- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
أكراد العراق يواجهون مشاكل متعلقة بالشرعية وسط الجمود الانتخابي والانقسام الداخلي وضغوط بغداد
يتجه إقليم كردستان العراق إلى حالة من عدم اليقين السياسي والمالي غير المسبوق نتيجة للخلافات المتزايدة بين الأحزاب الحاكمة والتدابير التي تتخذها الحكومة المركزية بهدف تقويض الحكم الذاتي الذي يتمتع به الإقليم.
كان من المقرر في البداية إجراء الانتخابات البرلمانية في الأول من تشرين الأول/أكتوبر 2022 في إقليم كردستان العراق، لكنها أُرجئت إلى 18 تشرين الثاني/نوفمبر 2023، نظرا لعدم تمكن الأحزاب من التوصل إلى اتفاقٍ بشأن النظام الانتخابي. تجدر الإشارة إلى أن كلا من البرلمان والحكومة قد انتهت ولايتهما التي دامت لمدة أربعة سنوات في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، وأعلن رئيس إقليم كردستان أنه سيتم تأجيل الانتخابات مجددًا، وتقرر إجراؤها في 25 شباط/فبراير 2024.
رغم أن "الحزب الديمقراطي الكردستاني" و"الاتحاد الوطني الكردستاني" اتفقا على إجراء الانتخابات في الموعد الذى قرره رئيس إقليم كردستان العراق، لم تتمكن تلك الأحزاب من التوصل لاتفاق مفصل بشأن حصة الأقلية المثيرة للجدل، ولا شيء يضمن تنظيم الانتخابات في الموعد المحدد لها في شهر شباط/فبراير 2024.
الانقسامات الداخلية
لطالما اختلف "الحزب الديمقراطي الكردستاني" بقيادة عائلة بارزاني، و"الاتحاد الوطني الكردستاني “بقيادة عائلة طالباني، في الداخل وفي بغداد حول مجموعة متنوعة من القضايا التي غالبا ما تعيق التقارب المحتمل بينهما. و في الواقع، بلغ الشقاق بين الطرفين عتبة النزاع المسلح، وهو ما يذكر بالحرب الأهلية الدموية التي اندلعت في الفترة ما بين عامي 1994-1997،عندما اتهم "الحزب الديمقراطي الكردستاني" "الاتحاد الوطني الكردستاني" بالخيانة، لأن هذا الأخير سحب قواته من كركوك بعد استفتاء الاستقلال المشؤوم الذي جرى في عام 2017. ومن ثم، لم تعد علاقة الحزبَين على حالها بعد نقطة الخلاف الخطير هذه وساد انعدام الثقة بينهما. وفي الآونة الأخيرة، تجلى التنافس بين الحزبين في عملية تشكيل الحكومة في بغداد العام الماضي، إذ تحالفَ "الحزب الديمقراطي الكردستاني" مع "التيار الصدري" والأحزاب السنّية، بينما انضم "الاتحاد الوطني الكردستاني" إلى "الإطار التنسيقي" الشيعي المنافس الذي تدعمه إيران.
وتشمل مصادر التوتر أيضًا ادعاءات "الاتحاد الوطني الكردستاني" بأن حكومة إقليم كردستان التي يهيمن عليها "الحزب الديمقراطي الكردستاني" لا تخصص موازنة أو خدمات كافية للسليمانية، بقدر ما توفر لأربيل. وفي المقابل، يشير "الحزب الديمقراطي الكردستاني"، الذي يقع مقره في أربيل، إلى أن إيرادات السليمانية ونفقاتها ليست شفافة، ويجب بالتالي إدماجها في حسابات حكومة إقليم كردستان.
كذلك، أصبح تصدير احتياطيات الغاز الطبيعي الغنية في السليمانية يشكل نقطة شائكة طال أمدها بين الحزبين، إذ لا يريد "الاتحاد الوطني الكردستاني" إدراج غازه الطبيعي في صفقات الطاقة التي يبرمها "الحزب الديمقراطي الكردستاني" مع تركيا. ومن ناحية أخرى، توقفت الحملة التي يحفزها الغرب لتوحيد قوات البيشمركة الكردية وإصلاحها، إذ يخشى كلٌّ من "الحزب الديمقراطي الكردستاني" و"الاتحاد الوطني الكردستاني" خسارة القوات العسكرية التي يملكها الحزبان والتي خولت لهما تولي مقاليد السلطة السياسية على مدى عقودٍ.
بلغ الشقاق بين "الحزب الديمقراطي الكردستاني" و"الاتحاد الوطني الكردستاني" درجة الغليان في تشرين الثاني/أكتوبر 2022، عندما اغتيل هوكر الجاف في أربيل، وهو عقيد سابق في "جهاز مكافحة الإرهاب" التابعة لـ"الاتحاد الوطني الكردستاني". لقد اتهم "الحزب الديمقراطي الكردستاني" "الاتحاد الوطني الكردستاني" بتدبير هذه المؤامرة. واشتدت حدة التوترات أيضًا بعد أيام قليلة عندما أفادت تقارير عن محاصرة جماعة مسلحة لمنزل قباد طالباني، أي نائب رئيس وزراء إقليم كردستان وشقيق زعيم "الاتحاد الوطني الكردستاني" بافل طالباني، في أربيل، ما دفع ربما قباد طالباني إلى مقاطعة الاجتماعات الأسبوعية التي يعقدها مجلس الوزراء إقليم كردستان العراق. في الواقع، تجلت التوترات المتصاعدة بين الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني مرة أخرى بعد امتناع العديد من وزراء الاتحاد الوطني الكردستاني من حضور اجتماعات مجلس الوزراء في إقليم كوردستان التي دامت لمدة ستة أشهر، علاوة على الاشتباك الذى حدث بالأيادي بين الحزبين خلال جلسة انتخابية في برلمان إقليم كردستان. إلى جانب الخلافات التي نشبت بينهما، يتصارع الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني أيضًا على حصص الأقلية المكونة من 11 مقعدًا، حيث يرى الأخير وبعض الأحزاب الكردية الأخرى بشكل أساسي أن الحزب الديمقراطي الكردستاني يستغل النظام الانتخابي الحالي لانتخاب أسماء قريبة منه وموالية له.
وفي حين فشلت الاجتماعات السابقة التي توسطت فيها "بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق" ("يونامي") والجهود التي بذلها رئيس إقليم كردستان العراق نيجيرفان بارزاني من أجل حل المشاكل الانتخابية، ساعدت الجهود التي بذلتها مساعِدة وزير الخارجية الأمريكية لشؤون الشرق الأدنى باربرا ليف الحزبين على إعادة التوحد في مجلس الوزراء، وأشارت إلى احتمال أن تقوم الولايات المتحدة بوقف دعمها للأكراد كوسيلة ضغط، بما في ذلك المساعدة الشهرية لقوات البيشمركة الكردية التي تبلغ قيمتها 20 مليون دولار.
جهود بغداد لتقييد حرية تصرف الأكراد
بعد انتهاء ولاية البرلمان في إقليم كردستان العراق، حاول أكراد العراق تمديد ولاية البرلمان لعامٍ آخر، لكن "المحكمة الاتحادية العليا" في العراق وجدت أن التمديد غير دستوري، وقيّد قرارها في الواقع حرية تصرف الأكراد. والمقصود تحديدًا هو أن حُكم المحكمة ألغى بشكل أساسي "مفوضية الانتخابات" في إقليم كردستان، وتتوقع الأحزاب الكردية الآن أن تشرف "مفوضية الانتخابات" العراقية على انتخابات إقليم كردستان. ومع ذلك، لا يزال هناك لغز حول ما إذا كانت انتخابات إقليم كوردستان ستُعقد في هذا التاريخ أم سيتم تأجيلها مرة أخرى نتيجة الخلافات المستمرة بين الأحزاب الكردية والمشاكل المحتملة الناتجة عن مفوضية الانتخابات العراقية.
في واقع الأمر، لم يعقد إقليم كردستان العراق الانتخابات في موعدها منذ تأسيسه فعليا في عام 1992، وما زالت هناك فرصة ضئيلة لإجراء الانتخابات في العام المقبل. ويعيش الأكراد وضعًا أصعب من أي وقتٍ مضى بسبب تزامن الانقسامات العميقة بين الأحزاب الكردية مع قرارات بغداد الرامية إلى الحد من الحكم الذاتي الذي يتمتع به إقليم كردستان العراق. وخير مثال على ذلك هو حُكم "المحكمة الاتحادية" العراقية الذي صدر في شباط/فبراير 2022 واعتبر أن قانون النفط في إقليم كردستان العراق غير دستوري، إذ اتُخذ من دون شك لمنع الأكراد من بيع النفط إلى تركيا بشكلٍ مستقلٍ عن بغداد. ومع أن صادرات النفط تُشكل فعليًا مصدر الدخل الوحيد لإقليم كردستان العراق، فقد عُلّقت منذ 25 آذار/مارس بعد أن أصدرت "الهيئة الدولية للتحكيم" التي يقع مقرها في باريس حكمًا لصالح الحكومة الفيدرالية العراقية بشأن قضية تصدير إقليم كردستان العراق للنفط المثيرة للجدل إلى تركيا. وفي غضون ذلك، تَعيَّن على إقليم كردستان العراق الاتفاق مع الحكومة المركزية على بيع نفطه عبر بغداد مقابل الحصول على حصة إقليمية من الموازنة. لقد انتزعت هذه الصفقة حرفيًا استقلالية إقليم كردستان الاقتصادية التي شجعت الأكراد على إجراء استفتاء الاستقلال في عام 2017، حيث أصبح حصول الأكراد على حصتهم من الموازنة غير مضمونًا بعد أن فشلت بغداد في التوصل لاتفاق مع تركيا بشأن تصدير النفط الكردي.
أثار أيضًا قانون الموازنة العراقية الذى أصدره البرلمان العراقي في كانون الثاني/يناير والذي يغطي ثلاث سنوات، الجدل في إقليم كردستان العراق لأنه يمنح المدن الكردية حق المطالبة بحصتها في الموازنة من الحكومة المركزية في حال الاختلاف مع إقليم كردستان العراق. ولا شك في أن هذه الخطوة تعزز نفوذ "الاتحاد الوطني الكردستاني" الذي يسعى إلى تحقيق اللامركزية بعيدًا عن أربيل في ظل توطيد علاقاته مع بغداد. وإذا تم تطبيق هذا القانون، وهو أمرٌ محتملٌ جدًا، فقد يؤدي طبعًا إلى تشرذم التكامل المالي في إقليم كردستان أكثر فأكثر ويضيف بُعدًا جديدًا إلى المشاكل الحالية التي يعاني منها الأكراد.
من شأن انتهاء ولايتَي البرلمان والحكومة في إقليم كردستان العراق عادة أن يدق ناقوس الخطر ويثير التساؤلات حول الشرعية. ولكن خطوات العزل التي تتخذها الحكومة المركزية والتوترات المتزايدة بين الحزبين، تشت على ما يبدو ذهن أكراد العراق عن المأزق الانتخابي. وعلى نحو مماثل، تنشأ ربما اللامبالاة المتنامية إزاء المؤسسات الديمقراطية عن عدم إيمان عامة الناس بالانتخابات وبالتغيير المحتمل الذي قد تولّده. في الواقع، على الرغم من أن إقليم كردستان العراق يملك حكومة منتخَبة وبرلمانًا موحَّدًا في أربيل، يحكم الإقليم عمليًا وبشكلٍ منفصلٍ الحزبان الحاكمان في كلٍ من أربيل، وهي المنطقة الصفراء التي يسيطر عليها "الحزب الديمقراطي الكردستاني"، والسليمانية، وهي المنطقة الخضراء التي يسيطر عليها "الاتحاد الوطني الكردستاني". ويملك كل حزبٍ، منذ نحو ثلاثين عامًا، هيئاته الإدارية الخاصة به، وقوات البيشمركة الخاصة به، ووحدات مكافحة الإرهاب والاستخبارات الخاصة به.
يولد هذا الانقسام بين الأكراد الشكوك وعدم اليقين بشأن الانتخابات ومخاوف بشأن المعايير الديمقراطية، ويترك أيضًا الأحزاب الكردية عرضةً لتدابير الحكومة المركزية التي قد ترسّخ هذه الانقسامات. وكما أثبت التاريخ، تستطيع هذه الأحزاب تحقيق نتائج باهرة عندما "تُجاري الأمور"، مثلما حدث في أوائل تسعينات القرن العشرين وحقبة ما بعد عام 2003 عندما ضمنت مكانة لها. ولكن في حال لم تُجاري الأمور، سيُحكم عليها بالفشل، كما تَبيّنَ منذ إجراء الاستفتاء حول الاستقلال في عام 2017، حين خسر إقليم كردستان مدينة كركوك الغنية بالنفط. ونظرًا إلى تطويق بغداد المتزايد لإقليم كردستان، يتطلب ربما مستوى الخلاف الحالي المثير للقلق بين "الحزب الديمقراطي الكردستاني" و"الاتحاد الوطني الكردستاني" إبرام اتفاق أكثر شمولًا وجديةً يشبه "اتفاقية واشنطن" لعام 1998. وإذا لم يتم التوصل إلى هذا الاتفاق، قد يتسع نطاق الشقاق بين الحزبين السياسيين ويتسبب بتزايد الانقسام الداخلي في إقليم كردستان العراق، وزيادة اعتماد الإقليم على بغداد، وزيادة تَعَرّضه للنفوذ الذي يسعى إلى تقويض حكمه الذاتي.