- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
احتجاجات طرابلس هي إرهاصات لما ينتظر لبنان
الظروف العصيبة تدفع الشعب اللبناني إلى الحافة وقد يكن لهذه الظروف عواقب عنفية.
مرّ الإعلام الدولي مرور الكرام على ما شهدته مدينة طرابلس اللبنانية من حوادث عنف في الأسابيع الماضية. ليس مستغرباً ألا ترتقي هذه الحوادث وغيرها من الوقائع المؤلمة التي يعيشها لبنان إلى مستوى الاهتمام العالمي، إذ بعد خمسة عشر شهراً من الاحتجاجات، والتي أخمدت زخمها الجائحة وجعلت منها عوارض جانبية وحسب، تقتصر حصيلة القتلى على سبعة ضحايا. في الأمر طبعاً ما يدعو إلى الرجاء، بالنسبة للمحتجين أنفسهم، كما بالنسبة للعلاقة بين المدنيين والجهات الأمنية، ولكن المفارقة هي أن ذلك يؤدي أيضاً إلى تراجع المتابعة الدولية. أما الواقع، فهو أنه لاحتجاجات طرابلس أهمية كبرى لاستشفاف المستقبل المتوقع للبنان، ولا سيما في سياق الرغبة الدولية المتشكلة بالتعاون مع حزب الله سعياً لتحقيق الإصلاح المطلوب.
فالاحتجاجات العنيفة التي طالت المؤسسات الرسمية في طرابلس تشير إلى عواقب خطيرة إزاء التوجه المستجد في بعض دوائر واشنطن أنه قد يكون من المناسب ترك لبنان لتديره إيران عبر وكيلها المحلي، أي حزب الله. طرابلس هنا هي إنذار جدير بالانتباه أن هذا التوجه خاطئ، وأن إهمال لبنان إذ ينحدر نحو الهاوية قد يؤدي إلى إشتعال تنافس جديد ذي أبعاد على مستوى المنطقة والعالم.
ثمن إحكام قبضة حزب الله
في الحسابات الدولية، تكاد أهمية لبنان في منطقته أن تكون قد تراجعت في السنوات الماضية إلى مقدار الخطر الأمني الذي يشكله لإسرائيل. غير أن مصدر هذا الخطر، أي حزب الله، القائمقام المحلي لإيران، قد تمرّس الموازنة بين الخطاب العالي النبرة المجاهر بالعداء لإسرائيل، للاستهلاك المحلي بما يضمن المحافظة على صورته النضالية، وبين ضبط المواجهات الموضعية مع هذا العدو المعلن لتبقى في إطار المتوافق عليه ضمنياً من قواعد الاشتباك، بما يضمن تنفيس الاحتقان.
الناتج كان بالتالي استقراراً نسبياً مكّن حزب الله من توجيه طاقاته نحو غايتين، خدمة المصالح الإيرانية في الجوار، ولا سيما في سوريا، وإحكام قبضته على لبنان من خلال التعايش غير المتوازي مع الطبقة الحاكمة فيه. ذلك أن هذه الطبقة، الغارقة بالزبائنية والطائفية والمدمنة على النهب الممنهج، قد رضخت لنفوذ حزب الله، وإن ثابرت بعض الشخصيات فيها على التشكي من طغيان تأثيره على البلاد.
غير أنه لهذا الاستقرار عواقب خطيرة على الدولة والمجتمع، إذ يجد لبنان نفسه تحت رحمة قوة تأتمر للخارج، وتجاهر بأن همها الأول هو حماية بيئتها الحاضنة من تبعات الأعباء الاقتصادية والاجتماعية والتي يعاني منها المواطنون اللبنانيون ككل. في المقابل، فإن الشريحة السياسية المنخورة بالفساد، إذ تقدّم الغطاء المدني للاستيلاء بالإكراه على الدولة ضمن صيغة تعايش استنزافية مع حزب الله، لا تبدو معنية البتة بتحقيق الصالح الوطني العام بما يمنع انهيار لبنان.
الاحتجاجات العنيفة الأخيرة في طرابلس تعود إلى إدراك عام لهذا الواقع، وتبني على الحراك الشعبي الأوسع، والذي يشهد اليوم انكفاءاً، أي «ثورة ١٧ تشرين»، التي انطلقت في تشرين الأول ٢٠١٩. فقد استقطب هذا الحراك شرائح واسعة من الجمهور اللبناني الرافض للتهاوي الذي شهدته البلاد. غير أن الأزمات قد تفاقمت وحسب منذ اندلاع «الثورة»، فالمودعون العاديون قد حرموا من أموالهم القليلة في المصارف، فيما النخبة السياسية والاقتصادية قد استكملت تحويل ثرواتها إلى خارج عبر النظام المصرفي الفاسد. كما أن عامة المواطنين يعانون من مستويات فقر وعوز وانقطاع مواد أساسية ويأس بصورة غير مسبوقة، لتأتي الجائحة وتزيد الحال بؤساً، ثم ليقع انفجار مرفأ بيروت يوم الرابع من آب من العام الماضي كنموذج صاعق على عمق الفساد وسوء الإدارة والإفلات من العقاب.
هذه المجريات المتعاقبة تؤكد على صحة الاتهامات التي كالها المحتجون للطبقة الحاكمة، غير أن فرص «الثورة» للنجاح الفوري كانت ضعيفة ابتداءاً لشحة الإمكانيات وغياب التنظيم ولافتقادها القيادة. إلا أن ما أربك الحراك هو نجاح حزب الله والطبقة الحاكمة في اختراقه وتبديل وجهته ثم في توظيف الجائحة وما استتبعها من لامبالاة دولية إزاء التسلط المنهك للبنان من الجهة التابعة لإيران.
هذا «الانتصار» لمنظومة السلاح والفساد، على خلفية انهيار النظم النقدية والمالية والاقتصادية للبنان، أنتج المزيد من المجاهرة بالنهب والفساد والإهمال. وتجاهلت الطبقة السياسية اللبنانية مطالب الأسرة الدولية الشروع بالإصلاحات لاستعادة ثقة المجتمع العالمي بلبنان والاستحصال على الدعم الكفيل بإنقاذه. بل تركت المستشفيات الميدانية، والتي أرسلتها الدول الصديقة للمساعدة إزاء الجائحة وانفجار المرفأ، في صناديقها ولم تعمد إلى تفعيلها. ولم توزّع الطحين الذي أرسله العراق للمساهمة بمواجهة العوز المستشري، كي لا يعكّر توزيعه أرباح المتسلطين على الرغيف. أما السلع المدعومة بأموال مرصودة لمعاونة المستهلك اللبناني والذي شهد انخفاض دخله، إن لم ينقطع بالكامل، إلى الثلث ما كان عليه نتيجة تدني سعر صرف العملة الوطنية، فقد وجدت هذه السلع سبيلها الفاسد إلى أسواق بعيدة، في الكويت وجمهورية الكونغو الديمقراطية. وسواء كانت هذه الأعمال متعمدة لدفع الجمهور اللبناني إلى اليأس، أو جاءت وحسب لتعكس الجشع لتحقيق الربح غير المشروع، فإن نتيجتها هي المزيد من التراجع للطبقة الوسطى في لبنان، وهي الحاضنة الطبيعية لدعوات الإصلاح الجدي.
هذا النهب الممنهج الواسع النطاق من شأنه هنا أن يعرّض الطبقة الوسطى للضربة القاضية وأن يكون ذا عواقب تستمر لعقود، ولكنه لن يمنح القائمقام المحلي لإيران ولا الشريحة السياسية الناهبة بلاداً خانعة يسهل التحكم بها. بل قد تكون حوادث العنف التي شهدتها طرابلس الإرهاص للمرحلة الشديدة الحرج والخطورة والتي قد ينحدر إليها لبنان.
الإنذار الصادر من طرابلس
طرابلس، «عاصمة الشمال»، هي المدينة الثانية في لبنان من حيث تعداد السكان، غير أنها تعاني من الإهمال الحكومي المزمن. كان من المفترض أن يجلب إليها «معرض طرابلس الدولي»، والذي بوشر العمل لإنشائه في ستينات القرن الماضي، ملايين الزوار سنوياً، غير أن أنقاضه القابعة عند مدخل المدينة أبلغ شاهد على عمق الإهمال الذي تعيشه منذ عقود. لقد كان لطرابلس قطاع صناعي هام، هو اليوم متروك للصدأ، وكانت تزين مداخلها حدائق الحمضيات، وهي اليوم قد تلاشت. وانحدار طرابلس قد تفاقم نتيجة البؤس الذي ترزح تحته الأقضية المجاورة لها في شمالي لبنان، والذي ضاعف وطأته الاحتلال السوري إلى العام ٢٠٠٥، وغياب مشاريع الإنماء الحكومية منذئذ.
غالب سكان طرابلس من اللبنانيين السنة، على أن التشهير بالمدينة على أنها «قندهار لبنان»، في زعم أنها تحضن الجهاديين، ليس نتيجة وقائع تقتضي الصفة بل هو جزء من مسعى إشاعة معلومات مشوّهة لإثارة الخوف من «السنة»، لصالح حزب الله وشركائه، حيث أن قدرة المجموعات المتطرفة على التجنيد لم تتجاوز يوماً هامش الهامش. أما الواقع فهو أن «محور المقاومة»، أي إيران وحزب الله والنظام السوري، قد اجتهد دوماً لإثارة التطرف في طرابلس، وذلك لتوظيفه كطرف معارض شكلاً خاضع له من حيث يعلم أو لا يعلم ضمناً. وجهود إثارة التطرف هذه تراوحت من الدعم المباشر للتشكيلات الإسلامية في المدينة، وصولاً إلى تفجير المساجد، مروراً بحالات الترهيب اليومية المستمرة.
ولكن رغم كل هذه الجهود، فإن طرابلس تجاوبت مع «ثورة ١٧ تشرين» فور اندلاعها، بما جسّدته هذه الثورة من دعوة للوحدة الوطنية والعمل المدني الهادف، باندفاع منقطع النظير، وبمشاركة شعبية واسعة غير مسبوقة، وبأجواء احتفالية متواصلة. وكان على محور الممانعة اللجوء إلى كافة الأدوات والأساليب من القمع والاختراق لدفع طرابلس إلى بعض التراجع عمّا حققته من الارتفاع في الوعي الوطني.
والطبقة الوسطى في طرابلس، المتحققة منها والكامنة، تشترك مع نظيراتها في كل لبنان بما تواجهه من يأس وضيق، تيئيس وتضييق، وهي بالتالي إلى تراجع في حجمها، فيما الأمل المعقود على عودة «الثورة» يتضاءل. وطرابلس للتوّ تختضن أعداد كبيرة من المعوزين والمعدمين، من أهل المدينة نفسها ومن الوافدين إليها من الجوار. وطاقة هؤلاء جميعاً على تحمّل المزيد من تآكل الشحيح من الامتيازات المتبقية لهم، فيما الطبقة السياسية تفرط في التهامها الموارد الوطنية، قد اقتربت من النفاذ.
غير أن طرابلس هي أيضاً مدينة الأثرياء المفرطين بالثراء. يعضهم وبعض الطبقة الحاكمة المتداخلة بهم قد عمدوا مرات عدة إلى تجيير العوز والحاجة لدى فقراء المدينة لتحريك احتجاجات متوافقة مع مصالحهم.
في الأسابيع الماضية، شهدت طرابلس تصعيداً غير مسبوق من الاحتجاجات العنيفة التي أودت في النهاية إلى حرق السراي الحكومي وتخريب منشآت أمنية. وقد يكون من السهل والمناسب لبعض الشخصيات القيادية في طرابلس نفسها وفي لبنان ككل الربط بين هذه الوقائع وما سبق لخصومهم من توظيف لبعض التحركات الاحتجاجية. غير أن حجم الاحتجاج ومضمونه وطبيعته توشي بأمر مستجد.
فقد غابت عن هذه الاحتجاجات المطالبة بالإصلاح، والإدانة العرّاضية للحكام، والمطالبة بتنحي الطبقة السياسية الفاسدة، والدعوة إلى قيام لبنان جديد ومنصف، كما كان الصوت في الاحتجاجات الماضية. بل غاب النشاط المبرز للحس المدني والوعي الوطني لدي المحتجين، غاب مشهد المحتجين ينظفون الشوارع والساحات عند نهاية الاحتجاج، وغابت الاحتفاليات الصاخبة، مهرجانات الثورة وأغانيها والإضاءات المتناغمة عبر الهواتف المحمولة للتعبير عن التلاحم ووحدة المسار والمصير، بما يظهر ولادة حالة وطنية جديدة. ما أظهرته الاحتجاجات الأخيرة بدلاً عن ذلك هو الغضب الفجّ والإحباط المتعاظم لدى جمهور يقترب من مطلق العوز والجوع واليأس. وما أبرزته هذه الاحتجاجات هو أن الشباب المجتج إذ يدرك الثمن الصحي الذي قد يدفعه نتيجة الجائحة، فإنه يجده أقل وطأة بالنسبة له من الخضوع والخنوع للظلام الفعلي والمجازي.
المتظاهرون والمحتجون في طرابلس أجابوا من خلال العنف وبشكل مباشر على فشل الطبقة الحاكمة لانعدام الإرادة أو لانعدام القدرة المباشرة بالإصلاح، وعلى استغلال هذه الطبقة للأوضاع المتردية للمزيد من النهب، وعلى تبعية هذه الطبقة لسلاح الجهة الموالية لإيران.
ما يدركه المحتجون في طرابلس، وهو ما يبدو أن أصدقاء لبنان الصادقين في واشنطن وپاريس يغفلون عنه، هو أنه لا يمكن ترقب أو توقع أو انتظار أي إصلاح من الطبقة السياسية الحاكمة في لبنان. ليس ثمة مقدار من الترغيب ولا من الإذلال ولا من التهديد كفيل بأن يفطم حكام لبنان من نهمهم في نهبهم، أو أن يردعهم عن الخوض في معاركهم الصغيرة التافهة مع بعضهم البعض لتحقيق انتصارات بدورها صغيرة تافهة.
وهذه الاحتجاجات تشكل كذلك نقضاً للقراءة المتشكلة في دوائر صياغة القرار على ضفتي المحيط الأطلسي، والقائلة بأن حزب الله قد لا يكون بريئاً من الفساد، ولكنه أقل فساداً من الآخرين، ثم أنه في حال إقصائه قادر على عرقلة أي مسعى سياسي في لبنان، والأصح بالتالي التواصل معه وكسبه إلى العملية الإصلاحية، بل ربما توكيله شقاً ومسؤولية حول الوضع اللبناني في المرحلة المقبلة.
هي قراءة نابعة من رغبة بإيجاد حل معقول للمأزق اللبناني بسعر مقبول. ولكنها قراءة تخطئ تبين الكلفة البعيدة المدى لهذه المجازفة التي تنضوي على تسليم لبنان لإيران من خلال حزب الله، بما يوءي في النهاية إلى انهياره.
فإيران قد أقامت الأسس وأنشأت المؤسسات الكفيلة بأن تضمن للبيئة الحاضنة لحزب الله قدراً أولياً من الخدمات الاجتماعية والاقتصادية، وهي بالتالي لا حاجة ملحة لها لدعم برنامج إنقاذ وطني موضع التطبيق في لبنان. بل إن الحصيلة النهائية للتراجع الذي يعاني منه لبنان في اقتصاده وفي تركيبته الاجتماعية تنسجم مع المصلحة الإيرانية، من حيث تسببها بالمزيد من الحاجة والتبعية لدى الطبقة السياسية لقائمقامها المحلي.
ثم أن الطبقة الوسطى الوطنية العابرة للطوائف، وهي الحاضنة للمعارضة الحقيقية لغلبة النفوذ الإيراني، معرّضة مع استمرار الأزمة للمزيد من الضعف والإنهاك. أما فيما يتعلق بظهور تظرف «سني» معارض لإيران، فهو أمر مستطاب، إذ من شأنه ابتداءاً أن يبقى مخترقاً وعرضة للتوظيف، ثم حتى إذا كان سبيلاً لدخول تركيا كطرف فاعل على الساحة اللبنانية، وحتى إذا شهد بروز جماعات متطرفة حقيقية، فإن في الأمر جانب إيجابي، إذ يعترض عودة ارتفاع تأثير المملكة العربية السعودية وغيرها من دول الخليج على الأوساط اللبنانية السنية، بعد أن سارت هذه الدول باتجاه التخلي عن حضورها ووزنها في لبنان في السنوات الماضية.
الحقيقة الصعبة هي أن لبنان غير قادر على تحقيق الإصلاح. فحتى لو كان هذا الوطن دائرة مقفلة فإن التعزيز المستجد للتشظي العامودي، من خلال الزبائنية والطائفية، يشكل عائقاً مانعاً يستعصي على الطبقة الوسطى المستنزَفة تجاوزه. على أن لبنان ليس دائرة مقفلة، بل لإيران الرغبة والقدرة لتعزيز حضورها فيه، وذلك لتقوية مكانتها على مستوى المنطقة والعالم، دون اعتبار للضرر المتراكم على المدى البعيد بحق لبنان نفسه.
الإهمال الإعلامي لاحتجاجات طرابلس دولياً يعكس في واقع الأمر شحة المعارضة عالمياً لمسعى إيران إلى توطيد تأثيرها في لبنان. لدول الخليج اليوم قادة جدد تخلوا فعلياً عن لبنان بعد أن كان تمسك آبائهم به مؤطر بالعاطفة. وللعواصم الغربية انشغالات بعيدة عن الهم اللبناني. فاحتمال أن يتمكن لبنان من انتزاع نفسه من ورطته يقارب العدم. وعليه فقد يتوجب على اللبنانيين، وسائر العالم، ترقب وصول المدعوين الجدد لخوض المغامرة التي تديرها إيران. تركيا عند الحد الأدنى، مع احتمال أن يشهد لبنان عودة لتطرف مستجد ينشئ في شماله بؤر تطرف بما يتوافق مع ما زعمه الإعلام الموالي لإيران زوراً.
احتجاجات طرابلس هي بالتالي إرهاصات للمخاطر والمحاذير التي قد تواجه لبنان في المرحلة المقبلة. ولكن طرابلس لا تحتكر الفقر والجوع واليأس في لبنان. أي أن أياماً مظلمة مقبلة على الوطن برمّته. التخلي عن لبنان لصالح حكم أمر واقع تابع لإيران، مهما كان التأطير، ليس الحل الناجع البتّة، بل من شأنه أن يفاقم الأزمة، ويضاعف العنف، ويزيد من التحديات للاستقرار في عموم المنطقة.