- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
التحوَّل السلمي في السودان: ألغام منتصف الطريق
"لن نعود من منتصف الطريق"، تغريده أطلقها رئيس حزب " المؤتمر السوداني" المعارض، عمر الدقير، في إشارة إلى موجة الاحتجاجات التي اندلعت ضد الرئيس السابع للسودان عمر البشير الذي حكم البلاد بالحديد والنار لعدة عقود.
وخلال الأشهر التي تلت تصريح الدقير، أصبح هذا التصريح بمثابة قوة دافعة لأعضاء حزب المؤتمر المعارض، وعلى رغم من حداثته إلا انه يتميز بالشراسة نسبةً لغلبة العناصر الشبابية بين عضويته. والحزب أحد عشرات الأحزاب والمؤسسات السياسية التي تشكل تحالفاً باسم " الحرية والتغيير". وقد مثل تصريح الدقير انعكاساً للمشاعر الشعبية التي عبر عنها الطالب الجامعي عبد العظيم أبوبكر على حائطه في الفيسبوك "، قال فيها " قد تعبنا يا صديقي ولكن كيف نستلقي والمعركة مستمرة؟". وتشاء الأقدار أن تدفع بقائل الجملة الأخيرة إلى الموت ضمن عشرات القتلى الذين لقو حتفهم خلال الاحتجاجات.
على الرغم من أن السودانيين نجحوا في الإطاحة برئيسين يمثلان نظاماً اسلامياً متطرفاً ومتعنتاً وشرساً، حيث أسقطوا البشير بعد ثلاثين عاماً وأسقطوا نائبه الفريق أول عوض ابن نعوف بعد يوم من إسقاط البشير، إلا انهم مازالوا في منتصف الطريق، ولا تزال أذرع المنظومة الإسلامية باقيةً تلتف بنصالها الحادة محاولة قمع وإحباط الثورة.
إن أول التحديات التي يواجهها التحول الديمقراطي السلمي في السودان تتمثل في الطابع الإسلامي للحكومة السودانية، فعبر سياسة تمكين امتدت ثلاثين عاماً من تولى الإسلاميين الحكم، حيث قاموا بفصل عشرات الآلاف من الموظفين والعاملين من وظائفهم الحكومية، وإحلالهم بموظفين موالين من الإسلاميين في الخدمة العامة. وقد مكنت تلك السياسة الإسلاميين من الإمساك بكل مفاصل الدولة ومؤسساتها. بالإضافة إلى الإيديولوجية الإسلامية التي تبناها النظام، تقف الطبيعة المتصدعة واللامركزية للسلطة السياسية في البلاد حائلا أمام إقامة حكومة ديمقراطية في السودان.
لم يكتف الإسلاميون بالسيطرة على أجهزة الدولة، بل أسَّسوا دولةُ موازية، لها أجنحة أمنية تكونت من مليشيات غير رسمية، عمادها من المدنيين وتتكون تلك الأذرع من مثلث يضم الدفاع الشعبي كقوة موازية للجيش، و الأمن الشعبي، كمؤسسة أمنية غامضة موازية لجهاز الأمن والمخابرات، والشرطة الشعبية وهي وحدات عسكرية موازية للشرطة الرسمية. وتتطابق أضلاع المثلث في تعبئة عناصرها بعقيدة قتالية دينية، متشددة، قائمة على دعوة الجهاد، ومتغذية من شعار ديني يقول " فلنعد للدين مجده، أو ترق منهم دماء، أو ترق منا دماء، أو ترق كل الدماء".
تعمل هذه الميليشيات المؤثرة على نطاق قومي ولها تاريخ طويل من العنف، حيث سبق و أن اتهمت محكمة الجنايات الدولية في عام 2007 القائد علي كوشيب، أحد قادة الدفاع الشعبي في دارفور، بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في الإقليم المضطرب. وتقدر مصادر أعداد قوات الدفاع الشعبي التي حاربت في جنوب السودان تحت شعار " الجهاد" بحوالي (90) ألفاً، بينها (10) آلاف عاملين و(80) ألفاً في الاحتياط.
وعلى الرغم من أن عمل الأمن الشعبي غالبا ما يكون محاط بسرية كبيرة، إلا أنه يستخدم أيضًا كأداة ضد خصوم النظام، حيث أسس الإسلاميون الأمن الشعبي على بقايا خلايا جهاز سري، كان يطلقون عليه قبل استيلائهم على السلطة الأمن الخاص، ويتكون من وحدات سرية داخل التنظيم مهمتها جمع المعلومات ومتابعة خصوم الإسلاميين ومراقبتهم، ولا تستثنى المراقبة أعضاء التنظيم. وبعد الاستيلاء على السلطة في يونيو 1989 حولوا ذات الكيان إلى جهاز يتبع للتنظيم الذي يدير الدولة، ويقوم بمهام في كثير من الأحيان تكون من وراء ظهر جهاز الأمن الرسمي.
ووفقًا لبعض التقارير، تورطت هذه الميليشيات الإسلامية، التي غالبًا ما يديرها المجاهدين، في اغتيالات المتظاهرين في أيلول/سبتمبر 2013، فخلال موجة الاحتجاجات الحالية التي بدأت في كانون الأول/ديسمبر 2018، كان واضحا أن الجهاز الإسلامي سيشكل خطراً على موجة الاحتجاجات المدنية العامة. فمع بداية الاحتجاجات، هدد نائب البشير الأسبق علي عثمان محمد طه المحتجين بتحريك كتائب الظل الخفية للدفاع عن مشروع الدولة الدينية في السودان، وقد فهم هذا من قبل الكثيرين على أنه تهديد بقتل المزيد من المحتجين، وتتهم تلك القوات بالتورط في ارتكاب عمليات قتل بواسطة قناصة محترفين خلال التظاهرات الشعبية، حيث التقط المتظاهرون بعض الفيديوهات لبعض السيارات بلا لوحات، على متنها عناصر قتالية ملثمة الوجوه، وهي العناصر المتهمة بتنفيذ عمليات اغتيالات متظاهرين في الشوارع، وبلغ عدد القتلى (90) قتيلاً، خلال الشهور الخمسة الماضية. وكتائب الظل، ليست مجموعة ظاهرة، وإنما أفراد يتسترون وراء وظائف في الخدمة المدنية، ووراء لافتات شركات خاصة ومنظمات طوعية دينية، ويمثل هؤلاء الموظفون الجنود الحقيقيون للكتائب عندما يستدعيهم قادتهم عند أوقات الطوارئ.
اكتسبت قوات الدعم السريع وقائدها ثقة البشير، وذلك بعد أن اضطرت الحكومة السودانية مع بداية التمرد في دارفور إلى توظيف مليشيات قبلية في الحرب ضد المتمردين. وتقدر أعداد قوات الدعم السريع بحوالي (50) ألفاً من المقاتلين في كل أنحاء السودان. ومع مرور الوقت تمددت القوات القبلية وبدأت تلعب أدواراً إقليمية بنشر وحدات تقدر بحوالي (٦) ألفاً من القوات في اليمن بعد ترك البشير، الحلف الإيراني وانضمامه إلى الحلف السعودي الإماراتي.
وعلى الرغم من انحياز قوات الدعم السريع للمتظاهرين ومساعداتهم في عملية الإطاحة بالبشير، إلا أنها تحولت إلى سلطة متمددة، وبقيت دولة داخل دولة، فخلفية قائدها وتأثيره فرضت وضعاُ جديداً ومعقداً.
وفى حين انه لم يتم توجيه الاتهام إلى حميداتي من قبل أي جهة قضائية بتهمة ارتكاب جرائم حرب في دارفور، ولم يكن اسمه ضمن القوائم التي أعلنت عنها واشنطن والتي تضم متهمين في جرائم حرب ضد الإنسانية، تم تعيين حميداتى نائباً لرئيس المجلس الانتقالي في نيسان/أبريل الماضي، وأصبح يشرف بنفسه على معالجة الأزمات الاقتصادية مثل الوقود والسيولة في المصارف. وفى هذا الصدد، أعلن حمديتى أن قوات الدعم السريع قد ساهمت في سد الاحتياجات المالية للبلاد، وأشار إلى أنها دفعت أكثر من مليار مليون دولار لوزارة المالية وبنك السودان.
وسياسيا، أصبح قائد قوات الدعم السريع يتلقى الوفود الدبلوماسية من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية ووفود المعارضة السودانية. كما تشكل قواته ذات الاستقلالية العالية هاجساً كبيراً يعتبره البعض أشبه بحالة حزب الله في لبنان بقيادة حسن نصر الله، فقوات حميدتي التي كانت مليشيات قبلية تم إلحاقها بجهاز الأمن والمخابرات، ثم إلى الجيش، ظلت وحدات مستقلة تتحرك بتعليماته هو لا بتعليمات قادة الجيش الرسمي.
ويتفق كثير من المراقبين للشأن السوداني على أن الدولة المختطفة والموازية لها، ستظلان ألغاماً مزروعةُ في قلب طريق التغيير، وستعيق انتقال السلطة السلمي بسلاسة، وكأن الغرض من إنشائها أصلاً إضعاف المؤسسات الرسمية وتقوية الأجهزة الموازية. لذلك، إن لم تقف اليوم في طريق مفاوضي قوى الحرية والتغيير، فأنها ستظل مهدداً مستمراً لاستقرار الدولة السودانية لا سيما في بلدٍ مترامي الأطراف وتحده دولةً مضطربةً مثل ليبيا وتنشط فيها الجماعات الإسلامية المتطرفة مثل الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش".
وحتى يتسنى للشعب السوداني تخطى تلك التحديات، تحتاج البلاد إلى عملية انتقال سلمي متدرج بشراكة ذكية مع الجيش في إدارة المرحلة الانتقالية للحفاظ على الأمن، وتفادي ترك فراغ أمني، قد يقود إلى انزلاق السودان في فوضى، حال ضعف الجيش، أو تواطؤه مع الدولة الموازية أو انشقاقه، وفي مثل هذه الحالة سوف يستنسخ السودانيون تجارب ليبيا واليمن وسوريا. ومع ذلك، يظل هذا السيناريو قابلاً للتحقق على ضوء إهمال معظم القادة السياسيين خطورة الأوضاع الأمنية، في وقت يسود فيه التناحر فيما بينهم ويتصارعون، حول أجندة ومؤسسات الفترة الانتقالية وإدارتها.
إن تعقيدات الأوضاع وحساسيتها تتطلب من السودانيين الإسراع في الدخول في ترتيبات الفترة الانتقالية، وبناء مؤسسات حكم مدني متينة، تشكل جسراً لنقل البلاد من ضفة الاستبداد إلى ضفة الديمقراطية والسلام. كما يجب أن تتضمن مراحل الانتقال خطةً لحل المليشيات الموروثة من النظام القديم وتجريدها من السلاح، وإعادة تـأهيل عناصرها في الحياة المدنية، ودمج قوات الدعم السريع في الجيش السوداني جنباً إلى جنب مع قوات الحركات المسلحة وفق جدولٍ زمني ينتهي مع انتهاء المرحلة الانتقالية.
وبالطبع، سيكون تحقيق تلك أهداف المرحلة الانتقالية ليس باليسير، فصعوبة المهمة تتطلب تعاوناً اقليمياً ودولياً في تسهيل عملية الانتقال بسلاسة، بدءً بالمساعدة في التوصل لاتفاق سلام مع المتمردين، ثم تقديم العون الفني والمادي للشركاء السودانيين بما يساعد في تحقيق الاستقرار والسيطرة على مليشيات الدولة الموازية من جهة، واحتواء محاولات تحول المليشيات الى جماعات إرهابية، لا سيما في وجود رموز دينية متطرفة ظلت مرتبطة بالسلطة لمدة ثلاثين عاماً.