- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
إعادة النظر في علاقة القوة الناعمة بين الغرب وتونس
إذا لم يحدث تغيير جذري، ستُواصل القوة الناعمة الأمريكية والأوروبية تراجعها في تونس التي تمرّ بأزمة اقتصادية.
ينظر التونسيون منذ عقودٍ إلى علاقة بلادهم مع الغرب على أنها علاقة مبنية على التحالف المتبادل. وعلى مدى العقود الماضية، اعتبرت تونس نفسها حليفة حيوية لكلٍ من الولايات المتحدة وأوروبا. في عام 2012، أدت مجموعة من الاتفاقيات الثنائية والمتعددة الأطراف إلى تعزيز العلاقات الاقتصادية والسياسية بين تونس وأوروبا، وفي عام 2015، اعتبرت واشنطن أن تونس هي دولة حليفة رئيسية من خارج "الناتو". وتعود هذه العلاقات إلى القرن الماضي وتمتد على فترة طويلة منه؛ فبصرف النظر عن خضوع تونس للسيطرة الفرنسية والإيطالية في حقبة الاستعمار، أصبحت هذه الدولة موقعًا رئيسيًا للصراع في مسرح شمال أفريقيا في خلال الحرب العالمية الثانية، عندما تمكن قوات الحلفاء أخيرًا من الدخول إلى شبه الجزيرة الإيطالية من الجنوب. وبالنسبة إلى عددٍ كبيرٍ من التونسيين الذين بلغوا سن الرشد في تسعينات القرن الماضي، كانت الولايات المتحدة تُعتبَر نموذج جيد للقوة العظمى.
على الرغم من هذه العلاقات العميقة بين تونس والغرب، لا تزال الطبيعة الحقيقية لعلاقة البلاد مع الولايات المتحدة وأوروبا غير واضحة وتتغيّر باستمرار. لكن التحولات الجيوسياسية والواقع القاسي قضت على التفاؤل الذي كان مشرقًا في الماضي. وأدت الإجراءات الأخيرة التي اتخذتها الولايات المتحدة في المنطقة إلى الإضرار بسمعتها في تونس، ربما بشكلٍ لا يمكن إصلاحه. وقد تجلى ذلك في موقف الولايات المتحدة من الحرب الدائرة في غزة منذ تشرين الأول/أكتوبر الماضي، حيث لم تتدخل بشكل فعال لوقف الحرب مستخدمة ثقلها الدبلوماسي. وعلاوةً على ذلك، تُحقق الصين وروسيا وغيرهما من القوى نجاحات اقتصادية وسياسية مستمرة على حساب الولايات المتحدة وأوروبا.
إلا أن خيبات الأمل التي يشعر بها التونسيون تنشأ أيضًا بسبب طريقة تَعامُل الولايات المتحدة وأوروبا مع السياسات المتّبعة تجاه تونس نفسها. فمن بعض النواحي، تُعتبَر تونس شريكة استراتيجية قيّمة في مجالات مكافحة الإرهاب والهجرة والأمن. ومن نواحٍ أخرى، يرى التونسيون أن السياسات الخارجية تعامل بلادهم كعنصر ثانوي، وتتلكأ في إرسال المساعدات المهمة في زمن الحاجة ، وتحرمها من شريحتها المهنية المتعلمة. وبالنسبة إلى عددٍ كبيرٍ من التونسيين الذين كانوا يفتخرون بهذه العلاقات، قوّضت خيبات الأمل القوة الناعمة التي كان يتمتع بها الغرب في الماضي، خاصةً لدى الشريحة المهنية التي تغادر البلاد بشكلٍ متزايدٍ، أو تشعر أكثر فأكثر بالإحباط بسبب المعاملة التي تتلقاها من أوروبا.
لم يحدث ذلك بين ليلةٍ وضحاها، إذ أدى عددٌ من الأزمات الأخيرة والوقائع السياسية إلى توتير العلاقة بين تونس والغرب، وإلى إبراز الاختلالات الأساسية في موازين القوى، القائمة منذ عقودٍ. وبشكلٍ خاص، أظهرت جائحة كوفيد-19 حدود التضامن الغربي. لم تسلم أي دولة من الفيروس الذي أسفر عن وفاة الملايين حول العالم. وتوقف الاقتصاد العالمي، حتى أن الدول الأكثر ازدهارًا تأثرت بشدة من الإغلاق الشامل. إلا أن الدول النامية اقتصاديًا مثل تونس تعرّضت لأضرارٍ كبيرة جدًا. وفي حين أن الولايات المتحدة تبرّعت في نهاية المطاف بـ2.9 مليون جرعة من اللقاح لتونس، نشأت خيبات أمل من القصور الواضح في مبادرة "كوفاكس" الأمريكية، وذلك بسبب التأخير الذي أدى إلى انخفاض معدل التلقيح في شهر تموز/يوليو 2021، عندما سجلت تونس بعض أعلى معدلات الوفيات في العالم، إلى جانب تسليم اللقاحات المنافِسة من الدول العربية والصين مع تغطية إعلامية كبيرة. وأصبح التصور قائمًا على أن عدم قدرة الدول والمؤسسات في الولايات المتحدة وأوروبا على مساعدة حلفائها بشكلٍ فعالٍ في وقت الحاجة (أو عدم رغبتها في ذلك) تسلّط الضوء على طبيعة علاقاتها القائمة على المعاملات مع الدول المذكورة.
أزمة الهجرة في البحر الأبيض المتوسط
تشغل بعض القضايا أذهان القادة الأوروبيين المعاصرين، مثل قضية الهجرة. في مختلف أنحاء القارة، أججت المخاوف بشأن الهجرة غير المضبوطة و"التغيير الديمغرافي" المشاعر المعادية للمهاجرين، ومنحت الحركات اليمينية المتطرفة أهمية ونفوذًا سياسيًا في إيطاليا وألمانيا وهولندا وغيرها من الدول. ويشكل كبح تدفق المهاجرين أو وقفه قضية رئيسية في بعض العواصم الأوروبية. تبدأ الطرق الأكثر شيوعًا للهجرة غير النظامية في دول جنوب الصحراء الكبرى ومنطقة الساحل، وتصل إلى شمال أفريقيا قبل أن تعبر البحر الأبيض المتوسط.
بما أن تونس هي إحدى دول العبور للدخول إلى أوروبا، تركز معظم جوانب العلاقة الحالية بين أوروبا وتونس على قضية الهجرة. تتطالب حاليًا معظم الدول الأوروبية الدول التي ينطلق منها المهاجرون بحراسة حدودها مقابل تقديم عدد من قوارب خفر السواحل، أو حفنة من الدولارات، أو التعاون المحدود. وتُشكل إيطاليا استثناءً بارزًا لهذا النموذج، إذ تحاول صياغة سياستها الخاصة تجاه تونس من خلال "خطة ماتي"، وأعطتها الأولوية من خلال مشاريع الطاقة التي تتضمنها هذه الخطة. وقد أبدت إيطاليا استعدادا كبيرا لدفع عملية التعاون الاقتصادي مع تونس. ومن ثم يشعر التونسيين بقدر اقل من الغضب تجاه إيطاليا.
لكن بالنسبة إلى التونسيين الذين يستمعون إلى تصريحات المسؤولين الأوروبيين، يقدّم نظام الهجرة الأوروبي ككل مثالًا واضحًا عن ازدواج المعايير التي يتم اتباعها على حساب تونس. ففي حين أن هجرة العمال "غير الماهرين" والطبقة المتوسطة تُشكل مصدر قلقٍ ، يتم الترحيب بالمهاجرين المدربين والمتعلمين أحسن ترحيبٍ، ما يسهّل "هجرة الأدمغة" التي تزيد من حدّة الأزمة الاقتصادية في تونس. وبحسب "المرصد الوطني للهجرة"، يغادر أكثر من 36 ألف تونسي البلاد سنويًا، كما تتزايد هجرة المهندسين والأطباء. وتشير دراسات مختلفة إلى أن جائحة كوفيد-19 زادت حاجة الدول الأوروبية الملحة إلى توظيف المزيد من الأشخاص في مجالات الهندسة الرقمية والطب. ويتم تشجيع الشباب التونسيين من ذوي الشهادات العليا والخبرة المهنية - أي الذين يشكلون المستقبل الفكري والاقتصادي للبلاد - على المغادرة إلى أوروبا، في ظاهرة ستحد بالتأكيد من إمكانات تونس في السنوات القادمة. وفي الوقت نفسه، غالبًا ما يعاني التونسيون الآخرون الذين يسعون إلى الحصول على مجرد تأشيرات عادية من التأخير في منح التأشيرات، ومن إحجام الدول عن إصدار التصاريح القنصلية اللازمة لترحيل التونسيين المقيمين في تلك الدول بشكلٍ غير قانوني.
أموال التونسيين المنهوبة في المصارف الأوروبية
تحاول تونس منذ عدة سنواتٍ استرداد الأموال المنهوبة الموجودة في المصارف الأوروبية التي يرجع تاريخها إلى عهد بن علي، عندما تم ايداع مليارات الدولارات في حسابات خارجية. وعلى الرغم من الجهود المتواصلة التي تبذلها الدولة من أجل استرجاع الأموال، لم تنجح إلا في استرداد جزءٍ بسيطٍ منها. ويُعزى ذلك إلى عددٍ من المسائل، مثل الإجراءات الصارمة التي تتبعها المصارف السويسرية، أو انتهاء الآجال، أو حتى مساهمة بعض الذين كانوا في السلطة أنفسهم في رفع التجميد عن بعض الأموال المودعة في الخارج، ما يمنع إعادتها إلى تونس.
كان "البنك المركزي التونسي" قد حدد قائمة الدول التي تتواجد فيها بعض الأموال والممتلكات المنهوبة. لكن ما زال هذا الملف معلقًا بعد مرور أكثر من عقدٍ من الزمن، بسبب تعقيد الإجراءات وتعدد الأطراف المتدخلة، وخاصةً بسبب عدم إقناع الأطراف الأجنبية بمكان هذه الأموال وضرورة استعادتها من خلال إصدار حكم قضائي نهائي. وبالتالي، ما من حلول تلوح في الأفق في هذا البلد الذي يعاني من صعوبات مالية كبيرة.
نظرًا إلى التوترات الدولية الحالية بين القوى العظمى، والأضرار المستمرة لجائحة كوفيد-19، والحرب الإقليمية في أوروبا الشرقية والشرق الأوسط، يعتقد عددٌ كبيرٌ من التونسيين أن الوقت قد حان لتحدد الحكومات والمؤسسات الغربية بوضوحٍ ماهية علاقتها مع تونس، ولتتسم معاملتها لهذه الدولة الحليفة القديمة بالاحترام وحسن النية اللذين استحقتهما بعد سنواتٍ من التعاون. فإذا لم يحدث تغيير جذري، ستُواصل القوة الناعمة الأمريكية والأوروبية تراجعها في تونس التي تمرّ بأزمة اقتصادية.
إذا كان الغرب يريد عكس مسار هذا الاتجاه والحفاظ على حلفائه القدامى في المنطقة، يتعين عليه أن يترجم حسن النية إلى واقعٍ ملموسٍ، من خلال إظهار استعداده لاعتبار التونسيين أكثر من مجرد حرّاسٍ يساعدونه على منع الهجرة من أفريقيا. ويستطيع التونسيون المحترفون إقامة علاقات ذات منفعة متبادلة، إذا كانت الدول الأوروبية والولايات المتحدة مستعدان لتسهيل عملية الحصول على التأشيرات وتخصيص نسبة معيّنة من عقود العمل لجميع التخصصات، وذلك في ظل دعم السياحة التونسية وإنشاء شراكات تُسهّل إطلاق الشركات الناشئة وتحفّز النمو الاقتصادي في تونس. هذا هو نوع الاستثمارات التي قد تُحدث فرقًا حين يتعلق الأمر بالقوة الناعمة في تونس، في ظل العمل على وقف أعظم المخاطر التي تتمثل في هجرة الأدمغة والتي قد لا تعود بالمنفعة على أحد.