- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
الاقتصاد المصري: التحدي القادم للنظام
في الوقت الذي كانت فيه طائرة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي تعبر المحيط الأطلسي قاصدة مدينة نيويورك الأمريكية لحضور الدورة الـ74 للجمعية العامة للأمم المتحدة، اندلعت مظاهرات متفرقة في عدة مدن مصرية مطالبة بسقوط السيسي ومنددة بما وصفته بـ "حكم العسكر". وهذه هي المرة الأولى منذ تولى الرئيس السيسي مقاليد الحكم في البلاد الذي تحدث فيها تظاهرات هاتفه بسقوطه.
وعلى الرغم من أن تلك الاحتجاجات انتهت بسرعة، إلا أنها ربما تشير إلى حدوث نقلة نوعية في العلاقة بين القبضة الأمنية وبين المصريين الغاضبين من الوضع الراهن في الشارع المصري. ورغم محدودية المظاهرات إلا أنها خلقت حالة من التوتر لدى النظام المصري استوجبت إجراءات أمنية غير مسبوقة وحملة اعتقالات موسعة للحيلولة دون تكرارها. ورغم نجاح النظام في السيطرة على تلك التظاهرات إلا أنها تظل مؤشر يجب الوقوف أمامه.
بدأت القصة منذ ثلاثة أسابيع تقريبا حين ظهرت فجأة مجموعة من الفيديوهات لمقاول مصري مقيم في إسبانيا اسمه "محمد علي" تحدث فيها عن علاقة عمل تاريخية امتدت لقرابة الخمسة عشر عاما بينه وبين الجيش المصري، موجها اتهامات بالفساد لبعض قيادات المؤسسة العسكرية وللرئيس عبد الفتاح السيسي وأسرته. ورغم أن "محمد علي" مجهول تماما للجميع، ولا يحمل أي تاريخ معروف يجعله مصدر ثقة للمصريين، بل على العكس فنحن أمام رجل يعترف بانه كان جزء من منظومة فساد لمدة 15 سنة على حد زعمه، إلا أن فيديوهاته انتشرت كما النار في الهشيم، وأصبح المقاول المجهول بين عشية وضحاها الاسم الأبرز على منصات التواصل الاجتماعي، وهو ما دفع الرئيس عبد الفتاح السيسي شخصيا للتعليق على تلك الفيديوهات مدافعا عن شرفه وشرف المؤسسة العسكرية.
دفع الانتشار المذهل للفيديوهات وأثرها الواضح في انفعال السيسي، المصريين إلى التشكيك في ماهية "محمد علي" مستبعدين أن يكون مجرد شخص غاضب، بل مدفوع أو مدعوم من جهة ما ليكون جزءا من صراع المؤسسات السيادية على السلطة، وأن تلك الفيديوهات هي تهيئة للانقلاب الوشيك، في حين ذهب أنصار النظام الى أن الرجل لا يعدو كونه بيدق لجماعة الإخوان أو الحكومة القطرية يهدف للنيل من استقرار البلاد، لكنه استطاع الإفلات بالصدفة من مراقبة الرئيس والمؤسسة العسكرية.
وبغض النظر عن دوافع علي، تعاملت الدولة مع فيديوهاته بجدية وقلق بالغين فاشتبك الرئيس شخصيا مع الحدث معقبا ومدافعا - وشُنت حملة إعلامية عاصفة على "محمد علي" لفضحه وكشف نقائصه واعُتقل عدد من المعارضين البارزين مثل حازم حسني، حسن نافعة، خالد داوود و ماهينور المصري - وانتشر الأمن بشكل مكثف في محيط منطقة وسط القاهرة وتم تفتيش موبايلات المارة وبخاصة الشباب وتم احتجاز من يتبين انه ينشر أو يدعم "محمد على" - واغُلقت أربع محطات مترو في محيط ميدان التحرير يوم الجمعة التالي.
كما تم حشد عشرات الآلاف من المواطنين في مدينة نصر، أمام المنصة، التي شهدت مقتل الرئيس الأسبق محمد أنور السادات، لدعم الرئيس والتنديد بالإرهاب والتشديد على التصدي لمحاولات هدم الدولة. كما نشر بعض الفنانين والرياضيين حزمة من الفيديوهات التى عبروا فيها عن حبهم وتأييدهم للرئيس وثقتهم فيه.
ورغم أن عاصفة "محمد على" مر منها النظام المصري بسلام إلا أن الانتشار الرهيب للفيديوهات والاحتفاء المكتوم بها بين قطاعات عدة في الشارع المصري يشير إلى وجود أزمة ثقة بدأت في الطفو على السطح بين شريحة كبيرة من المصريين والمؤسسة العسكرية، الثقة التي لم تكن محل سؤال من قبل. تلك الثقة بالطبع لم تتلاش كلياً، لكن يبدو أن تغلغل المؤسسة العسكرية المصرية في الاقتصاد في عهد السيسي، جعل البعض ينظر إليها على أنها كيان اقتصادي عملاق هبط على الأسواق للاستحواذ والسيطرة.
ومن الجدير بالذكر أن اغلب من تم القبض عليهم في تلك التظاهرات والذين وصل عددهم إلى 3000 شخص تقريبا، كانوا شباب صغار السن غير مسيس ينتمي للطبقات الفقيرة التي تضررت بقوة من قرارات الإصلاح الاقتصادي التي اتخذها نظام السيسي. ومن ثم، فان الوضع الاقتصادي الذي يزداد صعوبة يوما بعد يوم وخصوصا على الطبقات الدنيا والتوسع في إسناد المشاريع الاقتصادية للمؤسسة العسكرية، فضلا عن القضاء على أي صوت معارض، وتأميم المجال العام، هو من مهد الطريق لعلى للوصول الى الملايين.
دلالات القصة كلها تشير إلى أن الاقتصاد بات التحدي الأخطر الذي يواجه النظام المصري حاليا، وهو ما أدركه السيسي ونظامه مؤخرا، حيث كتب الرئيس على صفحته الرسمية على الفيسبوك " أتفهم موقف المواطنين الذين تأثروا سلباً ببعض إجراءات تنقية البطاقات التموينية وحذف بعض المستحقين منها.. أقول لهم اطمئنوا لأنني أتابع بنفسي هذه الإجراءات وأؤكد لكم أن الحكومة ملتزمة تماماً باتخاذ ما يلزم للحفاظ على حقوق المواطنين البسطاء" ولم تمض 48 ساعة على تغريده الرئيس إلا وأعلنت وزارة التموين عن إعادة 1.8 مليون شخص إلى نظام دعم البطاقات التموينية.
وعلى نفس نهج الرئيس، فاجأت الحكومة الشعب بقرار جديد حيث قررت لجنة التسعير التلقائي للمنتجات البترولية في مصر، بخفض سعر بيع منتجات البنزين بأنواعه الثلاثة في السوق المحلية بـ 25 قرشًا للتر. كما ظهرت موجة من تصريحات المسؤولين المصريين شملت نواب ووزراء بل ورئيس البرلمان نفسه تتحدث عن معاناة المصريين الاقتصادية ومشروعية مطالبهم، مع وعود صريحة بتغير هذا الوضع.
المفارقة كانت تغير الخطاب في الإعلام الموالي للسلطة، حيث انقلبت النغمة السائدة في البرامج الحوارية فجأة من الحديث عن المؤامرة والتخوين، إلى الحديث عن مشروعية المطالب ومنطقيتها وحق الناس في حياة كريمة، بل إن عمرو أديب (المذيع الذي اختصه الرئيس بمداخله هاتفية يوما ما في برنامجه) تحدث عن حتمية الإفراج عن المعتقلين السياسيين ومعتقلي الرأي.
تصريحات الرئيس السيسي وحزمة القرارات الأخيرة التي اتُخذت بدا من إعادة ما يقرب من مليوني شخص للبطائق التموينية، وانتهاء بتخفيض سعر البترول للمرة الأولى في تاريخ مصر تشير بوضوح إلى أن النظام المصري أدرك أن الأزمة الاقتصادية هي مكمن الخطر الحقيقي عليه، وانه من المتوقع أن تشهد الفترة القادمة انفراجه اقتصادية ولو محدودة تستفيد منها الطبقات الأفقر في مصر، لكن هذا غير مقترن بالطبع بانفراجه على صعيد الحريات.