- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
إعادة تقييم القومية التركية كحصن ضد المؤسسة الدينية
فيما شهدت العقود القليلة الماضية تراجعًا في الإشارات السياسية إلى مؤسس تركيا، بدأت جماعات المعارضة و"حزب العدالة والتنمية" على حدٍ سواء بالعودة إلى أتاتورك كرمز سياسي أساسي في تركيا.
في النصف الغربي من الكرة الأرضية، تحمل كلمة القومية دلالة سلبية، وغالبًا ما يكون ذلك صائبًا. غير أن القومية ليست شرًا بطبيعتها. وفي الواقع، أدت قدرتها على تحقيق التوازن مع القوى المجتمعية الأخرى أدوارًا نافعة في عددٍ من المجتمعات، لا سيما في تلك الأماكن التي تفتقر إلى تاريخٍ من الفصل بين السلطتين الدينية والعلمانية. وحين يقارن المرء بين الغرب والشرق ويقيّم الاختلافات الحتمية بين هذين المجالين الثقافيين، يمكن تقديم حجة مفادها أن أحد الأسباب الرئيسية لتَخَلُّف الشرق، وخاصةً الشرق الأدنى، في بعض المجالات هو غياب الدنيوية بمعناه الأصلي عن المجتمع الشرقي، أي ما هو "خارج المعبد." وفي خلال ذروة الإمبراطورية الرومانية وفي أوروبا ما بعد الحقبة الرومانية حتى يومنا هذا، ازدهر المفهوم الدنيوي للحياة "خارج المعبد"، ما أدى في النهاية إلى تطور العلمانية الحديثة وظهور المجال العام.
غير أن التطور السياسي في المجال الإسلامي اتخذ مسارًا مختلفًا. فيشدد كلٌ من القرآن والحديث النبوي على دور محمد كنبي لدين جديد وكأول رئيس دولة لامبراطورية عربية ناشئة حديثًا. ومنذ ذلك الحين، حافظ مفهوما الثقافة والدولة في الشرق إلى حدٍ كبيرٍ على الخليفة كسلطة نهائية، من دون وجود أي دنيوية فعلية في المسائل المتعلقة بالدولة.
بالتالي، تطلّبَ مسار تركيا نحو بناء ثقافة سياسية علمانية، على غرار دول كثيرة مجاورة لها، التدخل المباشر من شخصيات سياسية رئيسية لفصل الدين المهيمن عن مفهوم الدولة. وفي خلال انهيار الامبراطورية العثمانية بشكل خاص، كان الوقت مناسبًا لحدوث مثل هذه العملية الانتقالية، إذ رفض القوميون الأتراك وأنصار الوحدة التركية الدين إلى حدٍ كبيرٍ في القرنين التاسع عشر والعشرين. وكان الشخص الذي قاد عملية التحول في تركيا هو أتاتورك، الذي عمل على إنشاء "وطن جديد، ومجتمع جديد، ودولة جديدة" من خلال سد ثغرة الدين بواسطة اكتشاف حس جديد من القومية. وشهدت ثورته نجاحًا محدودًا، بسبب وجود مقاومة للإصلاحات - حتى أن محاولاته الخاصة لتأسيس ديمقراطية متعددة الأحزاب غدت بلا جدوى، إذ تغلغلت بسرعة عناصر "رجعية" في بعض الأحزاب مثل "الحزب الجمهوري الحر"، لكنه تمكّن في النهاية من وضع أساس للازدواجية يمكن أن يقوم عليه ازدهار العلمانية في المستقبل.
إعادة اكتشاف أتاتورك
على الرغم من أن صورة أتاتورك تعرضت للكثير من النقد والقمع في خلال التسعينيات وأوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين في تركيا، برز مجددًا مفهوم أتاتورك كرمز سياسي في السنوات الأخيرة، خاصةً فيما تشهد تركيا ثورة مضادة على نطاقٍ شامل. ففي خلال التسعينيات وأوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، رأى معظم المفكرين اليساريين الذين تحولوا إلى ليبراليين أن أتاتورك هو من البقايا الأثرية التي يجب وضعها على الرف، وعزز وصول "حزب العدالة والتنمية" إلى السلطة استمرار نبذ أتاتورك. ورأى الكثيرون، بمن فيهم أنا، أن ذلك هو بمثابة ثورة مضادة تشكل طريقًا لإقامة ثيوقراطية. إلا أن أتاتورك يعاود ظهوره كرمزٍ خاصةً بعد تموز/يوليو 2016. والأهم من ذلك هو أن هذا الارتباط الجديد بأتاتورك يختلف كثيرًا عن الفكر الكمالي في المدرسة القديمة: فبدلًا من إسناد أي موقف سياسي محدد إلى أتاتورك وإرثه، ينظر الكثيرون من الأتراك الآن إلى أتاتورك بشكل عام على أنه يشكل حصنًا رمزيًا ضد الدين، وبالتحديد ضد الدولة الثيوقراطية وضد إعطاء الأولوية للقانون الديني.
ربما كانت احتجاجات حديقة غيزي في عام 2013 هي أول علامة بارزة على عودة ظهور أتاتورك كرمزٍ للتوحيد. فعلى الرغم من تنوع مطالب المتظاهرين وأيضًا تنوع خلفياتهم العرقية والثقافية والسياسية، كانوا يهتفون معًا بصوت مرتفع قائلين: "نحن جنود مصطفى كمال." وتجاوزَ هذا الشعار حدودًا سياسية معيّنة. وعلاوةً على ذلك، ربما شكلت هذه الوسيلة السبيل الوحيد لتفادي قيام الناس بنبذ الحركة الاحتجاجية على أساس ارتباطها بتيار سياسي محدد، ولم يتوفر سواها من بدائل تَحول دون اتخاذ موقف غير سياسي، فكان سيتم فقدان الزخم في كلا الحالتين. ومن خلال رمز أتاتورك، كان المتظاهرون يتحدّون بشكل مباشر البيئة السياسية التي يزداد طابعها الإسلامي في تركيا. ومع أن الحكومة قمعت الاحتجاجات بشكل فاضح عبر استخدام العنف غير المشروع في مناسباتٍ عدة، كانت "نزعة أتاتورك" البادية على الحشود تحميهم من حدوث الأسوأ.
في نهاية المطاف، عاود أتاتورك ظهوره كرمز، ليس فحسب بالنسبة إلى المعارضة. فبدأت الحكومة التركية نفسها تشير إلى أتاتورك بشكل أكثر تواترًا في خطابها، ولو ربما على مضض، لا سيما بعد محاولة الانقلاب الشائنة التي جرت في تموز/يوليو 2016. حتى أن إسلاميين بارزين مثل السيد بولنت أرينج – وهو عضو في الكادر المؤسس لـ"حزب العدالة والتنمية"، وكان في يومٍ من الأيام يتمتع بقوة أردوغان نفسها تقريبًا على الرغم من الخلاف معه الآن - أشادوا بذكر أتاتورك في مناسباتٍ عدة بعد محاولة الانقلاب. ونظرًا إلى أن "حزب العدالة والتنمية" والإسلاميين التقليديين في تركيا كانوا يتجنبون عادةً حتى ذكر اسم أتاتورك عند صعودهم إلى السلطة، أشار الاستخدام المتكرر لأتاتورك إلى حدوث تحول كبير بالفعل.
يبدو أن أردوغان و"حزب العدالة والتنمية" قد توصلا ولو ببطء إنما بشكل مؤكد إلى إدراك أمرٍ ما هو أن السياسة التي تقوم على الدين في تركيا وتعتمد على التحالفات مع الطوائف والشيع الدينية (أي أنصار "حركة كولن"، وجماعة "الإخوان المسلمين"، والطريقة النقشبندية، وما إلى ذلك) تؤدي إلى زعزعة الاستقرار وعدم الرضا بين الناس، كما ثبت في تموز/يوليو 2016. وبناءً على ذلك، يتطلع "حزب العدالة والتنمية" الآن، في محاولةٍ لاستبدال تحالفه السابق مع أنصار "حركة كولن" الإسلامية، إلى الحصول على دعم الأحزاب القومية المحافِظة مثل "حزب الحركة القومية." وفي هذا السياق، تبنت حكومة "حزب العدالة والتنمية" رمز أتاتورك إلى جانب نسخة جديدة محافِظة من الكمالية من أجل إظهار صورة قومية أكثر تحفظًا، على أمل أن تسترضي الناس وتجتذبهم.
غير أن اعتناق الحكومة لخط أتاتورك لم يؤدِّ سوى إلى تعزيز صورته كحصنٍ للمعارضة في تركيا. وفي الواقع، أدى التواتر الحالي في استخدام الحكومة لأتاتورك كرمز جامع إلى جعل شيطنة المعارضة أكثر صعوبة بالنسبة إلى "حزب العدالة والتنمية." فعند إلقاء نظرة سريعة على وسائل التواصل الاجتماعي التركية أو خطابات السياسيين وتعليقاتهم، يتضح أنه بغض النظر عن الموقف السياسي، يتم تقديم كل مطالب المعارضة تقريبًا باسم أتاتورك. ويسمح استخدام اقتباس من أتاتورك أو الإشارة إلى إرث أتاتورك لأتباع المعارضة بتجنب رد الفعل العنيف الذي كان سينشأ لو عبّروا عن آرائهم كأشخاص عاديين. فيوفر ذلك غطاءً لآرائهم السياسية. ومع أنه من المحزن حقًا أن يضطر المواطنون إلى اللجوء إلى الرموز للتعبير عن آرائهم في تركيا، يشكل هذا الواقع الكئيب غريزة بقاء مهمة بالنسبة إلى المعارضة القومية العلمانية الناشئة في تركيا.
في مجتمعٍ طالما استُخدم فيه الدين كأحد أسلحة النخبة الحاكمة، أصبحت "القومية" تحت صورة أتاتورك تشكل درعًا ضروريًا للمعارضة التركية. ففي حين أن شخصًا يُصنَّف على أنه "ليبرالي" أو "يساري" يمكن نبذه وشيطنته بسهولة من خلال الخطاب السائد، توفر الآن سردية أتاتورك القومية حمايةً ومعنًى رمزيًا للأتراك، ما يسمح لهم بالعودة إلى أيام العلمانية القومية التي عرفتها بداية تركيا من دون تحدي أردوغان و"حزب العدالة والتنمية" بشكل مباشر، فيما لا يزال هذان الأخيران محافظين في الصميم ويستمران في التركيز على الدين من الباطن. ولهذا السبب، يتماهى الشباب الأتراك أكثر فأكثر مع "القومية" ومع "خط أتاتورك" في استطلاعات الرأي السنوية - ما يمثّل صعود هوية قومية علمانية تتحدى الوضع الراهن بهدوء في تركيا.
الانتخابات القادمة في تركيا
في النهاية، إن النظرة السياسية العامة في تركيا هي حقًا مثيرة للفضول في الوقت الحالي: فقد عبّر جميع قادة الأحزاب الرئيسية تقريبًا عن انتهاج القومية، ومن بينهم السيد قلجدار أوغلو أي رئيس "حزب الشعب الجمهوري" الوسطي اليساري، حتى أنهم رسموا بأيديهم علامة "الذئاب الرمادية" - التي تُعرِّف عادةً عن "حزب الحركة القومية" وتنظيم "الذئاب الرمادية" شبه العسكري التابع له.
فيسعى التحالف الذي يقوده "حزب العدالة والتنمية" جاهدًا إلى استغلال القومية لتمديد فترة ولايته وتجديد خطابه المنهَك، فيما تلجأ المعارضة إلى استخدام القومية كحصن ضد السردية والضغط الدينيين، وأيضًا كوسيلة من أجل التأثير في غالبية الناخبين الأتراك الذين يميلون إلى القومية من يمين الوسط. ويحوّل هذا الواقع اثنين من الأحزاب إلى لاعبين رئيسيين في الانتخابات المقبلة وهما: "حزب الخير" باعتباره الحزب المعارض الوحيد الذي تربطه صلات ملحوظة بقاعدة الناخبين القومية، و"حزب الشعوب الديمقراطي" ذو التوجه الكردي لأنه سيحدد أي جانب سيحقق بشكل غير مباشر "ملكية القومية"؛ فالتحالف الذي سيخسر الخطاب القومي هو ذلك الذي يميل نحوه "حزب الشعوب الديمقراطي."