- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
رؤى استطلاعية حول ثورة الشيعة في العراق
يشهد العراق احتجاجات تهز صميم نظامه السياسي. فقد فاجأت الاحتجاجات المنتشرة في أرجاء البلاد والتي بدأت في 1 تشرين الأول/أكتوبر 2019 العالم بنطاقها وحجمها والرد العنيف الذي واجهه المتظاهرون المسالمون بأغلبيتهم. ولعل أكثر ما يثير الدهشة هو تركيبة هؤلاء المتظاهرين الذين يتألفون بأغلبيتهم من شيعة العراق المعارضين لحكومة بلادهم ذات الأكثرية الشيعية. أثارت هذه الاحتجاجات الجارية سؤالًا مهمًا: لماذا انقلب الكثيرون من شيعة العراق على حكومة تمثلهم بظاهرها؟
للإجابة على هذا السؤال، لا بدّ للمرء أولًا من أن يفكر في ما ينتظره المواطنون من الحكومة. يُنتظر من الحكومات أن تساعد في تأمين الاحتياجات الثلاثة الأولى لمواطنيها: الأمن والعيش الكريم والشعور بالأهمية. وتشكل هذه الأخيرة، أي الشعور بالأهمية"، حاجة الأفراد إلى الشعور بأن الحكومة تهتم لهم وتقدّرهم. وكلما ترسخ في فكر المرء أن حكومته لا تقدم هذه العناصر الأساسية الثلاثة بالمستوى المطلوب، فقد يزداد الناس سخطًا وغضبًا.
فقد شيعة العراق ثقتهم بحكومتهم لأنها فشلت في تلبية احتياجاتهم الأساسية في أي من هذه المجالات الثلاث. كان من المفترض بعد سقوط صدام حسين ونشأة نموذج الحكم الجديد ذي الغالبية الشيعية، أن يتحسن وضع العراقيين الشيعة إلى حد كبير. وقد توقع الشيعة باعتبارهم الأغلبية في دولة العراق الحديثة بأن من المنطقي أن يحظوا بكلمة الفصل في الإدارة العراقية، بدلًا من سيطرة المجتمع العربي السني التاريخية على العراق .وقد كان هذا هو الوضع السائد منذ العصر العثماني. وبالتالي عندما سقط حكم صدام حسين، توقع العراقيون الشيعة نهاية منتظرة منذ وقت طويل للهيمنة السنية ورأيًا أكثر في السياسات العراقية.
ويضاف إلى هذه التوقعات أن الكثيرين من الشباب الشيعة حاربوا تنظيم "الدولة الإسلامية" عندما هدد بالسيطرة على بغداد في العام 2014، وذلك عبر ميليشيات شيعية أدّت في النهاية دورًا محوريًا في هزيمة التنظيم كقوة قتالية تم الاعتراف بها رسمياً في العراق. وبسبب التضحيات التي قدمها الكثيرون من الشيعة من أجل التخلص من الكارثة الداعشية، توقعوا أن تتحسن أحوالهم المعيشية وأوضاعهم في المجتمع العراقي. ولكن لم تحقق الحكومة أياً من هذه التوقعات.
وبالتالي، فقد الشيعة، وكذلك الأكراد ولو بدرجة أقل، الأمل في الحصول على دولة عراقية جديدة ديمقراطية تجسد أصواتهم السياسية أو تحسن مستوى معيشتهم بطرق ملموسة. ولكن بدلًا من تأسيس هذا العراق المنشود، اعتمد النظام السياسي ذو الأغلبية الشيعية الجديد نظامًا سياسيًا ينخره الفساد لا يراعي المواطن العراقي العادي ولا يستطيع تأمين خدمات أساسية مثل المياه النظيفة والكهرباء، فضلًا عن التعليم والرعاية الصحية. ويضاف إلى هذه الخيبات الواقع الاقتصادي العائم بالفوضى والبطالة المنتشرة في كل مكان وبضمنهم الشباب الشيعة.
لم تحدث هذه الظروف بين ليلة وضحاها. وبتدهور الأوضاع، ازدادت مشاعر الإحباط والغضب على مرّ الوقت. ويظهر هذا بوضوح في استطلاعات الرأي التي أجرتها الشركة المستقلة للبحوث في العراق، وهي شركة استطلاع عراقية معروفة. ففي حين عبّر 58 بالمئة من العراقيين الشيعة في العام 2012 عن ثقتهم بأن الحكومة العراقية ستحسن الأوضاع في البلاد، قلت النسبة الى 40 في المئة من الشيعة في العام 2018. وفي المقابل، وبعد أن كان 35 بالمئة فقط من السنة يعتقد أن بإمكان الحكومة تحسين أوضاعهم في العام 2012، أرتفعت هذه النسبة في الواقع إلى 50 في المئة في العام 2018. تؤكد هذه الأرقام أن التشاؤم ازداد بين العراقيين الشيعة تجاه النظام السياسي الذي وعد بالكثير ولم يقدّم سوى القليل، في حين أصبح العراقيون السنّة أكثر تفاؤلًا بعد هزيمة "داعش".
وما يشير بوضوح أيضًا إلى المشاعر العامة هو مستوى الرضى عن الحياة بحسب إفادات شخصية. فبعد الغزو الأمريكي عام 2003، لم يكن العراقيون، الشيعة والسنة على حدّ سواء، راضين عن حياتهم، ولكن بحلول العام 2005، أفاد الشيعة بنسبة 66 في المئة بأنهم سعداء بحياتهم في حين كان 60 في المئة من السنة يشعرون بذلك. استمرت هذه النسب بالازدياد. ففي العام 2009، كان الشيعة بنسبة 81 في المئة راضين عن حياتهم وأعرب السنة بنسبة 65 في المئة عن حياة سعيدة. ولكن الوضع انقلب منذ ذلك الحين. ففي العام 2018، عندما سئل الشيعة عن رأيهم، أفادوا بنسبة 65 في المئة بأنهم سعداء بحياتهم وهو تراجع كبير مقارنة بما كانت عليه في العام 2005، وأفاد السنة بنسبة 75 في المئة بأنهم سعداء في حياتهم. يثبت هذا السؤال أن الشيعة أصبحوا أكثر إحباطاً وتشاؤماً مما كانوا عليه أثناء الانتخابات الديمقراطية العراقية الأولى.
أن ما يزيد من عدم الرضا عن الحياة بين شيعة العراق هو الوضع الاقتصادي والسياسي الصعب الذي يواجهونه. ففي العام 2004، ما كان يهم الناس بالدرجة الأولى هو الأمن والبنية التحتية والبطالة، وبهذا الترتيب. وخلال ذلك العام، أفادالشيعة بنسبة 72 في المئة بأن الوضع الأمني أكثر ما يشغلهم. لكن الحال تغير كثيرا حيث تبين أن الفساد هو أكبر المشاغل في العام 2019، وهو ما أفاد به 47 بالمئة من الشيعة، تليها نسبة 32 في المئة تشير إلى أن البطالة هي الشاغل الرئيسي،ونسبة 21 في المئة قالوا بأن الوضع الأمني يشكّل أكبر مخاوفهم. ومع تلاشي الخطرالذي شكله تنظيم "الدولة الإسلامية" ("داعش") خلال العامين 2014 و2015، يزداد سخط العراقيين الآن تجاه عجز النظام السياسي عن تأمين حكم نزيه أو وظائف مناسبة.
لقد أثّرت الأحداث السابقة بشكل كبير على تنامي المظاهرات الاحتجاجية. وما يزيد حدة غضب الشيعة تجاه حكومتهم هو الرد العنيف الذي واجهه المحتجون السلميون في شوارع المدن العراقية. فمنذ أن بدأت الاحتجاجات في شهر تشرين الأول/أكتوبر، قتلت الحكومة والقوات المؤيدة لها أكثر من 300 محتج، في حين أصيب أكثر من عشرة ألف محتج. وتعرض المحتجون في الغالب للعنف القمعي والهادف إلى ترويع الناس من النزول إلى الشوارع. وتزداد مشاعر الغضب تجاه الحكومة حدة بسبب انتشار قناصين يطلقون الرصاص الحيّ على متظاهرين لا يشكلون تهديداً على الحكومة أو المدنيين. تدفع هذه القوة الجائرة المزيد من العراقيين إلى النزول إلى الشوارع بوجه حكومة لا تحترمهم ولم تعد تمثلهم برأيهم.
ويستهدف الغضب الشعبي في الشارع الشيعي إيران أيضًا. يزداد شيعة العراق اعتقاداً بأن إيران تتدخل بالسياسة العراقية بما يخدم مصلحتها. وعلاوةً على ذلك، يرون أن إيران تدعم الحكومة العراقية الحالية والحملة العنيفة على المجموعات المعارضة. هذا وأدت الميليشيات الشيعية العراقية المدعومة من إيران دورًا محوريًا في العنف الذي تمت ممارسته ضد المتظاهرين وباتت تشكل الآن الجهة الأشد دعما ًللحكومة العراقية الحالية. ولكن هذا ليس بجديد، فقد ازدادت الآراء المناهضة لإيران إلى حد كبير في السنوات الخمس الفائتة. ففي العام 2014، أيّد العراقيون الشيعة إيران بنسبة 86 في المئة، في حين انخفضت هذه النسبة في العام 2019 إلى 41 في المئة فقط.
ما هي مطالب شيعة العراق إذًا؟ لا يطالب هؤلاء المحتجون بوقف العنف تجاههم واستقالة الحكومة الحالية فحسب، بل يريدون أيضًا تغيير هيكل النظام السياسي. ففي حين صُمم النظام السياسي في العراق ما بعد 2003 بشكل يجعله شاملا لكى لا يترك أي مجموعات فرعية محتملة متضررة من السياسة، إلا أن الحكومات التي تأسست بعد ذلك أدت الى شلل سياسي كامل وشجعت شبكات المحسوبيات والفساد التي باتت منتشرة في العراق.
وقد استخدم البرلمانيون مقاعدهم للاستفادة من خزائن الدولة وتعزيز قوتهم السياسية وإثراء أنفسهم. هذا التصرف الشائن بين أعضاء الطبقة السياسية العراقية الحالية هو ما يؤجج غضب مواطني العراق تجاه السياسيين.
أن الأمر يتطلب شجاعة كبيرة وتركيز أقوى على الوحدة الوطنية بين الجهات السياسية العراقية لتجنب حدوث كارثة في البلاد. ما لم يحدث هذا، من غير المستبعد أن يدفع الغضب بين أغلبية أبناء الطائفة الشيعية في العراق إلى اللجوء إلى وسائل متطرفة لتصحيح الوضع السياسي الواهي في البلاد. وكما تبين في السابق، لن تنصب زعزعة الأوضاع في العراق في مصلحة العراقيين أو المنطقة أو الولايات المتحدة.