- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
الانقلاب العراقي البنفسجي: إنه صدمة عراقية بامتياز
تُظهر النتائج الأولية للانتخابات معارضة العراقيين للنفوذ الأجنبي وأثر مرجعية النجف، حيث يقود التيار الصدري عملية بناء تحالف لتشكيل البرلمان المقبل.
تستخدم (أن) في اللغة العربية لتوكيد الجملة، ولذلك استخدمتها هنا لتأكيد أن أفضل وصف لانتخابات العراق هذه المرة أنها "انتخابات عراقية" عاقب فيها الناخب العراقي معظم المرشحين الذين شك في أن ولائهم قد لا يكون للعراق فقط. ولأني أعلم أن التغيير هو ما طالب به العراقيون، وشبابهم تحديدا، كما أعلم أن التغيير لا يمكن أن يحصل إلا إذا أصر أغلبية العراقيين عليه، فسأركز اهتمامي في هذا المقال على نتائج الانتخابات التي أعلنت أمس في بغداد والمنطقة الجنوبية باعتبارها المحرك الأساسي للتغيير.
لقد جاءت تلك النتائج لتعكس تغييرا حقيقيا في الخارطة السياسية العراقية وبعكس معظم التوقعات السابقة للانتخابات. وعلى الرغم من تحذيري من فخ التوقعات بسبب التغيير الجذري في قانون الانتخابات الذي قسم العراق الى 83 دائرة انتخابية إلا إني لم أتوقع أيضا حصول مثل هذا التغيير الكمي والنوعي في نتائج الانتخابات. فعلى الرغم من انه لم يكن مفاجئاً للكثيرين أن يحرز التيار الصدري المركز الأول لصلابة وتنظيم قاعدته الجماهيرية، إلا أن أكثر المراقبين المحايدين تفاؤلاً لم يكن يتوقع حصوله على حوالي 73 مقعد في البرلمان القادم حسب النتائج الأولية للان! من جانب آخر لم يكن أحد يتوقع أن لا تستطيع القوى الحليفة لإيران (الفتح وحقوق) أن لا تحقق أكثر من 16 مقعد وبحوالي أقل من ثلث ما حصلوا عليه في الانتخابات السابقة مما يضعف كثيرا من قدرتهم على التأثير داخل قبة البرلمان. وعلى الرغم من حصول كتلة المالكي (المقرب من المحور الإيراني) على 37 مقعداً في مفاجأة كبرى أخرى، إلا أن الأداء السيء لحلفائه بما فيهم السنة أو الكرد، سيجعل من شبه المستحيل عليهم تشكيل الحكومة، حتى لو أرادوا ذلك. أما قوى تشرين والمستقلين فقد حققوا هم أيضاً مفاجأة كبرى وبرغم حملة المقاطعة الواسعة لجمهورهم للانتخابات عموما والتشكيك بجدوى خوضها أو حتى التصويت فيها! لقد حصل المستقلون وقوى تشرين على أكثر من 35 مقعداً (لا تزال النتائج غير نهائية) وبما يجعلهم في المركز الثاني أو الثالث في البرلمان إذا حدث واتفقوا على دخول البرلمان ككتلة واحدة رغم أن ذلك مستبعد.
نظرياً، فأن هذه النتائج تتيح للقوى المناهضة للتدخل الإيراني في الشأن العراقي أن تجمع بسهولة مع شركائهم من السنة والكرد، أكثر من نصف مقاعد البرلمان القادم وهو ما يؤهلهم للحصول على كل الرئاسات الثلاث (رئاسة الجمهورية، والوزراء، والبرلمان) وبشكل مناقض تماماً لما حصل في انتخابات 2018 التي سيطر فيها أنصار النفوذ البرلماني على الرئاسات الثلاث. من جانب آخر فأن هذا النجاح الكبير لقوى تشرين والمستقلين بخاصة في المعاقل التقليدية لقوى الإسلام السياسي في جنوب العراق (النجف وبابل وكربلاء والناصرية والديوانية) ينير شعلة أمل كبيرة كان العراقيون وبخاصة الثائرون منهم على الطبقة السياسية الحالية، بحاجة لها لاستعادة بعض من الثقة التي فقدوها بالنظام السياسي والتي جعلت درجة ثقتهم بالبرلمان بحدود 15% فقط فضلا عن نتائج الثقة المتدنية بمعظم مؤسسات الدولة التنفيذية والقضائية. ويقيناً فأن نتائج الانتخابات الحالية ستجعل كثير من ثلثي شباب الجنوب الذين قالوا أن الشارع وليس صندوق الانتخابات هو وسيلة التغيير الوحيدة، بخاصة وأن حتى أيران على ما يبدو غير راغبة بالتصعيد والاقتتال الداخلي العراقي بحسب استطلاع للرأي العام أجريناه مؤخراً، يعيدون النظر في قناعتهم تلك ويفكرون بالاشتراك مستقبلا في الانتخابات لزيادة تأثيرهم في العملية السياسية.
هنا يجب الإشارة الى عاملين رئيسيين في هذه النتائج: الأول والذي توقعته وأشرت له في مقال هنا قبل أقل من أسبوع، وهو دور مرجعية النجف. فبيان المرجعية في 29 سبتمبر، وما تلاه من فعاليات تحشيدية استمرت الى ليلة الانتخابات ساهم بشكل واضح في زيادة ما لا يقل عن 5-10% في مستوى المشاركة المتوقعة التي قُدرت ب 25-30% طبقاً لاستطلاعات الرأي التي أجريناها قبل ذلك التاريخ. هذه الزيادة ذهبت بالتأكيد للمستقلين والقوى الدينية الشيعية غير التابعة لإيران، بخاصة وأن دعوة المرجعية تلك ترافقت وتزامنت مع الإعلان عن حشد العتبات المقدسة الذي مثل رسالة واضحة ضد النفوذ الإيراني والتابعين له مما قلل حظوظهم بشكل كبير. أما العامل الثاني المهم في هذه الانتخابات فهو قدرة الحكومة العراقية على أدارة عملية انتخابية لم تسجل فيها أية خروقات انتخابية ممنهجة كالتي حصلت في انتخابات 2018. وعلى الرغم من الزوبعة الإعلامية التي أثارها الخاسرون في الانتخابات والذي ساعدهم عليه الأداء الإعلامي السيء لمفوضية الانتخابات، إلا أننا لم نشهد دلائل على التزوير الممنهج كما شاهدناها في انتخابات 2018. إن الضغوط التي يسلطها الخاسرون الآن على حكومة الكاظمي تجعلها إزاء اختبار ملحق ومضاف لاختبار الانتخابات. وإذا تمكن الكاظمي من الصمود أمام تهديدات الخاسرين وماكنتهم الإعلامية فسيحسب ذلك كأحد أهم اختبارات القوة التي نجحت فيها الحكومة إزاء من يحملون السلاح خارج الدولة. وسيمكننا حينذاك القول انه لو لم تكن للكاظمي وحكومته التي تحزم حقائبها الآن، من أنجاز سوى الانتخابات فأن ذلك يكفيها لتسجل لنفسها شرف القدرة على أدارة انتخابات نزيهة في ظل ظروف سياسية داخلية وخارجية بالغة التعقيد. كما يمكن حينذاك للكاظمي أن يفخر بأنه استطاع أن يستجيب لجزء مهم من مطالب انتفاضة تشرين.
أن السيناريو المتوقع حالياً هو البدء بإجراءات تشكيل ائتلاف حكومي بقيادة الصدريين ومشاركة ائتلاف الحلبوسي (رئيس البرلمان) والبارازاني وعدد كبير من قوى تشرين والمستقلين الفائزين فضلا عن بعض القوى الصغيرة الأخرى. هذا الائتلاف الذي سيتجاوز بسهولة عتبة النصف زائد واحد ويقترب كثيراً من أغلبية الثلثين في مشهد لم يعرفه البرلمان سابقاً سيسهل كثيراً تنفيذ معظم الوعود التي قطعها الصدر في خطاب النصر الذي قرأه ليلة أمس وأشار فيه بوضوح الى وضع حد للسلاح خارج الدولة ولنفوذ وتدخل القوى الخارجية في العراق. صحيح أن المالكي يحاول حاليا القيام بذات المناورة السياسية والقانونية التي مكنته في انتخابات 2010 من الحصول على رئاسة الوزارة وبمعونة إيران وإدارة أوباما على الرغم من انه حل ثانياً بعد علاوي في الانتخابات لكن لا الظروف السياسية المحلية ولا المؤثرين الخارجيين على ما يبدو لديهم الرغبة والقدرة على أنجاح مناورة المالكي.
ورغم أن التجربة السابقة في تشكيل التحالفات الحكومية بالعراق تجعلني متحفظ بشدة على تفاؤلي بخصوص إمكانية تنفيذ الوعود إلا أن ما يقلقني أكثر هو احتمالات التصعيد العسكري للقوى المسلحة التي خسرت الانتخابات. فقد بدأت هذه القوى بالتهديد فعلاً بقلب الطاولة على نتائج الانتخابات. ومع أن القدرات العسكرية الحالية للدولة العراقية تساندها قوة حشد العتبات وسرايا السلام الصدرية تجعل من احتمالات تصعيد الفصائل الخاسرة ضعيفة بخاصة وأن حتى أيران على ما يبدو غير راغبة بالتصعيد والاقتتال الداخلي العراقي، إلا انه ينبغي على الحكومة والمجتمع الدولي أن تبقى متيقظة، تجاه تلك الاحتمالات.