
- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 4014
إعادة ضبط العلاقات الأمريكية مع السلطة الفلسطينية

بعد مقاطعتها إدارة ترامب في فترة ولايته الأولى، تسعى رام الله الآن إلى تحسين العلاقة معه، مما يمنح واشنطن فرصة لمعالجة أوجه القصور في السلطة الفلسطينية دون تشتيت الانتباه عن الأولويات الأخرى في الشرق الأوسط.
حتى قبل فوز دونالد ترامب في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، كان رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس قد بدأ في اتخاذ خطوات لإصلاح الأضرار الناجمة عن قراره بمقاطعة إدارة ترامب الأولى، تضمنت هذه الخطوات مجموعة من الإصلاحات الجديدة، بالإضافة إلى تنفيذ عمليات أمنية غير مسبوقة في الضفة الغربية. ولكن بالنظر إلى سلوك عباس في الماضي، فمن المهم تقييم هذه الخطوات بحذر. فالعقبات التي تعترض العلاقة بين السلطة وواشنطن مازالت كبيرة، سواء بسبب الديناميكيات الفلسطينية أو السياسات الأمريكية. وعلى الرغم من ذلك يجب على واشنطن أن تتواصل مع السلطة الفلسطينية الداخلية للتأكد مما إذا كانت التغييرات الأخيرة حقيقية - لا سيما وأن رغبة السلطة الفلسطينية الواضحة في كسب رضا ترامب تمثل فرصة لمعالجة بعض القضايا العالقة دون جهود أميركية إضافية سواء سياسية أو مادية.
رأب الصدع
استهل ترامب وعباس (أبو مازن) علاقتهما بشكل إيجابي خلال الولاية الأولى لترامب، حيث التقيا في بيت لحم في أيار/مايو 2017، ثم اجتمعا مرة أخرى في البيت الأبيض في أيلول/سبتمبر من العام نفسه. لكن فترة التقارب هذه انتهت فجأة في 6 كانون الأول/ديسمبر 2017، عندما أعلن ترامب نقل السفارة الأمريكية في إسرائيل إلى القدس، مما أثار رد فعل حاد من السلطة الفلسطينية. وخلال الأشهر التالية، أدت سلسلة من التطورات إلى قطع القنوات الدبلوماسية وتعليق المساعدات الأمريكية.
وإدراكاً للضرر الناجم عن هذا الانقطاع الدبلوماسي في الولاية الأولى لترامب، سعى أبومازن لإعادة بناء العلاقات أثناء حملة الانتخابات الأمريكية العام الماضي. فكبادرة حسن نية، أرسل إلى ترامب رسالة في 14 تموز/يوليو يشجب فيها محاولة اغتياله. ومنذ الانتخابات، بادرت السلطة الفلسطينية بعدة مبادرات لإحياء العلاقة وتقديم نفسها كلاعب أساسي في غزة في فترة ما بعد الحرب. ومن هذه المبادرات ما قامت به في أواخر العام الماضي من عمليات أمنية نادرة في بلدتي طوباس وجنين شمال الضفة الغربية. كما وفي 10 شباط/فبراير، أصدر أبومازن مرسوما يهدف إلى التزام السلطة الفلسطينية بقانون "تايلور فورس" لعام 2017. وفي 4 آذار/مارس، خلال قمة جامعة الدول العربية أعلن عن سلسلة إصلاحات في كل من السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية.
التعقيدات الأمريكية
هذه الإصلاحات التي طال انتظارها، تأخرت بسبب بعض التحديات في المشهد السياسي الداخلي الفلسطيني، والتي لا تزال مستمرة وتزداد تعقيدا بسبب السياسات والمواقف الأمريكية. ومع ذلك، فإن مساعي السلطة الفلسطينية لإجراء تغييرات تشير إلى رغبتها في التقارب مع واشنطن.
عندما أعلن ترامب عن خطة "ريفييرا غزة"، كان رد فعل السلطة الفلسطينية معتدلاً نسبياً، حيث اعتمدت على الرفض العربي الجماعي وتجنبت المواجهة المباشرة مع الإدارة الأمريكية. ومع ذلك، طالما كانت هذه الفكرة مطروحة للنقاش، فإن تعامل السلطة الفلسطينية مع الإدارة قد يعرضها لاتهامات بالتواطؤ. وإذا تم تنفيذ الخطة، فقد تجد السلطة نفسها مضطرة لقطع العلاقات مجدداً.
وكانت المفاوضات المباشرة الأخيرة لإدارة ترامب مع حماس بمثابة نكسة كبيرة للسلطة الفلسطينية. فلطالما جادلت رام الله بأن عزلة حماس الدولية - بسبب تبنيها للإرهاب ورفضها الاعتراف بإسرائيل - تجعلها غير مؤهلة لقيادة الشعب الفلسطيني، لأنها لا تستطيع حشد الدعم الدبلوماسي العالمي أو ضمان المساعدة المالية الدولية. وفي هذا السياق، كانت السلطة الفلسطينية تؤكد على أنه لا يمكن السماح لحماس بالبقاء في السلطة في غزة، لأن أي دولة مانحة لن تستثمر في إعادة الإعمار بعد الحرب طالما كانت الجماعة على رأس السلطة. ومع ذلك، فإن المحادثات الأمريكية المباشرة مع حماس تشير إلى تصدع في عزلة الحركة.
نهاية "الدفع مقابل القتل"
من بين الخطوات اللافتة التي اتخذتها السلطة الفلسطينية مؤخراً، كان إصلاح نظام المدفوعات للسجناء والشهداء. هذه المدفوعات لم تُعرقل فقط حصول السلطة الفلسطينية على المساعدات الأمريكية بموجب قانون "تايلور فورس"، بل كان لها تأثيرات سلبية على علاقات السلطة مع واشنطن بشكل عام. فلطالما ناقشت الحكومتان إلغاء هذه المدفوعات، وقبيل نهاية إدارة بايدن، تم بلورة خطة لهذا التغيير. تقضي الخطة بإنهاء هذه الممارسة ونقل المستفيدين منها إلى نظام الرعاية الاجتماعية الفلسطيني العام، الذي يعتمد على الوضع المالي للمستفيدين فقط. رغم ذلك، تراجعت رام الله في ذلك الحين عن تبني هذه السياسة رسمياً، خوفاً من رد فعل الجمهور الفلسطيني.
وفي شباط/فبراير، أصدر عباس مرسوما رسميا يهدف إلى التزام السلطة الفلسطينية بتلك التفاهمات، بهدف توافق السلطة مع القانون الأمريكي. ووفقاً للإصلاحات الجديدة، تم نقل نظام المدفوعات للسجناء إلى جانب مدفوعات الرعاية الاجتماعية الأخرى، إلى مؤسسة جديدة. رغم ذلك، لا يزال من غير الواضح مدى حقيقة هذا التغيير، إذ أن المرسوم جديد وغير واضح ولم يتم تطبيقه بعد. وبموجب قانون "تايلور فورس"، يتطلب الأمر تدقيقاً وإفادات دقيقة لمراقبة تنفيذ التغييرات والتحقق مما إذا كانت تلتزم بالمعايير الأمريكية. إذا استوفت السلطة الفلسطينية هذه المتطلبات، بما في ذلك الإدانة العلنية للهجمات الإرهابية، فيجب على واشنطن الرد بالمثل من خلال استئناف المساعدات الأمريكية. ورغم أن إدارة ترامب تميل إلى التقليل في المساعدات الخارجية بشكل عام، فإن حتى مجرد تقديم دعم صغير للسلطة سيرسل إشارة سياسية مهمة، ويعزز التعاون الثنائي مع السلطة الفلسطينية، كما سيحفز الدول المانحة الأخرى على تقديم المساعدات.
هل تأخذ السلطة الفلسطينية ملف الأمن على محمل الجد؟
في تطور ملحوظ، باشرت قوات الأمن الفلسطينية مؤخراً عمليات مكثفة في شمال الضفة الغربية، وخاصة في طوباس وجنين، اللتين كانتا تعتبران معاقل لعدم الاستقرار في المنطقة، بشكل أبرز افتقار السلطة الفلسطينية للسيطرة في بعض المناطق الخاضعة لسلطتها. وقد تضافرت عدة عوامل في توقيت هذه العمليات، بما في ذلك القلق من تنامي شعبية حماس في المنطقة. إلا أن أحد العوامل المؤثرة هي رغبة السلطة في إرسال رسالة بأنها تستيطع أن تلعب دوراً أمنياً في مرحلة ما بعد الحرب في غزة.
تفاوتت نتائج هذه العمليات، فمن جهة أظهرت استعداد السلطة لاستخدام القوة ضد الجماعات الإرهابية، وساهمت بعض الجوانب الإيجابية مثل التنسيق بين فروع قوات الأمن الفلسطينية في تحقيق نتائج ملموسة. من ناحية أخرى، كشفت العمليات عن أوجه قصور في القدرات الاستخباراتية والأمنية لدى السلطة، حيث فشلت العملية في جنين في تحقيق أهدافها بالكامل.
توفر هذه التطورات فرصة لتنشيط التعاون الأمني بين الولايات المتحدة والسلطة الفلسطينية. وبما أن السلطة أبدت استعدادها للعمل، فإن واشنطن تملك الوسائل اللازمة لتعزيز جهودها. فمنذ تأسيس مكتب المنسق الأمني الأمريكي في عام 2005، ساعدت واشنطن في إصلاح قوات الأمن الفلسطينية ورفع كفاءتها، وضمنت استمرارية التعاون الأمني بين إسرائيل والفلسطينيين. لذلك فدعم المنسق الأمني الأمريكي يمكن أن يعزز قدرة السلطة الفلسطينية على الحفاظ على استقرار نسبي في الضفة الغربية، دون تكاليف إضافية على واشنطن.
إصلاح السلطة الفلسطينية
يبدو أن السلطة الفلسطينية أدركت الآن أنها بحاجة إلى إعادة هيكلتها لتتمكن من لعب دور محوري ليس فقط في غزة، بل في الدبلوماسية الإقليمية والدولية بشكل عام. وكانت دعوة إدارة بايدن إلى "سلطة فلسطينية متجددة" بمثابة جرس إنذار في رام الله، حيث سعت السلطة لتبدو متجاوبة عبر تعيين رئيس وزراء جديد، ولكن دون اتخاذ خطوات فعلية لنقل السلطة من عباس.
وعلى الرغم من أن واشنطن حاليا لم تتناول بوضوح مسألة إصلاح السلطة الفلسطينية، إلا أن تصريحات ترامب حول "ريفييرا غزة" أثارت حالة من الاستنفار في العواصم العربية، مما دفعها لتطوير مشروع بديل قوي يضع مزيدا من الضغط على عباس لإجراء إصلاحات جوهرية. وخلال محادثات خاصة، ضغط بعض القادة الإقليميين على عباس بشأن الإصلاحات، وامعانا في الضغط، لم يُدعَ عباس إلى الاجتماع الذي نظمته المملكة العربية السعودية لمناقشة الرد العربي على اقتراح ترامب. ولذلك، لم يكن مفاجئا أن يختار عباس قمة جامعة الدول العربية الطارئة للإعلان عن تعيين نائب له والعفو عن المطرودين من حركة فتح، في خطوات ذات دلالة سياسية واضحة.
في النهاية، سيسهم إصلاح السلطة الفلسطينية في تحقيق المصالح الأمريكية عبر إيجاد بديل فلسطيني قادر على مواجهة حماس وضمان استقرار الضفة الغربية. إلا أن عملية الإصلاح نفسها ستكون معقدة وصعبة. ولذلك فمن غير المتوقع أن تنخرط إدارة ترامب بشكل مباشر في تفاصيل هذا الإصلاح، ولكن رغبة الدول العربية في تغيير السياسات الأمريكية نحو الموضوع الفلسطيني يفتح نافذة للولايات المتحدة لتحقيق الإصلاح من خلال شركائها في المنطقة. ومن خلال ربط هذه المطالب العربية بالدفع العربي نحو إصلاح السلطة الفلسطينية، يمكن لواشنطن متابعة هذا المسار دون بذل مواردها الدبلوماسية والسياسية.
الخاتمة
نظرا للتحديات المعقدة التي تواجه إدارة ترامب في الشرق الأوسط، من غير المرجح أن تكون بناء العلاقات مع رام الله من أولوياتها الرئيسية. ومع ذلك، تُظهر الإجراءات الأخيرة من قبل السلطة الفلسطينية رغبة في إعادة التواصل مع البيت الأبيض. في حال استمرت السلطة الفلسطينية في تنفيذ هذه المبادرات، يمكن للولايات المتحدة أن تحقق فوائد كبيرة دون أن تُشتت مواردها عن الأولويات الإقليمية الأخرى.
تمت ترجمة هذا المقال في 25 آذار/مارس.