال زيادة الاستثمار فيها واستخدامها على نطاق عالمي.
وفى منطقة القرن الأفريقي، قد تساعد الخلافات الحادة بين الأمارات ودولة جيبوتي والصومال، قطر في توثيق علاقاتها مع كلا البلديين، فدولة جيبوتي لا تقل أهمية عن دولة عُمان وباكستان حيث تُعدّ من حيث الموقع الجغرافي والأهمية الجيواستراتيجية والعسكرية، دولة محورية تساهم في ضمان أمن التجارة في الخليج. وتكتسب جيبوتي أهميتها من خلال موقعها القريب لمضيق باب المندب وقناة السويس، كما أنها تُعد مُستقرة نسبياً مقارنة بدول القرن الأفريقي.
برز الصراع الأخير بين جيبوتي والإمارات العربية المتحدة نتيجة "حرب الموانئ" عام 2015 في عدن في اليمن، عندما حاولت الإمارات استخدام جيبوتي كقاعدة للتوغل في الجنوب. كما عزز التعاون الإماراتي العسكري والأمني مع الجهات الفاعلة الأخرى في المنطقة - مثل الصين وإيطاليا - موقع الإمارات في القرن الإفريقي، لكن جيبوتي ظلت لاعباً رئيسياً غير مطمئن لزيادة النفوذ الإماراتي. وفي المقابل، تتمتع جيبوتي بعلاقات إيجابية مع المملكة العربية السعودية، حيث لعبت الأخيرة دورًا حيويًا في التوسط بين جيبوتي وإريتريا. كما أدى الاستثمار السعودي في المنطقة إلى زيادة تطوير القواعد العسكرية الاستراتيجية، بما في ذلك إبرام شراكة مع جيبوتي لبناء قاعدة هناك في عام 2017. ومع ذلك، فإن زيادة الاستثمارات القطرية - سواء بشكل مباشر أو غير مباشر من خلال الشركات متعددة الجنسية والخاصة - يمكن أن توفر مصادر بديلة لجيبوتي من حيث الاستثمار الأجنبي.
تشابه الصومال جيبوتي من حيث خلافها الحاد مع الإمارات، لكنها تختلف معها من حيث نوعية العلاقات مع الرياض، إذ لم يصل مستوى علاقات الرياض معها -على الصعيدٍ الاقتصادي والاستثماري-إلى مستوى إنشاء قاعدة عسكرية. ومن ناحية العلاقات مع الإمارات، فإنها في أوج توترها، حيث تجاوزت أبو ظبي سيادة مقديشو مُبرمةً لاتفاقية مع صومالي لاند المُنفصلة عن مقديشو. وفي الآونة الأخيرة رسخت قناعة لدى المؤسسات الصومالية تقوم على أن التعاون الاقتصادي مع الإمارات، الذي يشمل تشغيلها للموانئ الصومالية، يأتي في إطار "حرب الموانئ" التي تقودها أبو ظبي ضد موانئ المنطقة. ومن ثم، فإن زيادة الإحباطات من مواقف الإمارات تجاه موانئ القرن الإفريقي قد تتيح آلية جديدة لزيادة التقارب مع قطر.
ومن الناحية النظرية، فإن الجهود القطرية الرامية إلى زيادة علاقاتها مع هذه الدول يمكن أن تؤدي في الواقع إلى إحباط الجهود السعودية والإماراتية التي ترمى إلى تطويق قطر. ومع ذلك، تمثل كلا من باكستان وجيبوتي التحدي الأكبر أمام قطر لبناء أطواق بحرية وبرية، حيث تمتلك الرياض وإسلام أباد على وجه الخصوص تاريخًا قويًا من التعاون العسكري والاقتصادي.
ومع ذلك، فإن الجهود السعودية المبذولة للتقارب مع هاتين الدولتين تعتبر سببا قويا يدعو قطر لبذل المزيد من الجهود للتقارب مع معهما مستغلة تراجع علاقاتهما مع دولة الإمارات التي تلعب دورا أساسيا في تفعيل الحصار ضد قطر بالتعاون مع السعودية. وعلى الرغم من أن قطر قد نجحت نوعا ما في توفير بدائل بحرية وجوية تساهم بشكل كبير في تخفيف الحصار المفروض عليها، إلا أن استراتيجية إنشاء أطواق بحرية وبرية يجب في نهاية المطاف أن تحظى بالأولوية القصوى من قبلها وهو ما قد يساهم في توفير ببيئة تجارية أكثر استقرارًا وتوازنًا لجميع الأطراف المعنية.