- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
استثمار روسيا في سوريا لا يزال يؤتي ثماره
حتى قبل الانسحاب المعلن من سوريا، شجّع عدم استعداد الولايات المتحدة والغرب الطويل الأمد للانخراط بجديّة في الحرب، روسيا على ترسيخ حضورها العسكري هناك. وقد بات لروسيا الآن عدد من القواعد العسكرية الآمنة في أنحاء البلاد، إلى جانب تمتّعها بالنفاذ إلى المطارات وإمكانية استخدام قواعد الجيش السوري كمنصات لشنّ هجمات.
وتُعتبر سوريا الركيزة الأساسية لمساعي روسيا إلى رسم معالم المنطقة وفق صورتها الخاصة من خلال التغلغل في أجهزتها الاقتصادية والعسكرية. ويوازي تمتين نفوذ روسيا في سوريا جهودها للتأثير على دول عربية أخرى، بما في ذلك في ليبيا ومصر، وحتى محاولاتها للتعاون مع السعودية مؤخرًا.
ورغم أن بوتين، على غرار ترامب، أعلن سلسلة "انسحابات" عسكرية من سوريا، إلا أن التقارير الاستخباراتية العالمية تشير إلى أن أكثر من 20 ألف عنصر تابع للقوات البحرية والبرية والجوية الروسية، إلى جانب عناصر من الشرطة لا يزالون في سوريا – وهو رقم يتخطى بكثير أحدث رقم أعلنت عنه وزارة الدفاع الروسية عند 6 آلاف في 2017. وقد منحتها الحملة التي شنتها في سوريا خبرة قتالية لا تقدّر بثمن تسمح لها بتحسين قدرات قواتها العسكرية. علاوةً على ذلك، توفّر سوريا سبيلًا يتيح لروسيا اختبار أسلحة مطوّرة بتكنولوجيا جديدة ومدى فعاليتها وكفاءتها في المعارك الفعلية. وخلال مقابلة تلفزيونية عُرضت في 7 حزيران/يونيو 2018، ادّعى بوتين بنفسه أن الحرب في سوريا هي أفضل تدريب للجنود الروس، حيث قال "إن استخدام قواتنا المسلحة في ظروف قتالية هو تجربة فريدة وأداة مميزة لتحسينها".
كذلك، اختبرت روسيا جميع أسلحتها الحديثة والتكنولوجيا العسكرية خلال محاربة المعارضة السورية والمنظمات الإرهابية. قال بوتين "عندما بدأنا باستخدام هذه الأسلحة الحديثة، بما فيها الصواريخ، توجّهت فرق كاملة من شركات قطاع الدفاع لدينا إلى سوريا، وعملت هناك على الأرض – وهذا مهم جدًا بالنسبة لنا – لإضفاء اللمسات الأخيرة عليها ومعرفة ما الذي يمكننا التعويل عليه عند استخدامها في المعارك". وبالتالي، تسلّط الطبيعة الراسخة للقواعد العسكرية الروسية في سوريا الضوء على أنه حتى في وقت استعاد فيه الأسد أراضٍ مهمة وشاسعة، يعتزم الجيش الروسي الحفاظ على وجود عسكري مهم في البلاد في المستقبل المنظور.
وتشدّد قدرات القواعد العسكرية الروسية في سوريا على هذا الواقع. فعلى سبيل المثال، تمّ إنشاء قاعدة "حميميم" الجوية من خلال اتفاق رسمي مع الحكومة السورية في آب/أغسطس 2015 وهي تقع جنوب-شرق مدينة اللاذقية شمال سوريا، وقد تمّ تحويلها إلى مركز عسكري دائم أواخر العام 2017. وتحيط بها ثكنات القوات البرية الروسية ضمن دائرة عمقها 70 كلم، أكبرها في منطقة سلمى ومنطقتيْ جبل التركمان وجبل الأكراد.
كما تشمل القاعدة مركزًا ضخمًا لجمع المعلومات الاستخباراتية ومركز تنسيق لتنظيم المنظمات غير الإرهابية؟؟ وعلى بعد 50 كيلومترًا فقط، تقع المنشأة البحرية الروسية في مرفأ طرطوس، التي تزوّد السفن العسكرية الروسية في البحر الأبيض المتوسط بالإمدادات، وتدير عمليات التواصل والتجسس ومراقبة المنطقة الواقعة شرق المتوسط.
ويمتّد نفاذ روسيا في مختلف أنحاء الأراضي التي يسيطر عليها الأسد، بما في ذلك قاعدة مطار كويرس ومطار حماة العسكري في ريف حلب، وقاعدة تدمر في ريف حمص الشرقي والكثير غيرها من القواعد البرية والجوية سواء المبنية أو التي لا تزال قيد التشييد. ويثبت نموذج قاعدة الشعيرات نوع القوة التي يمكن لهذه الهيكليات أن تضمنها؛ فإذ تقع في ريف حمص، تتمثّل مهمة قاعدة الشعيرات الجوية في ضمان أمن الوجود الروسي وسط سوريا. وقد ثُبتت على مدخلي المطار صواريخ دفاع جوي من نوع "سام 6". وتُعتبر هذه القاعدة العسكرية الأكثر فعالية في المنطقة الوسطى وتضمّ أهم معسكر تدريبي، إلى جانب أكبر التدريبات على الأسلحة الثقيلة والمتوسطة. واستُخدمت قاعدة الشعيرات كمنصة لإطلاق غارات جوية استهدفت مواقع في حمص وحماة وإدلب – وهي بالتالي مسؤولة عن المجازر المرتكبة في حمص وإدلب. وناهيك عن الضباط الروس، تفيد مصادر المعارضة السورية أن ضباطًا إيرانيين يتواجدون فيها أيضًا. ورغم أن الجيش الأمريكي استخدم 59 صاروخًا من نوع "توماهوك" بأمر من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ردًا على مجزرة خان شيخون التي ارتكبها نظام الأسد حيث استخدم الأسلحة الكيماوية في نيسان/أبريل 2017، تبقى الشعيرات مركزًا استراتيجيًا رئيسيًا للعمليات الروسية في سوريا.
وتسهّل القواعد العسكرية الروسية أيضًا استعراض الجيش الروسي لأسلحته على المسرح السوري. فخلال الأشهر القليلة الماضية، أصبح احتمال إقدام تركيا والسعودية على شراء التكنولوجيا العسكرية الروسية مصدر قلق جديًا بالنسبة لسياسة الولايات المتحدة الخارجية. وفي حين تلعب عدد من العوامل دورًا في شراء هذه الأسلحة، استخدمت القوات الروسية سوريا كمنصة دعائية لفعالية هذه الأسلحة، علمًا بأن بوتين أشار إلى أن القوات الروسية استخدمت حوالي 215 نوعًا جديدًا من أنظمة الأسلحة المتقدمة في سوريا، بما فيها صواريخ متقدمة على غرار "كاليبر" – وهي الأسلحة الأدقّ في العالم والقادرة على ضرب هدف يبعد 2500 كيلومتر وبدقة 30 مترًا – وصواريخ "إكس-101" الأقل شهرةً. وقد نشرت القوات الروسية عددًا من التكنولوجيات الجديدة المستخدمة في المعارك للمرة الأولى، على غرار الطائرات الاستراتيجية بدون طيار، ونظام "إس-400" ونظام "بانتسير" الجوي، وطائرة "ميكويان ميج-29 كيه" التي تعمل من على متن سفينة. فضلًا عن ذلك، قدّمت الحرب في سوريا ساعات تدريب للطيارين الروس وسمحت للجيش باختبار كفاءة قوات التدخل السريع الروسية.
وفي آذار/مارس 2018، أعلن وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو أننا "اختبرنا 210 أسلحة وقمنا بتجربتها بالتعاون مع السوريين في ساحة المعركة. ما اختبرناه، والملاحظات، والإضافات - كل ذلك، أنا واثق من أنه في المستقبل سيخلّص حياة من سيستخدم هذه الأسلحة". علاوةً على ذلك، ألهمت سوريا مصنعي الأسلحة على استحداث أنواع جديدة خلال الحرب تناسب طبيعة الأرض السورية. من جهته، أقر رئيس "اللجنة العلمية العسكرية" إيغور ماكوشييف أنه تمّ تغيير تصاميم إنتاج أكثر من 200 نوع من الأسلحة الجديدة بعد اختبارها في الصراع السوري. ونتيجةً لذلك، تُعتبر الأسلحة الروسية الحديثة، التي يختبرها الجيش الروسي في المعارك الدائرة داخل سوريا، خطيرةً جدًا على مصالح أمريكا وتفوّقها العسكري.
تجدر الملاحظة أن سياسة الولايات المتحدة في سوريا هي هيكلية آخذة في التطور، لكن يبدو أنها لا تزال تتمحور حول ثلاثة أهداف أساسية: مواصلة تدمير "داعش"، ودفع إيران لمغادرة سوريا، وتشجيع انتهاء الحرب الأهلية السورية من خلال المناقشات الجارية مع الأمم المتحدة. وفي إطار المسألة الأخيرة، تبذل الولايات المتحدة جهودًا مستمرة لإقامة منطقة آمنة في الأراضي الخاضعة لسيطرة الأكراد شمالي شرقي البلاد. غير أن روسيا ستسعى على الأرجح إلى عرقلة هذه الأهداف، حتى تلك التي صرّحت علنًا بأنها تدعهما. فلنأخذ على سبيل المثال خطاب روسيا عن "داعش" بالمقارنة مع أفعالها: رغم أن موسكو قالت بأن تدخلها في سوريا يهدف إلى القضاء على الإرهاب، إلا أنها هاجمت باستمرار الحملة التي شنّها التحالف بقيادة الولايات المتحدة ضد "داعش". وصحيح أن روسيا وافقت على قرار "مجلس الأمن الدولي" التابع للأمم المتحدة رقم 2170 حول مكافحة الإرهاب، لكنها زعمت أن الجهود الدولية المبذولة تنتهك سيادة سوريا، مشككةً في أهداف التحالف الدولي وشرعية الضربات التي يوجّهها إلى قواعد المنظمة الإرهابية في سوريا، ويُعزى ذلك جزئيًا إلى قربها من قاعدة طرطوس العسكرية التابعة لروسيا. وفي حين قد تكون روسيا ضربت بعض مواقع "داعش"، إلا أنها وجّهت الجزء الأكبر من ضرباتها العسكرية إلى "الجيش السوري الحر" في خضم حمايتها نظام بشار الأسد من السقوط.
فضلًا عن ذلك، ورغم أن الجيشين الأمريكي والروسي وضعا خطوطًا ساخنة لمنع التداخل الجوي ورغم أن العلاقات بين الضباط الأفراد بقيت وطيدة، للقوات الجوية الروسية تاريخ في اختبار الطائرات الأمريكية لتحديد نوع رد فعل البنتاغون. كما أن روسيا، إلى جانب "حزب الله" ونظام الأسد، أبرموا في الواقع اتفاقًا مع "داعش" لنقل 300 من مقاتلي التنظيم من الحدود السورية-اللبنانية إلى مدينة دير الزور، حيث كانت القوات الأمريكية وحلفاؤها الأكراد يتمركزون.
ولم تكن المرة الوحيدة التي استهدفت فيها روسيا التعاون الأمريكي-الكردي ضد "داعش". في الواقع، لطالما حضت روسيا الأكراد على إنهاء التعاون مع الولايات المتحدة. ففي إحدى المرات، عقد الجيش الروسي اجتماعات مع قادة "حزب الاتحاد الديمقراطي" في قاعدة "حميميم" في أيلول/سبتمبر 2017. وحين رفض الأكراد، هدّدت روسيا بأنها ستسمح لتركيا بضربهم في عفرين، وسحبت قواتها من المنطقة عقابًا لرفض الأكراد مطالبها.
كما هاجمت ميليشيات موالية للأسد ومرتزقة روس بما فيها "مجموعة واغنر"، وهي سرية غالبًا ما يلجأ إليها الكرملين لتنفيذ أهداف لا يريد المسؤولون ربطها بالحكومة الروسية، القوات الكردية لوقف الحرب ضد "داعش"، ولأن بوتين غضب من سيطرة القوات الكردية والبنتاغون على آبار النفط والغاز في دير الزور. وفي شباط/فبراير 2018، هاجم نحو 500 عنصر من القوات الحكومية السورية والمرتزقة الروس جنودًا أمريكيين على الأرض و"قوات سوريا الديمقراطية" في مركز ترابي صغير يقع إلى جانب معمل غاز كونوكو بالقرب من مدينة دير الزور. وأنكرت القوات الحكومية الروسية في سوريا تورطها في المعركة. غير أن المسؤولين العسكريين الأمريكيين أكّدوا أنها عطلت وسائل اتصال طائرات أمريكية بدون طيار أصغر حجمًا ومروحيات مسلحة من النوع المستخدم في الهجوم. ويطرح استعداد روسيا المتواصل لتزويد نظام الأسد بأسلحة ثقيلة على غرار منظومة "أس-300" تهديدًا أمنيًا مستمرًا لشعب سوريا. كذلك، "رغم سياسة النظام بتجنب قتال داعش" تشير إلى أن مثل هذه الأسلحة قد تسقط في أيدي "حزب الله" أو جماعات إرهابية أخرى عن طريق جيش الأسد.
كذلك لدى بوتين دوافع لإرسال المتطرفين الروس إلى داخل سوريا كطريقة لإدارة أمن بلاده القومي. وبما أن روسيا تتصدر قائمة الدول التي لديها العدد الأكبر من المقاتلين الأجانب الذين ذهبوا للقتال في سوريا والعراق بغية الانضمام إلى "داعش"، تملك روسيا حافزًا مقنعًا لإبقاء "داعش" منشغلًا في سوريا لضمان عدم عودة آلاف المقاتلين إلى روسيا.
مسألة الوجود الإيراني في سوريا أكثر تعقيدًا حيث يساهم موقف روسيا الغامض حول إيران، في ازدهار هذه الأخيرة وميليشياتها الوكيلة في سوريا، وهي سياسة تتعارض تمامًا مع جهود الولايات المتحدة ضد إيران. وبالتالي، على الإدارة الأمريكية أن تطلب من روسيا توضيح موقفها إزاء النفوذ الإيراني في سوريا وممارسة الضغوط على نظام الأسد ليطالب رسميًا بانسحاب إيران و"حزب الله" و"فيلق القدس" والميليشيات الإيرانية الأخرى من سوريا، إلى جانب فرض المزيد من العقوبات الدبلوماسية والاقتصادية على روسيا في حال رفضها هذا الطلب.
تختلف هذه السياسات ظاهريا عن بعضها البعض، حيث أنها تسمح لروسيا بأن تكون الحاكم الوحيد في سوريا مستقبلًا. ومن أهداف بوتين جذب أمريكا للتعاون معه بما يصبّ في مصلحة سوريا. فتعاونه مع أردوغان "رغم إسقاط تركيا للطائرة الروسية، وسكوته عن تلك الحادثة لاستغلال قلق تركيا إزاء التعاون الأمريكي-الكردي شمالي سوريا. ويحاول بوتين تسهيل التقارب والمفاوضات بين نظام الأسد وتركيا وأيضًا إيران بحجة التهديد الذي تطرحه الولايات المتحدة في سوريا واحتمال إقامة دولة كردية شمالي سوريا. كل ذلك كي تطلب واشنطن من بوتين البقاء بعيدًا عن طهران وتتعاون معه لتقاسم الكعكة في سوريا وحل الأزمة السورية وفق شروط موسكو وموافقة أمريكا وحلفائها على الشراكة مع الشركات الروسية لإعادة إعمار سوريا. ونتيجةً لذلك، لا يمكن الوثوق بروسيا كشريك والتعاون معها في سوريا.
وبغية وقف الحرب الأهلية في سوريا وإيجاد حل سياسي، يتعين على الولايات المتحدة ومجموعة أصدقاء سوريا تشكيل قوة دولية للحفاظ على الأمن في الداخل السوري. كما يجب إبقاء القوات الأمريكية المتبقية وإقامة منطقة حظر جوي حيث تتمركز القوات الأمريكية وحلفاؤها الأكراد. ويهدف ذلك جزئيًا إلى ضمان عدم تمويل روسيا إعادة إعمار المناطق المحررة، وبالتالي بناء قوة ناعمة في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام وتلك الخاضعة له.