- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
الاندماج الاجتماعي والمرونة الديمقراطية: الأداتان الأوروبيتان ضد الإرهاب على المدى الطويل
بغية إطلاق "الحرب المقدسة" ضد الغرب، حاول تنظيم "القاعدة" جذب الدول الغربية إلى المستنقع العسكري في الشرق الأوسط. بيد أن هدف تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام" داعش" يكمن في خلق صراع اجتماعي في الغرب من أجل إضعافه، ذلك بما أن العدو الضعيف يشكّل هدفًا أسهل على المدى الطويل. فكما جاء في مقال صادر عن صحيفة الغارديان "يعتمد قادة "داعش" والتابعين لهم طرقًا مبتكرة لمحاولة إضعاف المجتمعات الغربية من الداخل".
للقيام بذلك، اعتمد تنظيم "داعش" أعمالًا إرهابية متطورة على نحو متزايد بالتزامن مع عملية تحفيز على المستوى الشعبي وتوسع عسكري في سوريا والعراق، عبر شن الهجمات على السياح الغربيين أولًا ثم على الغربيين في دولهم الخاصة، مثل فرنسا. بالتالي يظهر أن إستراتيجية التنظيم تقوم على تحقيق هدفين محددين: تأجيج "صراع الحضارات" من جهة، وخلق أزمة في الديمقراطية الغربية التي تقوم على التعايش في إطار التنوع والحرية الفردية والمساواة في المواطنية من جهة أخرى. فمن دون صراع اجتماعي كبير في أوروبا، لا يمكن للتنظيم، على المدى الطويل، أن يأمل بالبقاء العسكري في الشرق الأوسط. في الواقع، لقي التنظيم حتى الآن هزيمة مدوّية. ولكن هذه الهزيمة لم تنتج عن قرارات أمنية فعّالة من قبل أوروبا، وإنما أتت نتيجة الاندماج الاجتماعي والمرونة الديمقراطية القويين.
لقد تم اللجوء إلى "صراع الحضارات" في محاولة القيام بشكل إستراتيجي بخلق انقسامات وشكوك وتحيزات لتسهيل نوع من أنواع الصراع منخفض الحدة بين المسلمين والمسيحيين في أوروبا. في هذا الإطار، تشكل فرنسا المكان المثالي للانطلاق، وذلك بسبب العدد الكبير من المهاجرين المسلمين، والنفوذ الاستعماري الذي تمتعت به في الماضي، مما أدى إلى إعطاء الخلايا الإرهابية شرعية بنظر الإرهابيين وإلى نشوء أجيال من الشباب المغترب، وكذلك بسبب ما تمثله كبديل لرؤية "الإسلام السياسي" الصارم. إضافة إلى ذلك، تمتلك فرنسا قيمًا جمهورية علمانية أساسية تقوم على الفصل بين الدين والدولة، ونتيجة لذلك، تعرض بعض المسلمين لتمييز بسبب الدين (من قضايا اللحوم الحلال في المدارس الحكومية وصولًا إلى قضية لباس البوركيني التي ظهرت مؤخرًا). ولكن هذا الشرخ الاجتماعي لصراع منخفض الحدة لم يحدث في فرنسا أو في أي مكان آخر في أوروبا الغربية، وذلك نظرًا إلى تعدد الثقافات في المجتمع الأوروبي. فحتى لو كان أولئك الذي يعدّون للأعمال الإرهابية بشكل منفرد ("الذئاب المنفردة"، والمتطرفون المحليون، والمواطنون الأوروبيون الذين غادروا للقتال إلى جانب "داعش" قادرين على خلق حالة من الذعر واليأس من خلال مؤامراتهم، إلا أنهم لم يغيروا النسيج الاجتماعي والهوية التي تم بناؤها على مدى قرون من "الحرب والسلم"، وما تم مؤخرًا من تقارب بين الأعراق والأديان.
أما الهدف الثاني فقد كمن في إدخال الخوف من الهجمات المستمرة إلى الحياة اليومية. إذ أراد الإرهابيون الجهاديون أن يشنوا الهجمات على الغرب، من مطاعمه إلى شواطئه، بغية مهاجمة الديمقراطية الليبرالية الغربية، بسيادة قانونها والديمقراطية الشاملة والحريات الليبرالية فيها. وقامت الإستراتيجية على تسهيل قيام "حالة استثناء" دائمة، على حد تعبير أغامبين، مما يضع حياة المواطن تحت مراقبة مستمرة لتجنب خطر الهجمات (على سبيل المثال، بطريقة مشابهة للوضع في إسرائيل). كان من المحتمل أن يحقق تنظيم "داعش" هذا الهدف، لا سيما في ظل الفساد الاقتصادي المستشري من الغرب، وظهور الحركة الشعوبية والأحزاب اليمينية. وإن فرنسا مبدئيًا في "حالة طوارئ" منذ تشرين الثاني/ نوفمبر 2015، مع منح صلاحيات خاصة للسلطة التنفيذية. ولكن لا يزال من الصعب جدًا أن تغيّر حكم بعض الهجمات الإرهابية القانون الأوروبي والتعايش المدني.
لكن أوروبا بحاجة إلى الحفاظ على يقظتها في خلال السير في هذا المسار، حتى ولو لم يكن الصيف عنيفًا كما كان متوقعًا. إذ لا يمكن أن يبيّن رد فعلها تجاه هجوم إرهابي آخر عن ارتباك. ففي كل أزمة، يبرز وقت للتفكير بعد وقت انتشار الفوضى، وهذا الوقت يُستخدم لإعداد إستراتيجية الرد والهجوم المضاد، وأوروبا تعيش هذا اللحظة حاليًا. بالتالي، يجدر بالإستراتيجية التي يتعين على أوروبا أن تعتمدها لمحاربة الإرهاب الجهادي والانتصار عليه في نهاية المطاف، أن تقوم على التكامل الاجتماعي والمرونة الديمقراطية.
يتعين على أوروبا تحسين عملية الاندماج الاجتماعي فيها، سواء على المستوى الاقتصادي أو الثقافي. كما تحتاج إلى تعزيز سلامتها الاقتصادية من خلال حيز أكبر من الاندماج والتنمية من أجل جذب الشباب المحبطين والمهمشين الذين قد يشعرون بأنهم مستبعدون من المجتمع.
هذا ولا بد من تحسين الهيكلية الثقافية الأوروبية بغية خلق مجتمعات مستقبلية منصهرة فعلًا، مثل الولايات المتحدة. على سبيل المثال، يجب على المواطنين الأوروبيين أن يتعلموا لغات المهاجرين الجدد، وليس العكس فقط. كما يتوجب عليهم الإصغاء إلى قصص هؤلاء واكتشاف تراثهم الثقافي، وعدم التفاخر فقط بثقافتهم الخاصة وبالتحدث عنها.
إلى جانب الاندماج الاجتماعي، يتعين على أوروبا أيضًا المحافظة على مرونتها الديمقراطية، وإعادة تعلم كيفية التوصل إلى توافق في الآراء، واستعادة قيمها المتعلقة بالحرية والشفافية والوضوح والحياة العامة في ساحة أغورا المركزية ذات الدور الجامع في أثينا، للوصول إلى نهضة ديمقراطية جديدة. فهذه هي القوة التي يجب على أوروبا وجميع الديمقراطيات الليبرالية الواعية استعادتها: فلا تكون فقط عبارة عن "حكومة الشعب، من الشعب، وللشعب" ولكن تكون حكومة مع الشعب. بهدف التغلب على الأزمة الحالية في الديمقراطية التمثيلية، كما تبيّن لنا من الانبعاث الأخير للموجة الشعبية، يجب على المواطنين المشاركة أكثر في إدارة "الجمهور"، والجمهورية القائمة على الجمهور، بغية تضييق الفجوة بين الأحزاب والمواطنين، وخلق أشكال جديدة من الديمقراطية الأكثر مباشرة ومشاركة. وهذا يشمل مشاركة المواطنين المسلمين، الذين يحتاجون إلى الشعور بالراحة في المشاركة في الحياة العامة، وبذلك خلق إسلام أوروبي. فكما قال الرئيس الفرنسي فرنسوا هولند مؤخرًا: "هل يستطيع الإسلام أن يستوعب العلمانية؟ جوابي هو نعم. من الواضح أنه يمكنه ذلك. لا شيء في العلمانية يتعارض مع ممارسة الإسلام في فرنسا، وهذه هي النقطة الأساسية التي تتوافق مع القانون. لا بد من إنجاح عملية بناء إسلام خاص بفرنسا".
بيد أنه لا بد لهذه المرونة الديمقراطية أن تقترن بعقد اجتماعي جديد بين المؤسسات والمواطنين في ما يتعلق بالقضايا الأمنية. إذ يجب على المواطنين المشاركة في حماية سلامتهم وأمنهم من خلال النقاش، وليس الأسلحة. فبغية بناء الثقة ببعضنا البعض في أوقات الخوف، يجب علينا إعادة بناء "رأس المال الاجتماعي" ذاك، الذي فُقد في خلال موجة التحضر المفرط والثورة التكنولوجية التي شهدها العالم مؤخرًا. ويرى روبرت بوتنام في مقولته الشهيرة إن " إنجاح الديمقراطية " يتطلب مستوى عال من رأس المال الاجتماعي، قائم على أساس المشاركة المدنية والمشاركة السياسية، وذلك من خلال مواطنين فاعلين يهتمون بالصالح العام. ومن ثم، يصبح هؤلاء المواطنون قادرين على التحكم بشكل أفضل في إداراتهم، وبيئتهم، كما سيكونون قادرين على حماية أنفسهم بشكل أفضل. وصحيح أنه سيتوجب على الأمن أن يرتكز على برامج أكثر تنسيقًا بين دولنا وسياساتنا، لكنه سيحتاج أيضًا إلى المزيد من الوعي في صفوف المواطنين: نحن بحاجة إلى أن نتعلم كيفية الحفاظ على الحرية من خلال الاهتمام والرعاية. علينا أن نتعلم كيفية حماية أنفسنا بشكل أفضل لتجنب أي خطر بقيام دولة بوليسية. من المؤكد أن الأمر لن يكون سهلًا، لأنه سيحتاج إلى تحول تربوي في نهجنا اليومي وحياتنا المجتمعية، ولكن من الممكن رغم ذلك تحقيقه. والجدير بالذكر أنه ليس على ذلك أن يغيّر من حريتنا. فعلينا المحافظة على أسلوبنا في الحياة، وعلى اندماجنا الاجتماعي وانفتاحنا، بجميع جوانبه، مع تخصيص الوقت للتسلية والترفيه إلى جانب المشاركة الاجتماعية. فهذه هويتنا وهذا ما علينا الحفاظ عليه لمواجهة الإرهاب.
في النهاية، ستأخذ الحرب التي على أوروبا والغرب شنها ضد الإرهاب الجهادي بعض الوقت، ولكن إذا التزمنا بقيمنا القائمة على التكامل والديمقراطية سننتصر في هذه الحرب قريبًا. فكما قال جيوفاني فالكوني، القاضي الإيطالي الذي قُتل على يد المافيا، ذات مرة عن هذه المافيا: "إنها ظاهرة من صنع الإنسان، وكما كل الظواهر من صنع الإنسان لها بداية وتطور، وسيكون لها أيضًا نهاية".
ماوريتسيو جيري هو مرشح لدرجة الدكتوراه ومساعد باحث في الدراسات الدولية في جامعة أولد دومينيون.
"منتدى فكرة"