- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
احتجاجات تل أبيب: العرب واليهود يتّحدون، والأخبار الزائفة تفرّقهم
عشيّة 11 آب/أغسطس، تظاهر عشرات آلاف العرب الإسرائيليين واليهود الإسرائيليين في مسيرةٍ انطلقت من ميدان رابين إلى ساحة متحف تل أبيب في وسط تل أبيب، احتجاجًا على "قانون الدولة القومية" الذي تم إقراره مؤخرًا. وحمل المتظاهرون لافتات تطالب بإلغاء القانون وبالمساواة والعدل وإنهاء ما سمّوه التّمييز العنصري. وهتف بعضهم (باللغة العربية) "الشعب يريد إسقاط القانون." وهتف آخرون (باللغة العبرية) "إذهب إلى المنزل يا بيبي،" في إشارةٍ إلى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو. وأكثر ما أثار الجدل هو قيام بعض الحشود برفع العلم الفلسطيني الأحمر والأسود والأبيض والأخضر عاليًا؛ فيما رفع آخرون عاليًا من جهتهم العلم الإسرائيلي الأزرق والأبيض مع نجمة داوود.
وحقق هذا الحدث، كتعبيرٍ عن التضامن العربي-اليهودي داخل إسرائيل، نجاحًا فائقًا – لا بل ربّما تاريخيًا.
وفيما رفضت الشرطة بشكلٍ مثيرٍ للفضول إعطاء رقمٍ تقديري عن عدد المتظاهرين الموجودين كما هو معتاد في مثل هذه المسيرات، لا يمكن إنكار العدد الكبير من الأشخاص الذين نزلوا إلى الشارع. وبلغ الرقم التقديري المتحفظ الذي أعطاني إياه أحد القادة في حركة "العدالة الاجتماعية" لعام 2011، وهو مخضرمٌ في مجال التحركات الجماعية المشابهة، 50 ألف شخصٍ. وإذا أخذنا بعين الاعتبار عدد الأشخاص الذين زحفوا على طول شارع شاؤول هاملش، لَبلغ العدد الحقيقي بسهولة ضعف ذلك، وينافس على الأرجح عدد الأشخاص في تظاهرةٍ مشابهة في تل أبيب نظّمها المجتمع الدرزي قبل أسبوع، أيضًا احتجاجًا على "قانون الدولة القومية."
والأهم من ذلك هو التواجد الضئيل او شبه المنعدم للشرطة في هذا الحدث وفي محيطه بشكلٍ مثيرٍ للدهشة. فقد راقب كبار قادة الشرطة التحرّك من الجهة الأمامية مع بعض العناصر من شرطة الحدود المزوّدين بعددٍ قليلٍ من الأسلحة والمنتشرين في أنحاء المكان، لكن من دون قوات مكافحة الشغب أو خيّالة الشّرطة. واتّسم التّحرّك بأكمله من بدايته حتى نهايته بالسّلم والاحترام. وتَناقضَ سير هذا التحرك بشدة مع التظاهرات الأخرى المتّسمة بالعنف التي شهدتُها شخصيًّا في إسرائيل، سواء من ناحية الناشطين من الجناح اليساري أو اللاسلطويين أو الأرثوذكس المتشددين أو المستوطنين، أو من ناحية العرب أنفسهم. إلى ذلك، حدث هذا رغم واقع أن التحرك انتهى بخطاباتٍ خارج متحف تل أبيب، الذي يقع مباشرةً مقابل مقر "جيش الدفاع الإسرائيلي" (الكرياه)، وهو مؤسسة غير محببة بالنسبة إلى الشعب العربي.
وهكذا سار معًا عشرات آلاف المواطنين الإسرائيليين، من كبار السن العرب على الكراسي المتحركة إلى الأطفال اليهود والبدو بأثواب الدشداشة التقليدية ومحبّي الصرعات من تل أبيب مع زجاجات الجعة، وذلك كجزءٍ مما دعاه أحد المتحدثين "معسكر المساواة،" بالاستناد إلى الصورة الأقدم لـ"معسكر السلام" الإسرائيلي، إنما كحركة جديدة تتميّز عنه.
وظهرت كذلك أعلامٌ فلسطينية داخل هذا المزيج، بالإضافة إلى انتشار هتافاتٍ قومية تقول "بالروح بالدم نفديك يا فلسطين." وبعد بضع دقائق على انتهاء التجمع، استغل نتنياهو ومسؤولون حكوميون آخرون هذه الصور فورًا في محاولةٍ لإدانة التجمع بأكمله. ووصل رئيس الوزراء إلى حد نشر شريطٍ مصوّرٍ قصيرٍ على وسائل التواصل الاجتماعي لمتظاهرين يلوّحون بالعلم الفلسطيني، معلنًا أنّه بسبب هذه الصور "ما من دليل أفضل يبيّن الحاجة إلى قانون الدولة القومية."
وانضم أيضًا إلى حملة الاستنكار السياسيون المعارضون، ومنهم رئيس "حزب العمل" آفي غباي ورئيس حزب "هناك مستقبل" يائير لبيد. فقد غرّج لبيد على موقع "تويتر" متسائلًا: "ماذا يمكن أن يحدث لشخصٍ حاول أن يسير وسط رام الله حاملًا العلم الإسرائيلي" – كما لو كانت تلك المقارنة صالحة بأي شكلٍ من الأشكال. وبعد اعتبار هذا العرض للأعلام الفلسطينية "خطأً فادحًا،" اختصر رئيس الوزراء السابق إيهود باراك المواقف إزاء الإسرائيليين الذين ينتقدون حكومة نتنياهو قائلًا: "يشكّل هذا الاحتجاج خدمةً مجانيةً لصانعي هذا القانون."
والأسوأ من ذلك أنّ وسائل الإعلام المحلّية انضمّت إلى الجوقة، رغم غيابها الكلّي تقريبًا عن الحدث. فأعلنت على صفحاتها الأمامية وفي أخبارها التي بثّتها في أوقات الذروة ما يلي: "الأعلام الفلسطينية في قلب تل أبيب،" واقتصرت التغطية الإخبارية على ما يبدو على تلك الشرائط المصوّرة القصيرة نفسها التي سلّط نتنياهو الضوء عليها. فلا يعرف المرء أبدًا أن الأعلام الإسرائيلية كانت موجودة أيضًا، وأن عدد الأعلام الفلسطينية لم يبلغ ربما أكثر من مئة أو مئتي علمٍ وسط حشدٍ من عشرات آلاف المتظاهرين؛ وأن الهتافات الموالية لفلسطين أتت من مجموعاتٍ صغيرة جدًّا غمرتها الأغلبية الساحقة التي ركزت على مطالب المساواة وإنهاء العنصرية.
كما لم يتطرّق النقاش العام، الذي تمحور اهتمامه حول الأعلام، إلى أن منظّمي الحدث – أي "لجنة الرصد العربية العليا" – طلبت من الناس عدم رفع أي علم وطني مهما كان. فقد أكّد لي ذلك وراء الكواليس رئيس اللجنة محمد بركة في خلال الاحتجاج، مضيفًا بأسف: "لا يمكنني أن أتحكّم بما يقوم به الناس."
انتقد أحد المنظّمين العرب المشاركين الآخرين في بداية التجمع قائلًا: "أنتم تتسببون بأذيتنا. كنت أعمل بجهدٍ منذ أسبوعيْن في سبيل هذه المظاهرة، حتى يأتي الناس من كافة السّكّان الإسرائيليين... وقد اتفقنا على عدم رفع الأعلام." ولم يلقَ الشريط المصوّر عن هذا الحديث غير مسبوق إلى حدٍ ما في المجتمع العربي-الإسرائيلي أي تغطية تقريبًا.
عزّز المتحدّثون الذين تم اختيارهم في الاحتجاج المقاربة الشعبية بشدة التي تعتمدها اللجنة. فقد فاجأني أيمن عودة، وهو رئيس حزب "القائمة (العربية) المشتركة"، عندما أخبرني أنه "لن يتحدّث أيٌّ من السياسيين، وهذا أفضل". عوضًا عن ذلك، شددت مجموعة من الخطباء، في كلٍ من اللغتين العربية والعبرية، على أن المستهدف من الاحتجاج كان "قانون الدولة القومية." فقال بركة بالعبرية متوجّهًا إلى الحشد: " أريد أن أتحدّث إلى أبناء عمّنا اليهود. إذا لم نتّحد قريبًا، سيتسبب [القانون] بأذيّتكم أيضًا." وتحدّث أيضًا عاموس شوكن، الذي يتولّى نشر صحيفة "هاآرتز" اليومية اليساري انتقده، قائلًا: "أنا متأكد من وجود الكثير من الخلافات بين الناس هنا على الكثير من القضايا... لكننا جميعنا ضد هذه الحكومة المسببة للانشقاقات... علينا أن نتّحد."
ووسط جموع العرب واليهود الّذين كانوا يمارسون حقهم في حرية التعبير تحت مظلة ديمقراطية إسرائيل، لم يبدُ أن وحدة اليسار الإسرائيلي التي لطالما تم السعي إلى تحقيقها تشكّل حلمًا مستحيلًا. لكن أتت لاحقًا التنديدات من كلٍ من السياسيين اليمينيين واليساريين الوسطيين، وعززتها الأشرطة الانتقائية على وسائل التواصل الاجتماعي والتغطية الإعلامية المشوّهة. وبرزت مجددًا الانقسامات القديمة، ولم يتمكّن الشعب اليهودي-الإسرائيلي من رؤية التجمّع كمنصة للعمل المشترك وسط قضية مشتركة (أي إبطال "قانون الدولة القومية" والإطاحة بالحكومة الراهنة)، بل رأي أنه دليل إضافي على الغدر العربي-الإسرائيلي. وضاع كل التأثير الإيجابي وأمل الأغلبية الساحقة التي اختارت قضاء ليلة السبت بشكلٍ سلمي سيرًا في الشوارع، من خلال الإفراط في الترويج لبعض الأعلام والهتافات التي لم تمثّل الأغلبية العظمى.
وخلال التظاهرة، إلى جانب متحف تل أبيب، كان يجري حفلٌ موسيقيٌّ تكريميٌّ لفرقة "بيتلز" خارج دار الأوبرا. وفيما كان المتظاهرون يتقدّمون مطلقين الهتافات، كان يمكن سماع صوت الأغنية القديمة والمشهورة جدًّا للفرقة التي تقول: "كلّ ما تحتاجه هو الحبّ، الحبّ. الحبّ هو كل ما تحتاجه..."
وفي إسرائيل، سيتطلّب الأمر على ما يبدو أكثر من ذلك بكثير لإحداث تغييرٍ حقيقي.